الجمعة 19-04-2024 05:50:24 ص : 10 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

المهلكات الحضارية الكبرى .. غياب مجتمع الرشد (الحلقة الرابعة)

الإثنين 05 نوفمبر-تشرين الثاني 2018 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي


             


مقدمة

أولا: الرشد في القرآن الكريم.. أبعاده ودلالاته

قال تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله واسع عليم". (سورة البقرة، الآية 256).

في هذا النص القرآني دلالات وأبعاد تشريعية كثيرة، غير أن الكاتب سيقف بإيجاز عند الأبعاد الأربعة التالية:

البعد الأول: حرية الاختيار، وهذا البعد جاء محمولا بل وملازما للجملة الأولى من النص وهي: "لا إكراه في الدين".

البعدالثاني: التأكيد على مكانة وأهمية الرشد الفردي والجماعي، كون القرآن هادٍ إلى الرشد، وهادٍ إلى الطريق التي هي أقوم، فالله أرشد الأمة للتي هي أقوم، ولم يكتفِ بإرشاده للأمة، بل أنزل نصا صريحا قاطعا في الدلالة أنه لا خطاب ولا تكليف على مُكره أبدا، وتجلت حكمة الله في النص فجاء بصيغة جملة خبرية "لا إكراه في الدين"، مما يعني أنها قضية لا مجال فيها للتأويل.

البعد الثالث: الكفر بالطاغوت، والطاغوت يعني إما صنم من البشر أو من الحجر، وجماعة أيدلوجية أو فكرة بشرية.

البعد الرابع: توحيد الله، وهنا دلالة بديعة في غاية الأهمية مفادها أن تنظيف القلب والوجدان والفكر والمشاعر والتصور من الطاغوت، له الأولوية، لأنه لا ينبغي للتوحيد أن يجاور تقديسا للطاغوت أو أي مظهر يتصل بالطاغوت. فالتخلية أولا، ثم التحلية، تلك هي باختصار الأبعاد الدلالية للنص.

 



ثانيا: مفهوم النص

أعني بمفهوم النص أنه المعنى غير الحرفي الملازم للدلالة الحرفية، والمتمثل في الآتي:

أ- الحرية أولا، فلا اعتقاد ولا تشريع ولا عقود إلّا بحرية الاختيار.

ب- لا حرية بدون رشد، فالرشد درجة تأتي بعد بلوغ الحلم، والدليل هو: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم".

ج- الطاغوتية هي الاستبداد وهي العلو والتسيد الإبليسي الموصل إلى الإفساد السياسي المهلك للحرث والنسل، نموذج فرعون: "اذهب إلى فرعون إنه طغى". "إن فرعون علا في الأرض"، إلى قوله تعالى: "إنه كان من المفسدين".

د- إصلاح الاجتماع السياسي له طريقان، إما طريق الإصلاح الرأسي وهذا الطريق قلّ أن يحالفه النجاح. والطريق الثاني السعي إلى تكوين مجتمع الرشد "أن ارسل معي بني إسرائيل"، وهو تطبيق للقاعدة الفلسفية التي رسمها الاجتماع القرآني: "حتى يغيروا ما بأنفسهم".

هـ- التوحيد لن يكون خالصا ولن يؤتي ثماره إذا تعايش مع الطاغوت، وإذا عجز الموحد فهناك مقاومة سلبية تجاه الطاغوت وهي الهجرة "كنا مستضعفين في الأرض قال ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها..."، وينتهي النص بوعيد شديد تجاه القادرين على الهجرة ولم يهاجروا، بأن مأواهم جهنم وساءت مصيرا". (سورة النساء، الآيتان 97 - 98).

وهذا هو الخط القرآني العام، حيث استثنى القرآن حالات المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وهم الرجال العاجزون أو النساء والعبيد والجواري والأطفال.

 

خلاصة ماسبق:
- القرآن جاء لإقامة مجتمع الرشد، والدليل هو أن الله أسند ولاية المجتمع وتدبير شأنه إلى المجتمع ذاته لا غير. يقول تعالى: "وأمرهم شورى بينهم"، فالشورى مبداٌ قرآنيٌ منظِّمٌ لأهم قضايا الاجتماع السياسي وهي الحكم، كون الحكم الفردي المستبد أفسد الاجتماع السياسي عبر التاريخ.

- إن الشورى مبدأ قرآني واجب الاتباع، وما لم تلتزم المجتمعات هذا المبدأ السماوي فإنه نسيان حظٍّ مما ذُكِّرَتْ به، والعقوبة عاجلة دنيويا، "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، فهل هناك عقوبة أنكى وأقسى مما يعيشه المجتمع العربي من حروب وشتات وتطاحن؟

 

ثالثا: تكوين مجتمع الرشد

أشرنا آنفا أن من مقاصد القرآن إيجاد مجتمع الرشد، والدليل هو أن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم طبقت مقاصد القرآن في هذا الصدد، فقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تطبيق مقاصد القرآن بدءًا من بيعة العقبة الأولى، وكانت بنود البيعة خطوة أولى صوب مجتمع الرشد. وجاءت البيعة الثانية فجسدت نواة المجتمع الراشد، والذي ما فتئ حتى توسع وصولا إلى أن تكلل بوثيقة المدينة، التي جسد بها الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمع الرشد.

انتقل صلى الله عليه وسلم بهذا التجسيد من القيم الذهنية الاعتقادية إلى تجسيدها في تشريع إجرائي مكتوب بأيدي شرائح مجتمع المدينة ذاتها، حيث إن كل شريحة كتبت حقوقها وواجباتها بنفسها، الأمر الذي أثمر ثقةً مطلقةً لدى كل شرائح المدينة بمرجعية الله ورسوله، ليس المسلمين فحسب، وإنما سلَّم بمرجعية الله والرسول اليهود والمنافقون والمشركون.

علما بأن هذا التسليم لم يكن معجزة سماوية أخضعت رقاب غير المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو تصرف نبوي مقاصدي تطبيقي لمقاصد القرآن، وهو في ذات الوقت تطبيق تعليمي للأجيال عبر التاريخ، تطبيق نبوي تعاطى مع سنن الله في النفس والاجتماع، فحاز دستور المدينة على الثقة أولا، فاقتنع غير المسلم بمرجعية الله والرسول دون إكراه، لسبب بسيط، وهو تفعيل النبي صلى الله عليه وسلم لحرية الاختيار وطردا لقيم الطاغوت بكل مظاهرها وأشكالها.

 

غياب مجتمع الرشد.. الآثار والنتائج المُرَّة

عندما يشعر المستبد بتضخم ذاته الفاسدةً ويكاد الديكتاتور أن ينفجر من فرط ترهل الورم، يسارع جلاوزته بتقديم مقترح معللين للجلاد بين يدي مقترحهم، حتى يتم تحلل الورم المترهل ولو قليلا.

ولكي يتجدد نشاط القيادة الملهمة، نرى إتاحة المجال شكليا لإقامة مجتمع مدني، على أن يكون الزمام مدفونا هناك في دهاليز المخابرات، فيصدر القرار على أن هناك منحة كبرى من الزعيم الملهم، أو حزب الديكتاتور، أو الحزب الواحد، فيتشكل الحمل الكاذب، وتنخدع شخصيات لها ثقلها في وسط المجتمع، فتقترب من الديكتاتور، علما بأن هدفها سليم، ولكن تأبى السياسة إلا أن تفسدها، حيث إن بضاعة الجلاد هي الإفساد، أما المنظمة أو النقابة المستعصية نوعا ما فالتفريخ جاهز.

 

الآثار

نفاق وصمت ومناكفات ومكايدات، فيتسابق أصحاب الحمل الكاذب إلى حضن الحاكم، وهنا يكون ورم المستبد قد تحلل واستعاد نشاطه، ويمسك أغلب الخيوط مخابراتيا، فينام الجلاد آمنا ويطول أمد بقائه، بل تصبح الجمهورية مُلكا وراثيا، كيف لا وهو في الظاهر حبيب أقوى سلطة مجتمعية.

النتيجة الأولى: انعكاس الفساد السياسي على كل جوانب الحياة بدءًا من فساد القيم بشكل عام، فتتغول سلطة المستبد إلى حد قوله: من يرحل؟ سأحكمك أو أقتلك.. أنتم مجموعة فئران، وطلاب الجامعات شلة حرامية، والشعب الجاثم بالميادين هو عميل للصهيونية.

النتيجة الثانية: الثورة المضادة للربيع العربي (اليمن نموذجا) دمار شامل وحرب لا يعلم نهايتها إلا الله.

 

الطريق إلى مجتمع الرشد

حتى يضمن المجتمع سلامة التوجه المدني، فالواجب الأول هو:
- ترسيخ الوعي بأهمية المجتمع المدني.
- التأصيل الفكري للمجتمع المدني من منظو ر المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، كيلا يتشدق المنافقون وجلاوزة الجلاد بأنه المانح الوهاب.
- التوعية بالتطبيق النبوي للمجتمع المدني المزبور في وثيقة المدينة.
- هذا التأصيل يرسخ قوة الحجاج والدفاع عن الحق المدني في وجه التدين المغشوش، المرتكس في حمأة ثقافة ذيل بغلة السلطان، دفاعا قادما من زاوية ذات بعد له قدسيته.
- إذا ترسخت الثقافة المقاصدية سيكون المجتمع المدني قد وضع قدمه على الطريق الصحيح.
- تجديد القيادة دوريا وبفاعلية ديمقراطية حقة تُحتَرم فيها إرادةُ المجتمع.
- تشبيك العلاقات الواضحة مع مراكز البحوث والدراسات والتدريب، حتى تأتي الدراسات خادمة للتوجه مسدٍّدة ومرشِّدة.
ــ العناية بتعميق ثقافة المجتمع المدني أي رفض التسطيح الثقافي، ويأتي في طليعة تعميق المحتوى الثقافي:
- تبسيط تعريف الثقافة المدنية أنها تعني فهم علاقات التأثير والتأثُّر بين سنن الاجتماع سلبا وإيجابا.
ــ الانفتاح والاستفادة من ثقافة الغير في تنظيم وتقنين وتمتين فاعلية المجتمع المدني.

 

مجتمع الرشد.. مظاهر ومعالم

بكلمات سريعة، تتمثل معالم ومظاهر المجتمع المدني في المعالم والمظاهر التالية:

1- الحرية مبدأ مقدس، لأن الحرية هي فطرة الله غريزة مركوزة في وجدان الإنسان وميزه بها عن الحيوان.
2- التعددية، فالله هو الواحد، والتعدد لما هو تحت عرشه سبحانه وتعالى.
3- القبول بالآخر، فهذا المظهر هو التجسيد العملي للمظهر السابق.
4- الولاء الميثاقي مقدم على الولاء الديني، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم في دستور المدينة جعل القرآن وتعليماته مرجعا للمؤمنين به، وجعل الميثاق مرجعا لجميع سكان المدينة.
5- مواطنة متساوية، هذا المظهر ليس من ثقافة الغرب، وإنما هو من صميم مقاصد تصرفات رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

مثال:
- "... الأنصار أمة من المؤمنين هم على ربعتهم -عرفهم- وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم".

- "... بنو الحارث أمة من اليهود هم على ربعتهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم".

وهكذا تكررت هذه الصيغة في الدستور المدني عند ذكر كل شريحة من شرائح سكان المدينة.

إنها مواطنة متساوية شملت المزارع والتاجر والمسلم المهاجري، والمسلم الأنصاري والقرشي والرقيق والحر والمرأة والرجل والمنافق والمشرك واليهودي، فاسألوا أثينا وأسبارطة التي قصرت الديمقراطية على نبلاء أثينا فقط.

6- الوعي القيمي المدني نظريا وإجرائيا، أعني قوانين مكتوبة يضعها المجتمع المدني والجهات الرسمية دورها المصادقة فقط، وإن شئت قل إسهام المجتمع المدني في صياغة القوانين من خلال ممثلين متخصصين، كي يضمن سلامة حقوقه من البداية بعيدا عن أي انتماءات ضيقة أيا كانت، انطلاقا من أرضية الولاء الميثاقي.

باختصار، لا دولة مدنية بلا مجتمع مدني حقيقي. تلك هي نظرات حول "مجتمع الرشد"، تأصيلاً، وأهميةً، وتثقيفاً، وتقنيناً، وإجراءً.

نلتقي بعونه سبحانه مع الحلقة الخامسة "الأمية الفكرية والثقافية".