الخميس 25-04-2024 05:17:42 ص : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

بناء الدولة الحديثة.. أسس، قيم، أهداف، وغايات.. الحلقة الثانية: القيم السياسية

الخميس 11 إبريل-نيسان 2019 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي

 

قبل الحديث عن القيم أو الأخلاق السياسية، نحب أن نشير بإيجاز إلى مفهوم الدولة الحديثة، حيث تعمدنا تأجيل الحديث عن مفهوم الدولة الحديثة إلى هذه الحلقة لسببين، الأول، ضرورة تقريب فكرة الدولة الحديثة للقارئ من خلال مقدماتها النظرية وأسسها الحديثة، وهذا أوردناه في الحلقة السابقة.

والسبب الثاني، الوصول من خلال ما سبق إلى بلورة صورة أولية في ذهن القارئ يستطيع من خلالها استيعاب فكرة "مفهوم الدولة الحديثة"، ذلك أن فلاسفة الاجتماع السياسي لم يتفقوا على تعريف محدد للدولة الحديثة، بل لم يتفقوا على مفهوم محدد للدولة الحديثة، والسبب هو أن فلاسفة الاجتماع خضعوا لإكراهات واقعهم، سواء الموروث التقليدي أو التوجه الرأسمالي والحداثي أو الاشتراكي.

بصيغة أكثروضوحا، جاءت تعريفات الدولة الحديثة انعكاسا لتصوراتهم الفلسفية تجاه الهدف الذي وجدت الدولة الحديثة من أجله، فالفلسفة الرأسمالية ترى أن الهدف من وجود الدولة هو بناء الفرد.

أما الاشتراكية فترى أن الهدف من وجود الدولة إقامة حكم الطبقة العاملة ورفض الفرد. وبقية الفلاسفة اضطربت رؤاهم فلم يتجاوزوا هذين الهدفين.

- الفيلسوف المؤرخ المغربي د. عبدالله العِرْوي، المتمكن في تخصصه وصاحب التحليلات ذات العمق في فلسفة التاريخ، استعرض أقوال فلاسفة الاجتماع السياسي في أوروبا ورؤية ابن خلدون لمفهوم الدولة، لكنه مع ذلك لم يصل إلى مفهوم محدد للدولة الحديثة ناهيك عن تعريف جامع مانع.

لقد سعى العروي جاهدا لاجتراح مفهوم للدولة، مستلهما أفكار ماكس فيبر الألماني، كون فيبر عالم اجتماع بالممارسة، أي أنه أقرب إلى الواقع الحقيقي.

باختصار، لا يوجد تعريف محدد للدولة الحديثة، وإنما توجد تصورات إجرائية حول شكل الدولة كمؤسسات وفصل بين السلطات أو كجهاز إداري.

ومن خلال استعراضنا لأقوالهم المضطربة والغامضة، يمكننا استخلاص مفهوم ذهني تجريدي يساعدنا على رسم تصور تقريبي لمفهوم الدولة الحديثة فكرا وممارسة متمثلا في الصيغة التالية: مفهوم الدولة الحديثة هو "مجموعة نُظُم معقلنة قادمة من المجتمع تحدد سير أجهزة الحكم لحماية مصالح المجتمع داخليا وخارجيا".

ومن خلال هذا التصور نستنتج:

1ــ المفهوم التقليدي للدولة في تراثنا الفكري لا يتفق مع المفهوم الآنف للدولة الحديثة.

2ــ الدولة في المفهوم الحديث معناها الشيء الثابت، مثلا، المفهوم التقليدي للدولة كان مفاده:
دولة بني أمية، أو العباسيين، أو الأيوبيين، أو الأتراك، وهذا يعني أنه بمجرد ذهاب القبيلة الحاكمة تذهب معها النظم الإدارية... إلخ، وتأتى قبيلة أخرى بنظمها الإدارية على أنقاض سابقتها.

3ــ المفهوم الحديث للدولة يعني:

أ- أن هناك نظما راسخة ثابتة هي أسس الدولة، مثل ذراع الإنسان، ثابتة، لكن الملبوسات تتغير بأنواعها، وهذا يعني أن هناك مبادئ ثابتة، وهناك متغيرات متمثلة في الأشخاص الذين يحكمون، فليس هناك زواج أبدي بين شخص الحاكم والكرسي.

ب- دل المفهوم الآنف أن المجتمع متشبع بالقيم والأخلاق السياسية ثقافيا وعمليا لأن المجتمع هو المصدر للنظم والسلطة.

ج- دل المفهوم أن هناك تداخلا بين الأسس ومكونات البناء في الجانب النظري والعملي معا.

د- دل أن التغيير يكون دائما لصالح المجتمع وليس لصالح الحاكم.

بكلمة، مفهوم الدولة الحديثة يقوم على نوعين من المبادئ، الأول، مقدمات وأسس، وقد تكلمنا عنها في الحلقة السابقة. والثاني، أخلاق سياسية، هذه الأخلاق هي موضوع هذه الحلقة.

فما هي الأخلاق السياسية؟ الجواب: هي مكونات البناء، ذلك أن البناء هو مجموعة من المكونات والتي سنوضحها لاحقا.

ــ هذه المكونات يجب أن تترسخ في المجتمع حتى تصبح ثقافة سلوكية عملية.

ــ هذا السلوك العملي أطلق عليه المفكرون مصطلح
"الأخلاق السياسية"، لأنه يصبح أخلاقا معتادة.

ــ هذه الأخلاق السياسية تتجلى في ثلاثة أبعاد، هي: البعد الثقافي، والبعد التشريعي، والبعد الإجرائي العملي. والهدف من هذا التقسيم هو تبسيط مفهوم الدولة الحديثة.

نأتي إلى الأخلاق السياسية فنقول: الأخلاق السياسية تتمثل في المبادئ والمفاهيم والإجراءات التالية:

1ــ المرجعية: أي مرجعية القوانين والتشريعات، وإذا سلمنا بأن الشعب هو مصدر الشرعية السياسية، وأن مفهوم الدولة الحديثة يعني حماية مصالح الشعب، فإن أُولى المصالح هي:

ــ حماية حرية الشعب وكرامته وحقوقه.

ــ من لوازم حماية حرية الشعب وكرامته وحقوقه، انسجام السلطات مع هوية الشعب دينيا وثقافيا.

ــ على الشعب أن يعي هذا الدور المنوط به ويتخلق به حتى يصبح مبدأً حاضرا ذهنيا وعمليا.

وهكذا يجب على الشعب أن يعي دوره مع بقية الأخلاق السياسية، ذلك أنه إذا فُقِد الانسجام بين الحكومات وهوية الشعب فلا استقرار ولا تنمية ولا انقياد للقوانين.

بكلمة، أول الأخلاق السياسية أن تكون مرجعية التشريع هي عقيدة المجتمع ومقاصد الشريعة التي يدين بها.

2ــ دستور وقوانين مكتوبة يشارك في إعدادها الشعب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

3ــ تعددية سياسية: عرفنا أن الحرية هي إحدى أسس الدولة، وهذا يعني أن التعددية السياسية هي من لوازم الحرية، فالقبول بالتعدد لا بد أن يكون خلقا معتادا شعبيا وسياسيا.

4ــ التداول السلمي للسلطة: هذا الخلق السياسي يقول لنا باختصار إنه لا قيمة للحرية والتعددية السياسية بدون تداول سلمي للسلطة، بل لا يطلق على هذه السلطة مفهوم الدولة الحديثة عند فلاسفة الاجتماع.

5ــ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء: هذا الخلق من أبرز الضمانات في منع تغول السلطات وتقليم أظافر الاستبداد، وعلى الشعب أن يتخلق به ثقافيا وتشريعيا وسلوكيا.

ــ يتجلى هذا الخلق ثقافيا وعمليا في الخلق التالي وهو:

6ــ الرقابة الشعبية: هذ الخلق الرقابي هو من أبرز صمامات أمان المجتمع، وعلى الشعب أن يعي هذا جيدا ويمارسه عمليا ويقوم بمحاسبة السلطات عند انحرافها.

7ــ مجتمع مدني: هذا خلق سياسي ثقافي، وفي ذات الوقت هو الوسيلة التنفيذية للرقابة الشعبية، ولا عبرة بدعوى دولة حديثة أو دولة مدنية بدون وجود مجتمع مدني.

  

ملاحظة هامة
- إحدى النظريات السياسية تريد أن يكون المجتمع المدني أقوى من السلطة.

ــ نظرية أخرى ترى أن المجتمع المدني يكون في كنف السلطات.

ــ نظرية ثالثة ترى أن يكون المجتمع المدني متفاعلا مع السلطة متعاونا معها في تقديم الرؤى البديلة والحلول الأفضل التي تخدم شرائح المجتمع ولا تضر مقدرات الأمة، وهذه أفضل النظريات، ولا نريد التوسع أكثر.

8ــ التمثيل السياسي: التمثيل السياسي للشعب بكل فئاته وشرائحه في البرلمان والمجالس البلدية والمجلس الاستشاري، فهناك ما يسمى نظام الغرفتين أي غرفة البرلمان والمجلس الاستشارى، فالأخير يمثل المحافظات والأقاليم ويكون بالانتخاب وليس بالتعيين من رئيس الدولة، حتى لا يصبح ألعوبةً بيد صاحب القرار.

9ــ الولاء للأمة: الولاء للأمة واحترام إرادتها، هذا الولاء لا بد أن يكون خلقا ثقافيا وعمليا لدى الشعب والبرلمان ومجلس الشورى ومنظمات المجتمع المدني وكذلك الجهاز التنفيذي للسلطة.

الجدير ذكره أن نظام الغرفتين، البرلمان والمجلس الاستشاري، ورد مضمونهما في القرآن، فالبرلمان ورد مضمونه في النص: {وشاورهم في الأمر}، (آل عمران : 159).

ــ المجلس الاستشاري ورد مضمونه في الآية: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، (النساء : 83).

باختصار، المجلس الاستشاري يجب أن يتضمن شخصيات ذات باع في التخصص والتجارب في شتى مناحي الحياة، كي يقدم دراسات للقضايا الإستراتيجية العامة ثم يستنبط الرؤية الأنسب، ثم يتم عرضها على البرلمان.

10ــ حضور حقوق الإنسان وكرامته: هذا الخلق السياسي يجب أن يكون حاضرا ثقافة وسلوكا لدى الشعب والسلطة في آن، وفي حالة أي مساس بكرامة الإنسان وإحدى حقوقه يجب أن يقف الجميع ضد هذا المساس.

11ــ إعلام حر بعيدا عن هيمنة السلطة: هذا الخلق هو لسان حال الشعب، ولا بد أن يؤدي دوره بمسؤولية ومهنية عالية النزاهة وفق ميثاق شرف متفق عليه بين شريحة الإعلام والسلطة ومنظمات المجتمع المدني.

12ــ الجيش والأمن: هاتان المؤسستان يجب ضرورة تنشئتهما على عقيدة الله وحماية الوطن، بالنسبة للجيش، وعند اختلاف البرلمان والحكومة فواجب الجيش أن يقف مع الدستور.

الله وحماية المواطن هذه عقيدة الأمن، لكن المؤسف حقا لا بد أن نقولها وبمرارة: إن خريج الشرطة يهان بأقذع الكلمات من القائمين على تكوين ضباط الأمن، وبالتالي فما الذي نتوقعه من هذا الضابط بعد تخرجه غير إهانة المواطن لا غير وابتزازه وظلمه؟

ــ كم هو رجاؤنا في القائمين على محاضن تكوين الضباط، كليات أو معاهد، أن يتجاوزوا هده الأساليب اللاإنسانية، بل ويدفنونها.

وليس أخيرا، الشورى هي أمُّ الأسس في بناء الدولة، وإن شئت قل هي أم القيم السياسية.

ــ مفهوم الدولة الحديثة يعني أن السلطة مصدرها المجتمع، الأمر الذي يعني أنه
من حق الأمة أو الشعب أن يتخذ التدابير الأكثر ضمانة في تحقيق مصالحه وحمايتها، وتجفيف منابع الاستبداد وتفكيكه، وتقليم أظافر السلطات حتى يأمن تغولها.

ــ بناء الدولة الدولة الحديثة يعني أداءً أفضل من الحكومات في تحقيق الأهداف والوظائف المنوطة بها تجاه المجتمع.

هذه الوظائف والأهداف والغايات هي موضوع الحلقة الثالثة والأخيرة.

كلمات دالّة

#اليمن