الثلاثاء 19-03-2024 08:48:37 ص : 9 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

الإماميون والمعاهد العلمية.. العنف والتطرف ضد السلم والتعايش (1-2)

الإثنين 12 نوفمبر-تشرين الثاني 2018 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص

 

مثلت المعاهد العلمية في أواخر القرن الماضي أهم مشروع إستراتيجي للنهوض العلمي باليمن وأحد أهم ركائز التعليم العام التي نهضت بالمجتمع اليمني لمحاولة إيجاد معادل موضوعي للتعليم الطائفي الذي نشرته الإمامة في اليمن طيلة ألف ومائتي عام، على الرغم من أن منهج المعاهد العلمية استطاع أن يستوعب الآراء الفقهية المتعددة للمدارس التاريخية اليمنية بمنهج وسطي معتدل وجد فيه اليمنيون -سنة وشيعة- ضالتهم التعليمية بمعزل عن أي عصبيات أو فوارق.

كان منهج تلك المعاهد وسطياً يأخذ بالآراء الفقهية السنية المختلفة والآراء المعتدلة من الزيدية، وساعد ذلك على انتشارها في مختلف أرجاء اليمن بما فيها المناطق التي تحسب تاريخياً على الغالبية الزيدية كصعدة وما جاورها.

وكانت مناهجها مكثفة في الجانب الفقهي الإسلامي والجانب اللغوي (العربي) من نحو وبلاغة وعلوم العربية حتى إن طالباً خريجاً للمعاهد العلمية المتوسطة يفوق في هاتين المادتين خريجاً جامعياً.

اليوم ونحن نعيش هذه المأساة الانقلابية من تدمير التعليم وملشنته وتطييفه والتسيب العلمي، واجتثاث السنة من صعدة ومحاولة الحوثيين طمس هوية اليمنيين وخاصة في مناطق شمال الشمال بقوة الحديد والنار نفتقد تلك المعاهد ونشاطها وعلمها، فقد كانت السد المنيع أمام تغول التعليم الطائفي الإمامي عبر التاريخ، وما الجانب التنويري في البيئة القبلية في مناطق شمال الشمال إلا نتاجًا لوهج تلك المعاهد في نشر التعليم والثقافة وانتشال القبائل من ظلام الجهل إلى نور العلم والمعرفة والثقافة والانفتاح على كافة مكونات المجتمع اليمني.

   

المعاهد العلمية والإماميون الجدد

كان التيار الإمامي يرى في المعاهد العلمية التي أسستها الدولة عام 1974 خطراً كبيراً على أيديولوجيتهم العنصرية؛ لأن المعاهد العلمية ساحت في كل المناطق اليمنية وخاصة الأرياف منها وصولاً إلى صعدة، تنشر الدعوة الإسلامية الصحيحة القائمة على أساس الكتاب والسنة بعيداً عن الغلو والتطرف والتعصب المذهبي.

ومع إقبال الكثير من الطلاب على هذه المعاهد وما مثلته من حركة تنويرية قضت على العصبويات الجاهلية مثل التعصب السلالي والمناطقي والطائفي، واندماج الطلاب مع بعضهم وتآلفهم، رغم أن مناهج المعاهد العلمية هي مناهج وزارة التربية والتعليم المعتدلة والوسطية التي لا تميز بين فقير ولا غني ولا مذهب على آخر، إلا ما كان منها من اختلاف بسيط في شيئين اثنين؛ هما: تكثيف المواد الإسلامية من قرآن ومواد فقهية ودعوية، وتكثيف مواد اللغة العربية، وكذلك التسكين الداخلي ببرامج إرشادية مختلفة مع كفالة هؤلاء الطلبة في معيشتهم، الأمر الذي لا يختلف عن المدارس الإسلامية اليمنية في العهد اليمني الوسيط وخاصة أيام الدولتين الرسولية والطاهرية، قبل أن تظهر عصى شرطي النظام العالمي الجديد في تصنيف الناس والمناهج والتعليم إلى إرهابيين ومعتدلين.

كما كانت تلك المعاهد تخضع لمؤسسات الدولة وبإشراف وزارة التربية والتعليم وتتلقى موازنتها التشغيلية من نفس الوزارة ومن الحكومة اليمنية مع بعض الإشراف المنهجي والتربوي لمعلمين تربويين محسوبين على الحركة الإصلاحية الإسلامية التي تأتي امتدادا للحركة الإصلاحية اليمنية من عهد الشوكاني وابن الأمير الصنعاني وغيرهم.

هذا التوسع الدعوي، ونشر المعاهد العلمية، رآه التيار الإمامي من زاوية ضيقة جداً وهي زاوية الزحف المذهبي على ما يسمونه مناطقهم التاريخية، وخوفهم من تمدد السنة على حساب الشيعة في صعدة وعمران وحجة وصنعاء وذمار التي يعتبرونها مناطقهم التاريخية، واعتبروه استفزازاً لهم، غير أن الأمر لم يكن كما يصوروه؛ إذ إن هذه المناطق لم تكن زيدية شيعية غالبة وإنما التسلط السياسي كان لهم، بينما الثقافة التاريخية والعقيدة الإسلامية هي العقيدة السنية الخالصة المتمثلة بالمذهب الشافعي.

   

مجلس الحكماء يحارب المعاهد

بعد أن تسلم اللواء يحيى الشامي مهام عمله كمحافظ لمحافظة صعدة عام 1985م شرع في تنفيذ المهمة على الفور، فكانت أول زيارة له كمحافظ خارج المدينة إلى مركز دماج حيث التقى بالشيخ مقبل بن هادي الوادعي، انذهل الرجل أثناء زيارته لدار الحديث من النشاط القائم في الدار، فوجد طلبة علم من كل أنحاء الجمهورية مع تواجد بسيط لبعض الجنسيات، كل هؤلاء الطلبة يقيمون في مبنى مخصص للسكن وتقدم لهم ثلاث وجبات يومياً من خلال مطبخ مركزي يفوق في إمكاناته المطابخ المركزية في المعسكرات الكبرى"(1).

عاد اللواء الشامي من زيارته لدماج ليكتب تقريراً مفصلاً عن نشاط المركز في دماج ونشاط المعاهد العلمية التابعة للدولة، وبالغ في وصفها، وقدم في تقريره تصوراً بضرورة تحصين الهوية الوطنية متمثلة في المذهب الزيدي (حد وصفه) من خلال إنشاء مكون شبابي يناط به مهام التصدي للغزو (الوهابي) الآتي من الحجاز ونجد(2).

كان تقرير الشامي موضوع النقاش في الاجتماع التالي لمجلس حكماء آل البيت، والذي عقد أثناء موسم الحج في مكة عام 1986م بمن حضر من الأعضاء وبرئاسة المؤسس أحمد محمد الشامي، وضع المجتمعون في هذا الاجتماع خطتين: الخطة المعجلة (أ) والخطة المؤجلة (ب) قضت الخطة الأولى بضرورة تحرك (علماء المذهب) في جميع المحافظات الزيدية لتحريض أتباع المذهب ضد هذه المعاهد والمراكز (الوهابية) كما كانوا يسمونها والتي تشكل الخطر الأكبر على المذهب الزيدي باليمن حسب وصفهم، وخلال الأعوام من 1986م وحتى قيام الوحدة عام 1990م بدأت المضايقات للمعاهد العلمية ومركز الحديث في دماج من خلال الحصار أحيانا والاعتداء المباشر بالنهب والإغلاق أو الاعتداء على المدرسين والطلاب بالضرب كما حدث في أكثر من مكان.

ولعل أبرز تلك الأحداث ما حدث في مديرية المحابشة عام 1987م من فتنة أوقدها المدعو صلاح بن أحمد فليتة (والد المدعو محمد عبدالسلام الناطق الرسمي باسم المتمردين) (3).

   

اليسار والإماميون

لقد كان الإماميون ينظرون بنفس المنظار الذي نظر به اليساريون في اليمن؛ إذ كان اليساريون اليمنيون بعد الوحدة وحتى قبلها، يرون أن هذه المعاهد هي التي تتكئ عليها الحركة الإسلامية في اليمن، مع أنه ليس كل من التحق بالمعاهد العلمية صار بالضرورة إسلامياً مواليا للحركة الإسلامية اليمنية، لكن الكيد السياسي كان ينظر لكل شيء فيه جانب إسلامي مميز على أنه يمثل خطراً على الوجود اليساري، وبنفس الرؤية للتيار الإمامي.

كان اليسار ينظر إلى هذه المعاهد أنها أكبر جناح نصير للإسلاميين الذين واجهوهم في حروب المناطق الوسطى -نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات- التي تصدت لتغلغلهم العسكري ومحاولة قلب نظام الحكم في الشمال، وظنوا أنه بإلغاء هذه المعاهد سيقضون على الحركة الإسلامية أو إضعافها وإزالة عقبة كؤود من طريقهم، ولذلك حينما ألغيت هذه المعاهد عام 2001، ولم يجدوا بغيتهم من إلغائها، عمدوا إلى الحديث عن مؤسسات أخرى على غرار ما حدث للمعاهد العلمية.

اتحد التياران -الإمامي واليساري- في نظرتيهما ومحاربتهما للمعاهد العلمية بحجة توحيد التعليم وعدم تخريج (إرهابيين) على حد زعمهما، وسعى الطرفان -بكل قوتهما ونفوذهما ومؤسساتهما- وراء إلغاء المعاهد العلمية، وكان أحد شروط اليسار لإنجاز الوحدة مع الشمال إلغاء هذه المعاهد و"توحيد التعليم" مقابل إلغاء المدارس ذات التوجه اليساري.

لذلك سعى الطرف الإمامي ممثلاً باللواءين يحيى الشامي ويحيى المتوكل عبر نفوذهما في نظام علي صالح وبخاصة في حزب المؤتمر الشعبي الحاكم، للضغط بكل قوة لإلغاء المعاهد العلمية، ووجدو مساندة كبيرة من جانب حلفائهم اليساريين وخاصة بعد أول انتخابات نيابية عام 1993؛ إذ كان ثمة تفسيرات ترى أن الإصلاح حصد المرتبة الثانية بفضل تلك المعاهد وليس لأسباب أخرى، وغاب عن أولئك أن الكثافة السكانية في الشمال هي التي لعبت دوراً بارزاً في هذا الأمر وليست المعاهد العلمية.

أضف إلى ذلك أن المزاج العام في المنطقة كلها بعد سقوط الشيوعية والاتحاد السوفييتي كان يميل نحو الأفكار الجديدة كالاقتصاد الحر والصحوة الإسلامية العالمية بعيداً عن الأيديولوجيات القديمة التي كانت الاشتراكية إحداها.

كان اللواء يحيى المتوكل -وزير الداخلية- رأس هذا التيار الإمامي الذي تبنى بكل قوة العمل على إلغاء المعاهد العلمية من خلال موقعه كأمين عام مساعد في الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام)، ولما تم إلغاؤها تنفس الصعداء كجبهة تم التخلص منها ليتم التحرك في جبهة أخرى موازية وضعت نصب عينيها محو جامعة الإيمان ومعهد دار الحديث بدماج من الوجود، وقد تم لهم ذلك -للأسف- مع تغول الحركة الحوثية في اليمن التي مثلت الحاضنة لفكر الإرهاب والتطرف الذي تفجر في طول البلاد وعرضها ليباشر مهمته على الفور في تدمير اليمن ونسيجه الاجتماعي ويمزق مشروع السلم والتعايش الذي ظلت المعاهد العلمية تبنيه لعقود.
.....................................

  

هوامش:
1،2،3 - التنظيم السري للهاشمية السياسية وتفاصيل هامة عن اللواء يحيى الشامي (ثعلب الهاشمية السياسية)، د رياض الغيلي، موقع الحدث، الثلاثاء 7 يونيو 2016.