السبت 20-04-2024 11:59:12 ص : 11 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

صور التماثل بين نظامي الإمامة والعائلة

اليمن..عناء البحث عن دولة المواطنة!

السبت 24 مارس - آذار 2018 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت- خاص/ أحمد أبو ماهر
 

 

من نافلة القول إنه كما كانت الدولة اليمنية، طيلة ألف عام مضت، مشخصنة في الإمام كرمز سياسي وديني للدولة، فقد نجح المخلوع صالح إلى حدٍ كبير فيما نجح فيه أئمة اليمن من قبل، واستطاع تغييب الدولة وشخصنتها ليغدو هو الدولة والدولة هو، وكان يحلو له القول: "انا الدستور والقانون".

كان علي صالح أنموذجاً جمهوريا لحكم إمامي شمولي، يتوشح قميص الجمهورية كتقَية، مستلهما -في وعيه الباطن- نظام الحكم الإمامي بكل مساوئه، والذي توسل الدين لينسج به مزاعم الاصطفاء والوصية والحق الإلهي، ويحيط نفسه بهالة مقدسة، محاولا الظهور كمدافع أوحد عن الدين ومتحدثاً حصرياً باسمه بغية شرعنة وتكريس حكم السلالة، جاعلا من الإمامة أصلا من أصول الدين لا يكتمل ايمان المرء إلا به.

لعهود طويلة، بدءاً من عصور الإمامة القديمة نزولا إلى الحديثة منها (بيت حميد الدين) إلى حكومات الجمهورية المتعاقبة وصولا إلى انقلاب العصابة الحوثية الكهنوتية بنسختها الإمامية الجديدة الأشد قبحا، أخفقت الكيانات والسلطات المتعاقبة في تشييد نموذج الدولة اليمنية، دولة المواطنة والمؤسسات والنظام والقانون، والتي بقيت -للأسف- حلما بعيد المنال. ونتيجة لتلك الإخفاقات، ظلت أزمة اليمنيين التي مازالوا يعيشون فصولها المأساوية حتى اليوم هي أزمة غياب الدولة الوطنية الراعية لمصالحهم قبل مصالح النخبة أو السلالة أو الطائفة أو القبيلة.

 

بقاء الشكل وتغير المضمون

مثلت ثورة 26 سبتمبر الفرصة التاريخية الأهم أمام الشعب اليمني لاستعادة وبناء الدولة اليمنية، لكن رجال الثورة لم يكونوا بمستوى الوعي الذي يؤهلهم لخوض التجربة، وحالت خلافاتهم الكثيرة دون مضيهم في انجاز المهمة، في حين أجهز التدخل الخارجي على ما تبقى من التوجهات والتطلعات الثورية لإعادة تشييد الدولة وتأسيس نظام جمهوري أكثر استقلالية وتعبيرا عن تطلعات الجماهير.

في نهاية المطاف وصل الرئيس السابق (المخلوع صالح) الى سدة الحكم في ظروف سياسية قلقة ومتوترة وبطريقة اكتنفها الكثير من الغموض، متخطيا الكثير من القيادات العسكرية والسياسية الأكثر تأهيلا منه (!) لم يفهم اليمنيون أسباب ذلك الصعود السريع لـ "تيس القوات المسلحة" المثير للتساؤل، لكن القوى الخارجية، بطبيعة الحال، كانت واعية تماما لما يجري ومدركة الى اين يتجه اليمن مع عسكري (جاهل) يفتقر لأبسط مؤهلات الحكم، لم ينل من الخبرة والدراية أكثر من ذلك اللقب الذي أطلقه عليه رفاقه في القوات المسلحة الذي لم يكن يرمز في حقيقة الأمر الى أي شكل من التفوق او المهارة أو القدرات العسكرية الرفيعة بقدر ما كان يستبطن توصيف ذي مغزى لا يمت للعسكرية المتعارف عليها بصلة.

ومع صعود عفاش بدأت لحظة الانحدار والنكوص (الواعي) عن التوجه الجمهوري ليصل ذروته بسقوط الدولة (الجمهورية) بأيدي الملكيين الجدد من مخلفات العهد الإمامي البائد. وكان نظام المخلوع صالح قد شهد صعودا لافتاً للتيار الإمامي الذي نجحت عناصره (الكهنوتية) في التسلل -وفي أحيان أخرى فتحت لها الأبواب- للوصول الى مراكز النفوذ ودوائر صناعة القرار، وفي أحسن الأحوال كانت قريبة جدا منها، في الوقت الذي كانت القوى الوطنية مشغولة بإدارة خلافاتها وصراعاتها السياسية والأيديولوجية، الى ان وقعت الطامة ووصلنا الى النهاية المحتومة التي نعيش فصولها اليوم.

يمكن القول إذن ان بداية السقوط والنكوص تحددت معالمها مع صعود علي عبد الله صالح لسدة الحكم، فمن تلك اللحظة بدأ النظام الجمهوري في الانحسار وطفق يخسر مواقعه ويفقد خصائصه ومقومات مشروع الثورة (السبتمبرية) لصالح التيار المناهض لها، منتكسا بشكل تدريجي ومكتسبا خصائص العهد الإمامي البائد، وإن ظل محتفظا بالطابع الجمهوري وشعاراته، الى ان بلغ التطابق منتهاه بين جمهورية علي صالح عفاش (العائلية) والنظام الإمامي البائد، وذلك في السنوات الأخيرة التي سبقت اندلاع ثورة 11 فبراير 2011 السلمية وكان ذلك أحد أهم أسباب اندلاعها.

لكن ماهي أوجه التطابق تلك والخصائص المشتركة لجمهورية علي صالح والنظام الإمامي الكهنوتي الذي أحياه الحوثيون وأعادوه الى الواجهة، بفضل جهود صالح نفسه، بنسخته الجديدة؟

 

صور التماثل بين نظامي عفاش والإمامة

نحاول هنا، وبإيجاز شديد، رصد أبرزصور الشبه والتماثل والخصائص المشتركة التي جمعت بين النظام السابق ونظام الإمامة الذي اخذ الحوثيون على عاتقهم مسؤولية النهوض به من جديد والحكم تحت مظلته ولكن بصورة غيرة معلنة حتى الآن.

أولى تلك الخصائص أن أيا منهما لم يحمل مشروع دولة ولم يبنِ دولة بالمطلق، ويفصح تاريخ الإمام الهادي يحيى ابن الحسين الرسي (284-298هـ) مؤسس المذهب الهادوي في اليمن والأئمة من بعده عن تلك الحقيقة بجلاء، فهم لم يُورَثوا دولة بقدر ما ورثوا صراعات ونزاعات مستدامة حول السلطة ومن هو الأحق بها، ولم يُعرف عنهم أنهم تركوا ورائهم معلماً حضاريا واحد يشهد بدولتهم، ولم يبنِ المخلوع أكثر من دولة العائلة، فقد جاء على دولة الرئيس الحمدي من أساسها واختزلها في شخصه، ولو كان شيَد دولة بالفعل لما وصلنا للحالة التي نحن فيها، ونفس الشيء ينطبق على الانقلاب الحوثي الذي جاء على بقايا دولة شكلية (صورية) فحولها انقاضا لصالح المشروع السلالي الطائفي الذي يُصَر على رفض الدولة ويتمسك بالمليشيا كطريقة للحكم عوضا من الانخراط في مشروع وطني لكل الشعب.

وما يجمع هؤلاء أنهم عزفوا عن بناء الدولة ومؤسساتها وشيدوالأنفسهم سلطة مطلقة استحالت الى مفسدة مطلقة.

ويعد التوريث من أبرز الخصائص المشتركة لنظامي عفاش والإمامة (بنسختيها)، فالحكم الإمامي الكهنوتي حصر السلطة في البطنين وعمل على توريثها كحق حصري، وعدَ الخروج عنه كفرا وخروجا عن الدين، فيما سعى المخلوع لتوريث السلطة للعائلة كحق مكتسب، وينظر الحوثيون اليوم إلى السلطة على أنها حق ديني وتاريخي يتوارثونه دونا عن الناس، وفي الوقت الذي رفع نظام الإمامة شعار آل البيت لشرعنة أحقيته بالحكم، مُسربا مفهوم الوصية الى الدين لتسويق فكرة الإمامة وتمرير مشروعه السياسي بعباءة دينية، رفع عفاش شعار الوحدة معتبرا ذلك الإنجاز الوحدوي ملكا له يستوجب بالضرورة منحهوعائلته تفويضا مطلقا بحكم اليمن، وهو ما أقنع به نفسه بالفعل وعمل على تنفيذه. أما الحوثيون فقد عادوا لإحياء الشعارات الإمامية السلالية والطائفية تحت لافتة المسيرة القرآنية مضيفين اليها مزاعم المظلومية(!) ورفعوا شعار (الولاية) لآل البيت ويعنون به الإمامة والحكم لكنهم لا يفصحون عن ذلك كون الشعب لن يقبل بعودة الإمامة من جديد.

وكما عمل الأئمة طوال تاريخهم، عن سبق إصرار ووعي كامل، على تجهيل الشعب ليسهل استخدامه كوقود لحروبهم الدائمة في سبيل السلطة فقد مارس عفاش الأسلوب ذاته مستخدما سلاح التجهيل للزج بمواطنيه في مئات الحروب العبثية لإنهاكهم وإشغالهم عن مشروع التوريث، ولم يكن غريبا اننسبة الأمية في اليمن هي الأعلى عالميا وأن نجد جامعة صنعاء -كمثال- التي بنتها الحكومة الكويتية في العام 1975 لم تكتمل كلياتها الى اليوم على الرغم من الثلاثين سنة التي قضاها صالح في الحكم(!)

وإذا عدنا للحوثيين فسنجد أنهم نسفوا التعليم من أساسه وقضوا على ركائزه وساقوا الناس كرها إلى معارك الدفاع عن سلطانهم ودولة الإمامة التي يجهدون لبعثها من جديد. لقد كان سلاح التجهيل أخطر الأسلحة المستخدمة من قبل صالح والحوثيين والإمامة ضد اليمنيين، ومثَل بالتالي أهم القواسم المشتركة بينهم.

إضافة الى ما سبق، فإن تقسيم الناس إلى طوائف وتيارات وفئات اجتماعية كان هو الآخر أحد القواسم المشتركة بين تلك الأنظمة، فالحكم الإمامي قسَم الناس اجتماعيا إلى طبقات متفاوتة، (سيد، قاضي، قبيلي، مزين، دوشان) وهذا داخل الطائفة الزيدية نفسها، في الوقت الذي لم يتورع عن التحريض واستخدام العنف ضد الجماعات والتيارات الأخرى مثل الشافعية والمطرفية التي تعد أحد امتدادات الزيدية نفسها، فالإمامة كنظام حاكم يتوسل الدين كأساس لمشروعيته لا يقبل التنوع الديني والفكري والتعدد السياسي(!)

وهذا الفكر ذاته لا يزال هوالمحرك للحركة الحوثية التي تنظر بدونية الى مخالفيها فتصفهم بالدواعش والمنافقين والطابور الخامس، ولم يعترفوا بأحد خارج جماعتهم ومنظومتهم الفكرية حتى شريكهم الأول صالح، ومارسوا العنف والإقصاء والاستفراد بالسلطة ووظفوا الجهل في أوساط القبائل لحشدها ضد مناوئيهم من كل الأطياف بما فيهم القبائل غير الموالية.

لقد استثمر التيار الإمامي، الذي تعد الحركة الحوثية رأس الحربة فيه، التنوع السياسي لبلوغ مآربه وعندما تم له ذلك مسحه من الخارطة، وبالنسبة لصالح، فقد استغل التنوع لإذكاء التباينات والخلافات في أوساط المجتمع اليمني من قبائل وأحزاب وضرب بعضها ببعض مغذيا التناقضات البينية لخدمة أهدافه.

ونصل الى أحد أبرز القواسم المشتركة وأوجه الشبه بين حكم علي صالح وحكم الإمامة والحوثيين والمتمثل في سياسة الإفقار وتجويع الشعب، إذ دأبت نظم الحكم تلك على احتكار الثروة لضمان بقاء السلطة في قبضتها وتحت سيطرتها، فكان الأئمة يجمعون المال من حله وحرامه وينفقونه لا في بناء الدولة والنهوض بها وتحسين أحوال الناس بل في حروبهم العبثية وتوطيد أركان حكمهم فيما الناس لا يجدون أحيانا ما يسد رمقهم، وثمة مقولة متداولة للإمام يحيى حميد الدين عندما جاءه الناس يطلبون منه إغاثتهم من هول المجاعة التي اصابتهم فصدهم ورفض مساعدتهم وخزائنه ملئانة وقال كلمته المشهورة: "من مات فهو شهيد ومن عاش فهو عتيق".

وعلى ذات المنوال تسير جماعة الحوثي التي نزلت على اليمنيين كالجائحة والوباء الفتاك فما أبقت لهم شيء يذكر، فبعد تصفية أموال البنك المركزي والصناديق المالية أكلت مرتبات الناس وحقوقهم ومنعت عنهم المساعدات من غذاء ودواء وباعتها في السوق السوداء التي انتعشت في عهدهم كما لم يحدث من قبل لتحصد منها المليارات يوميا فيما الناس لا يجدون قوت يومهم، علاوة على افتعالها المزيد من الأزمات المعيشية للسكان زيادة في إذلالهم وامتهانهم كما فعل أجدادهم من قبل، وهذه السياسة ذاتها، سياسة الأزمات والإفقار، كانت الشغل الشاغل لعلي صالح ونظامه، إذ نحت سياسته صوب احتكار الثروة وتأسيس بيوتات مالية تستثمرأمواله وتقضي على المنافسين، وصنع أزمات سياسية واقتصادية بشكل دائم ضمن برنامج الإفقار الشامل الذي اتبعه عبر المزيد من الجرعات السعرية ونهب موارد البلاد وخيراتها والمساعدات الخارجية وتشييد امبراطورية مالية كبيرة تعزز حكمه، وإذا تتبعنا هذا الجانب فقط من سيرة علي صالح والحوثيين والأئمة من قبلهم فسوف نحتاج لمجلدات لكننا تكتفي بهذا القدر.

تلك المساوئ التي كانت ثاويه في بنية النظامين البائدين (الإمامي والعفاشي) مثَلت في الواقع بذور الفناء التي غرساها بأيديهما وأدت في النهاية الى زوالهما معا وتلك سنة الله في خلقه التي لا تتبدل ولا تتحول، بيد أن الحوثيين الذين يقتفون أثر أجدادهم الظلمة ويقتدون بسيرة عفاش سيئة الصيت التي أوردته المهالك لا يبدون معنيين بما آل إليه مصيره وأخذ العبرة منه، ولا مستعدين كذلك لتعديل سلوكهم وتطوير منهجهم لمواكبة العصر، فهم لا يزالون يعيشون خارج عصرهم، مصرين على استدعاء ماضي أئمتهم بكل قبحه ومساوئه الى حياتنا العصرية، وهي مغالبة غبية وساذجة محكوم عليها بالفشل كونها مصادمة ومناقضة لسنن الله وحقائق التاريخ، وبالتالي فقد حكموا على أنفسهم بالفناء والزوال ولن يختلف مصيرهم، مهما طال الزمان بهم، عن مصير آبائهم أوعفاش الذي لم تسعفه حين حانت نهايته ملياراته ولا قواته ولا أصدقائه في الداخل والخارج... وتلك الأيام نداولها بين الناس.