الجمعة 29-03-2024 01:53:44 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

صياغة الأفكار أم تكوين المفكرين؟ (3-4)

السبت 30 يونيو-حزيران 2018 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت - خاص / عبد العزيز العسالي

   

الــطــريــق إلى تــكــويــن الـــمــفــكــريـن

رؤيــة إجــرائــيَّة:


أشرنا في الحلقة الثانية أن تراثنا الفكري زاخر بالمبادئ والمفاهيم والأفكار والقواعد
بدءًا من الاستقراءات الجزئية ثم النظر في المآلات ثم الصياغة ثم البلورة المبسطة وصولا الي صناعة الوعي العام في مجالات الحياة الفقهية والتاريخ والثقافة العامة.

والذي يمكننا استنتاجه هنا أمران..

الأمر الاول:
ــ أن بناء الأفكار لا تأتي اعتباطا أو عفوية بين عشية وضحاها.

الأمر الثاني:

وهو الأهم ـــ كأمر بديهي ــ انه من المستحيل بناء الأفكار دون وجود مفكرين،
وهكذا نقول ردا على القول الشائع: "تجديد الفقه" فنقول: يا قومنا تجديد الفقيه أولا, وسنصل إلى تجديد الفقه تلقائيا.

باختصار:
لا يمكن صياغة الأفكار قبل إعداد وتكوين المفكرين, كما أنه لا تجديد للفقه إذا لم نبدأ بتجديد مدخلات تكوين الفقيه.

اسـتـــهــلاك الــمـفاهــيم والــمــصــطـلـحـات الــوافـدة

الغرب نجح أيما نجاح في صياغة الأفكار والمفاهيم والمصطلحات, غير أن الغرب بخبثه المعهود ــ في مجال العلوم الإنسانية أكثر من غيرهاــ لا يقدم إلينا المبادئ التي هي ايجابية, وإنما يقذف إلينا بالـــزّبَــــدْ ـــ الــفـقـاقـيـع ـــ والتي تزيد العقل المقلد المتسول تيها وحيرة، فيعود المبتعث الي أرضه بجزئيات مشتته لا تلتقي عند معلم ولا تستقر في مرفأ، فيضطر السياسيون لأخذ وصفات جاهزة يمليها الغرب كيف يشاء ويضع شروطه المجحفة على أنها علمية, ويفرض قيَمه على انها كونية !! فيخضع أصحاب القرار السياسي والاقتصادي والتربوي والأدبي والثقافي الخ ـ ـ للإملاءات، وهذا السر وراء ضياعنا وتيهنا.. هذا من جهة.
من جهة أخرى، وهي الأهم:
هنا تساؤل يفرض نفسه في هذا الصدد مفاده: كيف نجح الغرب?
بل كيف حقق هذه القفزات الإنجازية العملاقة التي تفوق الحسبان? بل انه في العشر السنوات الماضية حقق انجازات تفوق انجازاته خلال اربعين عاما مضت!

الذي يتابع الأداء الإداري الغربي من خلال ما يصلنا باللغة العربية, وهي اقل بكثير مما كتبه الغرب ولم يتم ترجمته:
فالذي يتابع يجد أن اكبر عامل وراء هذه القفزة الحضارية الغربية ـ الجبارة سيجد انه عامل (التدريب والتدريب) لا غير.
هذا التدريب هو الذي يصنع الاتجاهات السريعة والناجحة في زمن قياسي!
انه يفوق التعليم العام الذي يظل عقدين ونصف من الزمن وتأتي نتائجه بطيئة وقليلة، وإليك أيها القارئ القصة التالية حصلت لأحد طلابي النابغين في المرحلة الأساسية, حيث انهى تعليمه الثانوي بترتيب الأول ف الجمهورية, ومن ثم ابتعث الي العراق فدرس شبكات اتصالات وعاد متميزا ولكن براتب يمني ضئيل, فقدم نفسه لشركة نفط فرنسية بصنعاء , فتم تدريبه شهرين فقط; ليصبح مهندس منشآت نفطية, وتم إرساله الي دولة عربية نفطية, فعمل سنوات خمس فقط ليعود بعشرات ملاييين الريالات وفتح تجارة بالخليج وأقام بيتا ضخما بصنعاء!
وجه الدلالة انه تم تدريب المذكور عمليا شهرين فقط، وهكذا يمكننا القياس في كل المجالات; فمثلا برنامج الطيران المدني يأخذ سبع سنين, لكن يمكن من خلال التدريب انجازه في عامين ونصف, وقل هذا في سائر الصناعات!

الجدير ذكره: أن المتأمل في سيرة الرسول (ص) ومقاصد تصرفاته العملية سيجد انه (ص) قد وضع بذورا لبناء الاتجاهات المجتمعية, وقد اشرنا في الحلقة 2 الي جانب من هذا التصرف النبوي الرشيد.

أمر آخر هو: أن الغرب ما وصل الي هذه الوسيلة ــ التدريب الناجح ــ بطفرة او اكتشاف في المعمل, وانما كان ثمرة لجهود بحثية في (مراكز البحوث) والتي كانت ولازالت وستستمر في عملها البحثي الدائب.
وزيادة في افادة القارئ فإني اقدم له هذه المعلومة من كتاب (من يصنع القرار في امريكا)!
كتيب صغير الحجم عظيم الفائدة موجود ع الشبكة العنكبوتية للمؤلف التربوي العملاق المستشار ل36 منظمة تربوية عالميةــ أ/ د / ماجد عرسان الكيلاني توفي قبل عامين -رحمه الله ـ وهو خريج تربوي من جامعة منشستر الأمريكية وصاحب مصنفات تربوية إسلامية بديعة لم يسبق اليها ومنها كتابه (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس)، وكتب أخرى أكثر من رائعة.
الكتاب مليء بالمعلومات الإجرائية والإدارية والبحثية وصولا الي بلورة المبادئ والمفاهيم والمصطلحات وصولا الي اتخاذ القرار السياسي ـ الحقيقة أن المؤلف -رحمه الله ـ صدمنا ببعض الأرقام، وسأعطيك ايها القارئ العزيز رقما واحدا نقلا حرفيا عن المؤلف حيث قال:
تمتلك الخارجية الامريكية مراكز بحوث ودراسات وتدريب بلغت 1200 مركز!
تدعم الدولة بمبلغ زهيد 500 الف $ فقط والبقية يقوم بها القطاع الخاص!
اترك القارئ ليسرِّح خياله كيف يشاء تجاه مراكز البحوث والدراسات في دولة امريكا وجامعاتها عموما. ومن يريد المزيد فعليه بالكتاب.

الخلاصة:

أ/ مطبخ المفاهيم والمصطلحات ــ المركزية الأوروامريكية، كما سبق تقذف إلينا ـ?
ب/ استطاع الغرب أن عبر مؤسساته البحثية والتدريبية أن يصل الى تحويل كل البحوث المطولة والمشتتة الى قوانين, وهذا هو المبهر فعلا, ولاشك انه قد استفاد من موروثنا الإسلامي الذي حول الكثير من الاعمال الي قوانين، ويكفينا مثالا في جانب العمران والإنسان (مقدمة ابن خلدون) التي خطفتها جامعات الغرب مبكرا
غير أننا معاشر المسلمين لازالت كثير من جامعاتنا ترى ان علم الاجتماع بدعة?

جـــرحـــنـــا الـــغــائــر والــمــجـال الــمــنــشــود


كم نحن بحاجة ماسة كحاجتنا للماء والدواء الى:
إعادة النظر اولا وقبل كل شيء في موروثنا السياسي, والذي لازلنا حتى اللحظة أسرى، ولكن أسرى ماذا? إننا منذ 15 عاما من سقوط بغداد امريكيا ثم شيعيا تنسكب دماؤنا شيعة وسنة لأجل وصية مكذوبة ــ بداهة ــ ; كونها مناقضة لمبادئ الإسلام وكافية لروحه العادلة القاضية بالمساواة بين الناس! فكيف يتسابق السنة قبل الشيعة للاعتراف بهكذا هراء اسمه وصية لم يعرفها الخليفة الرابع ولم يحتج بها علي خصمه!! فمن أين خلقت هذه الفرية القاتلة التي فتحت جرحا راعفا لا تنضب دماه؟!
هذا من جهة، من جهة أخرى ذات صلة بتكوين المفكرين وصولا الى بناء الافكار: يمكننا ضرب المثال التالي:

يتفق المؤرخون سنة وشيعة وكذا فقهاء الفريقين حول نقطة جوهرية تعتبر
ــ محل النزاع بين الخليفة الثالث (رض) وبين الخارجين عليه ـ
حيث استطاع الخليفة إقناع الخارجين بنفي كل ما نسب اليه من مظالم
عدا قضيتين, الأولى: ذات صلة مباشرة بالصراع, والثانية إجرائية.
فالقضية الأولى هي إنفاق المال العام وهنا اقر الخليفة بذلك محتجا أن الخليفتين قبله انفقا، فقال الخارجون: انفقا قليلا وأنت أسرفت في الإكرام فقال: من سبقاني انفقا بقدر ما لديهما وأنفقت بقدر ما عندي!
قالوا: من الذي خولك هذا الأمر? أجاب: هل منعت أحدا حقه? أجابوا: لا..
قال فلم الاعتراض؟
لم يجد الخارجون مجالا للاعتراض عليه, فبرزت القضية الثانية:
وهي مطالبتهم بتنازل الخليفة! فقال لهم: هذا ليس لكم, وإنما هذا لمن بايعني ــ يقصد مجلس الصحابة في المسجد.. فقالوا نقتلك!

تعالوا بنا إلى بلورة مبدأ أو فكرة أو مصطلح أو قيمة أخلاقية سياسية..
تعالوا بعيدا عن توزيع أوسمة الخطأ والصواب فتلك امة قد خلت.
فما الذي يجب أن نستفيده من تراثنا دون ان نتسول من الغير مبادئ مختلفة المنشأ والثقافة والدوافع والبواعث والمشحونة بمضامين ثقافيه لا تنسجم مع هويتنا وثقافتنا?
ننظر في جوهر النزاع سنجد بلغة اليوم: أن الأزمة دستورية بامتياز، تتمثل في الشرعية السياسية، "اختلع" ، ليس من حقكم هذا الطلب!
اذن هنا نحن امام مشكلة تبحث عن بلورة حل ثقافي سياسي مبدئي مبكر.. إنها أزمة الشرعية السياسية من له حق تنصيب الحاكم وخلعه!
القضية الثانية: تحديد صلاحيات الحاكم في المال العام.

وعليه: فإذا أردنا تفعيل تراثنا الفكري السياسي للبناء عليه يجب ان نبحث جوهر النزاع ثم نتخذ الوسيلة التعبدية المناسبة من ثقافة العصر وفيما يخدمنا اليوم, وغير هذا فالثمرة ماثلة (دماااااااء ودمااااارررر).

الخلاصة:
لو ظلينا عقودا وقررنا ان صاحب الحق فلان او فلان لن نحل مشكلة دينية طائفية مذهبية ترسخت منذ1400 عام.
نحن مطالبون بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ــ دستور مكتوب ـ ومرجعيتنا دستور المدينة.
ترسيخ قيمة أخلاقية سياسية وهي الشرعية السياسية حق الأمة ــ شورى بينهم
نريد بلورة هكذا مفاهيم وتبسيطها وتحويلها الى وعي عام ثقافي.

اعتقد أنني قدمت نموذجا حيويا للبحث الجاد، وسأنتقل إلى النقطة الإجرائية.

الــوســـائــــل والإجــراءات
الـــطــريــق الــى تــكــويــن الــفــقــيـــه

ــ ضرورة ايجاد مراكز بحوث ودراسات وتدريب.
ــ رسم سياسة للمراكز الآنفة تبدأ من الرسالة, والرؤية, والأهداف المرحلية, والاستراتيجية, والجدوى, وخطط استيعاب, وسياسة إجراءات المدخلات, والتقييم, والترسيم ــ الاعتماد الرسمي للشهادات.
ــ العودة للمنهجية الحضارية التي تضمنها التراث الإسلامي في مجالات العلوم الإنسانية عموما والسياسية خصوصا، وما يتصل بها من العوامل المؤثرة فكريا وثقافيا واجتماعيا مع الانفتاح على كل تجربة إنسانية نافعة.
وماذا عن المدخلات الفكرية وموضوعات التدريب?
الإجابة على هذا السؤال هو موضوع الحلقة الرابعة بعونه سبحانه..