الخميس 28-03-2024 22:48:12 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

الدولة المدنية.. دراسة مقاصدية (الحلقة الثانية)

الأحد 20 يناير-كانون الثاني 2019 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي

 

المدينة في الاستعمال القرآني وتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم

ملحوظتان: الأولى، لقد اخترنا أن تكون مناقشة مصطلح الدولة المدنية و"حكمها الشرعي" في ضوء فقه المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وهذا ما تم في الحلقة الأولى، وفي هذه الحلقة ستكون المناقشة مقاصديا، ولكن في ضوء مقاصد القرآن، ومن المعلوم أن مقاصد القرآن أوسع من مقاصد الشريعة، وإن كان المقصدان يلتقيان في النهاية عند الغايات.

والملاحظة الثانية، أن الفقيه، أي فقيه، إذا استدعاه الواقع أن ينظر في قضية مستجدة سواء كانت محلية 100% أو وافدة 100% أو أقل، فإن عليه: أولا، النظر في المآلات، أي النتائج المترتبة على تطبيق هذه القضية أو إهمالها، فإن وجد إيجابية راجحة من خلال النظر في النتائج أصدر الحكم الفقهي بالجواز أو الوجوب، وهذا ما قمنا به في الحلقة الأولى، والعكس إن وجد مفسدة راجحة، ثم إن الخطاب المقاصدي في الحلقة الأولى الهدف منه مخاطبة العقل المجتمعي العام.

ثانيا، أحيانا يحتاج الفقيه إلى مزيد من البيان مع الفقهاء انطلاقا من مفردات وسياقات القرآن ومفردات السنة، فإن وجد ما يسعفه في المفردات فهو المطلوب، وما لم فعليه الاتجاه إلى مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذان المجالان سنقف من خلالهما في هذه الحلقة بعونه سبحانه.

  

تنبيه

قد يعترض القارئ قائلا: مفهوم المدنية غير مفهوم المدينة. وكلامه هنا سليم من حيث اللفظ، لكن من حيث الجذر اللغوي هو واحد (مَـدَنَ)، والمدنية منتسبة إلى المدينة، فهي في الأصل مدينية، ولكن تخفيفا حذفت الياء الأولى فقيل: مدنية نسبة إلى المدينة.

من حيث المضمون نجد أن المدنية والمدينة يلتقيان عند أهم مكونات الدولة المدنية وهو التعددية، كما سنوضح لاحقا.

وإذا تأملنا الاستعمال القرآني لمفردة المدينة، سنجد مقاصد الاستعمال القرآني في غاية الدقة، وفي النهاية تلتقي مع مقاصد الشريعة. وصدق الله القائل: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}. وعليه، سنتطرق بإيجاز إلى مفردة "المدينة" كما يلي:

1- من المعلوم أن مكة حاضرة اقتصادية ودينية واجتماعية، كونها ذات موروث عريق يتصل بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، بل في إشارة قرآنية أن البيت قد وضع قبل إبراهيم عليه السلام.

وإشارة أخرى في قوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت...}، التبوء هنا غير التحديد، ذلك أن التبوء يعني الوصول إلى مكان معروف سلفا، ومنه تبوأ فلان على سدة الحكم.

2- مع هذه العراقة لمنطقة مكة، نجد أن القرآن سماها "قرية"، في قوله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك}.

3- بالمقابل، من المعلوم أن يثرب هي مجموعة خيام من شعر ومن جريد النخل، وفي أفضل الحالات بيوت من الطين، وهذه البيوت منتشرة على ضفاف وادي (سائلة)، وهو وادي موبوء، غير أن القرآن لم ينظر إلى البساطة، وإنما أطلق على هذا المجتمع مصطلح "المدينة"، فقال: {ما كان لأهل المدينة...} (التوبة). وقال: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة...} (المنافقون).

4- هل جاءت التسمية القرآنية اعتباطا مخالفة للعرف؟ الجواب: ليس اعتباطا، وإنما ترسيخا لعرف ثقافي جديد انطلاقا من معارف الوحي ومن تشبع المجتمع الإسلامي بثقافة إسلامية جديدة.

فثقافة الوحي لا تنظر إلى أشكال المباني (الجدران) ولا الأرصفة والشوارع، وإنما جاءت معارف الوحي موجهة عنايتها إلى البشر قبل الحجر.

ثقافة معارف الوحي تتجه إلى قيم إنسانية وحضارية واجتماعية، أولها وأبرزها قيمة التعدد والتعايش القادمة من الانتماء إلى حيز جغرافي محدد، اتفق سكانه على قيم إنسانية ناظمة لحياتهم الاجتماعية، مستندة إلى الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة.

5- مكة كانت عشائر مختلفة لكنها تعيش حياة ثقافية وثنية وبقايا مشوهة من الحنيفية السمحة. إذن، ليس هنا اختلاف وتعايش قادم من ثقافة محل اقتناع سكان مكة، وإنما تعايش فرضه توازن القوى لا غير.

6- قد يقال هذا تفسير اعتباطي لموضوع المدنية ولا نسلم لهذا التفسير إلا بدليل من الاستعمال القرآني. والرد كما يلي:

أ- {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية...}. تأمل أيها القارئ قوله "القرية"، تابع القراءة إلى أن تصل إلى قوله سبحانه: {وجاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى...}.

الرسل ليسوا من القرية، كونهم بلغوا وعادوا أدراجهم، لكن الرجل القادم مسرعا من أقصى القرية/المدينة هو من أهلها، وعندما أصبح داخل القرية معتقدَيْن متناقضَيْن أصبحت مدينة. إذن، وجود الرأي المخالف هو أحد مكونات المدنية.

ب- {حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها...}، نتابع التلاوة وسنصل إلى قوله سبحانه: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا...}.

الآن عند دخول موسى والعبد الصالح إليها كانت قرية تحكمها ثقافة واحدة، علما بأنه في غابر التاريخ كان جد اليتيمين صالحا، وكان سكان تلك القرية -جلهم أو بعضهم- يخالفون أصحاب الدين السماوي، هنا سماها القرآن مدينة كما كانت في غابر التاريخ بخلاف اليوم فهي قرية.

7- {ودخل المدينة على حين غفلة...}، المدينة هنا مصر الفرعون، وكانت فيها ديانات عدة قبطية وسحرة مخلوطين بثقافة دين سماوي وتخريف، وكهانة الكهان أيضا مختلفة بين ديانة سماوية من بقايا يوسف ويعقوب، وخليط من سكان فلسطين ذي الديانة الإبراهيمية.

وهنا نعرف سر الحشر الفرعوني عندما سمع أن موسى يتحرك في أوساط بني إسرائيل، كما قال سبحانه: {فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى}. بل وصلت وقاحة الفرعون أن قال لموسى، كما ورد في قوله تعالى: {لئن اتخذت إلٰها غيري لأجعلنك من المسجونين}. باختصار، أراد القضاء على الأديان كلها ليكون هو على رأسها وهو مرجعيتها.

الشاهد أن القرآن سمى مصر يومها "مدينة" لسبب الاختلاف الثقافي والعقدي.

  

الخلاصة

1- الاستعمال القرآني لمفردة "مدينة" لم يأتِ اعتباطا.
2- التقى مضمون مفردة "المدينة" في الاستعمال القرآني مع أبرز مكون للدولة المدنية الحديثة والمتمثل في الحرية والتعدد.

وعليه، فلا خوف من استعمال مصطلح الدولة المدنية واعتماده كمصطلح للنظام السياسي المنشود، لأن القرآن استعمله، بل والتقى مضمون القرآن مع المصطلح الجديد.

  

مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم

1- لم يكد يستقر الرسول صلى الله عليه وسلم في يثرب حتى قام بحراك ثقافي حول إنشاء وثيقة المدينة، والتي كانت بمثابة أول دستور عبر تاريخ الجزيرة، كما قال تعالى: {لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم...}.

2- تجلت القيم الحضارية الإنسانية في وثيقة المدينة اعتقادا وإجراءً قانونيا وسلوكا.

3- إذا اقتربنا أكثر لنقرأ ما بين سطور وثيقة المدينة سنجد كل "المضامين" التي أوردناها في مفهوم الدولة المدنية في الحلقة الأولى، وذلك على النحو التالي:

أـ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى المدينة إلا ببيعة صريحة كما هو معروف في السيرة، واشترك في البيعة الجنسان، ولم يقل أنا رسول اختارني الله.

نعم اختاره للرسالة وهذا ليس محل النزاع، وإنما حديثنا عن قيمة انتماء إلى حيز جغرافي محدد، وهذه إحدى ركائز الدولة، وفي ذات الوقت تعكس مضمون مصطلح "المواطنة".

ب- إذا كان المسلمون مؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لا يعطيهم التفرد بالحق في البيعة والحماية داخل المدينة، ذلك أن هناك قبائل وعشائر غير مسلمة ولكنها تنتمي إلى هذا الحيز الجغرافي، وبالتالي فلها حق الانتماء والمواطنة، الأمر الذي يعني أن الحرية والمساواة مكفولة فطريا للجميع انطلاقا من مبدأ الكرامة، كما قال تعالى: {ولقدم كرمنا بني آدم...}، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء لترجمة هذه الفطرة عمليا وليس شفويا وإنما كتابيا (دستور مكتوب)، وهذا ما توصلت إليه الدولة المدنية الحديثة.

ج- إذا تأملنا بعضا من نصوص وثيقة المدينة سنجد -مثلا- بنو الحارث أمة من اليهود يتعاقلون فيما بينهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.

هذا النص تعدد وروده في وثيقة المدينة بعدد الفصائل والبطون والعشائر القاطنة في المدينة من مسلمين ومهاجرين وأنصار أوسهم وخزرجهم، ومشركي الأوس والخزرج، وكذلك اليهود، معطيا كل شريحة ممن سبق حقوقها الكاملة في الاحتكام إلى عُرفِها وثقافتها.

د- الأهم مما سبق هنا أننا نجد أنفسنا أمام سؤال افتراضي على غاية من الأهمية، وهو: كيف رضي اليهود والمشركون بمرجعية النبي صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف؟

والجواب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم هو بكتابة الوثيقة ولا المسلمون، وإنما بدأ بالتوعية حولها لشهور حتى تم الاقتناع مبدئيا بكتابة الوثيقة، كون هكذا وثيقة كانت غير مألوفة وسط البيئة القبلية البدوية المتنقلة.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أوكل كتابة الوثيقة إلى كل شريحة، كونها صاحبة المصلحة الحقيقية فتكتب ما تراه يحمي حقوقها.

ظل التشاور والكتابة جاريين لعدة شهور، وهذ بمعيار اليوم مفهوم الاستفتاء، بل أكبر من ذلك، وهو الصياغة المباشرة للقانون من قبل المواطنين، وفي ذات الوقت هذا التصرف النبوي عكس قيمة المواطنة المتساوية أيضا.

ويرى بعض المستشرقين أن التوقيع النهائي على وثيقة المدينة كان في السنة الخامسة للهجرة، بدليل أن ثلاث قبائل من اليهود لم يرد ذكرها في الوثيقة، وهي بنو النظير وبنو قينقاع وبنو قريظة. وهذا يعني أن طول مدة التعاطي مع الصياغة والاستفتاء، عكس حرية وشفافية تامتين داخل المجتمع المدني.

هنا يمكننا القول إننا قد اقتربنا من إجابة السؤال الافتراضي الآنف: كيف رضي اليهود والمشركون بالمرجعية العليا المتمثلة بالله والرسول صلى الله عليه وسلم؟

والجواب: بما أن الجميع حصلوا على المدة الكافية للتعاطي مع صياغة الحقوق والضمانات الكافية، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خير معين لهذا التعاطي القيمي الحضاري المتريث، فليس هناك أدنى شك أو ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاز على ثقة الجميع بأن يكون هو المرجعية.

  

الخلاصة
1- القرآن دستور المؤمنين مهاجرين وأنصار.
2- الوثيقة دستور المواطنين عموما مسلمين وغير مسلمين.

 

تجسدت القيم الإنسانية والحضارية على الواقع وهي كالتالي:
1- الكرامة.
2- الحرية.
3- المساواة.
4- حق الأمة في ولايتها على نفسها.
5- حق الاستفتاء.
6- حق الاشتراك المباشر في صياغة القوانين.
7- المواطنة مرتكزها هو الانتماء إلى الحيز الجغرافي.
8- التعايش.
9- حق الاحتكام كلٌّ إلى عرفه ومذهبه.
10- النظام الإداري المتمثل في النظام الفيدرالي المصغر (كل شريحة أمة مستقلة).
11- الدفاع المشترك عن الدولة.

وعليه، فلا خوف من استعمال مصطلح الدولة المدنية انطلاقا من المرتكز والمكون الأول وهو احترام إرادة الأمة والولاء لها عقديا وثقافيا وحضاريا.

  

ما العمل؟

1- مطلوب من المجتمع أن يكافح في سبيل الحريات العامة قبل كل شيء، فهي الحامل لكافة الحقوق وهي معراج النهوض الحضاري في كل المجتمعات.

2- إذا تحققت الحريات العامة فلا خوف من العلمنة الدستورية والقانونية، فالمجتمع سيدافع عن هويته بلا تردد.

3- على المجتمع المسلم أن يتأسى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في تجسيد القيم والاحتكام إلى السنن في النفس والاجتماع التي تخدم مصلحة الشعب.

4- إذا سلكنا سبيلا غير هذا السبيل سنكون قد سلكنا فجاج التيه مئة عام أخرى وسنصل إلى اللاشيء، والشاهد هو ما جنيناه في القرن العشرين.

كلمات دالّة

#الدولة_المدنية