الخميس 25-04-2024 23:13:46 م : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

عصـر النهضة..من غياب المشروع إلى إنتاج التخلف

السبت 17 مارس - آذار 2018 الساعة 10 مساءً / الإصلاح نت - خاص/ عبد العزيز العسالي (الحلقة الثانية)

  




المعضلة الثانية: المستـبد الداخـلي


من المعلوم أن مصر كانت بوابة الحراك النهضوي لاعتبارات عدة لا مجال لذكرها هنا..
غير أن الأهم هنا هو أنه بعد خروج نابليون بجيشه مهزوما من مصر بعد سنين ثلاث من الاحتلال.
نعم خرج الاحتلال لكنه كان قد فرّخ بيئة لعملاء حضاريين يمموا وجوههم شطر فرنسا ـ ذوبان كامل ــ فلحقوا به لا ليأخذوا العلم والمعرفة وإنما ليأخذوا ثقافة فرنسا؛ الثقافة الاجتماعية المشحونة بمضامين متشابكة مع ثقافة الثورة والاقتصاد الصناعي وتحديث الدولة، والتمرد على الدين وكل ما هو قديم!


ولأن الانبهار من طباع النفوس والعقول الفارغة ـ الأمية الثقافية والفكرية ــ فلم يستطع المتفرنسون التمييز بين الأخذ الواعي للفكرة المنتجة وبين أخذ الثقافة المجتمعية في الغرب، وأنّى للمقلد أن يمتلك رأياً؟!
فالأنسب للعقل المقلد هو الامتصاص للثقافة الغربية على اعتبار انها ثقافة كونية، فظنوا ان النهوض الصناعي و.ووو في فرنسا يعود الى التمرد على كل الدين والقيم وكل ما هو قديم وكذلك يفعل الجهل بأهله!


دور محمد علي باشا


ــ بعد خروج فرنسا بثلاثة عقود تقريباً وصل محمد علي باشا حاكماً لمصر والشام. فبطش بالمماليك الذين كانواقد أفسدوا في مصر ايما فساد, ورفع شعاراً انه سيجعل مصر قطعة من أوروبا .. فأرسل البعثات التعليمية وأرسل معها من يرشدها دينيا ـــ حفاظاً على الهوية ـــ , وكان الشيخ الأزهري (رفاعة الطهطاوي) هو مرشد البعثات.
ـ الباشا لم يكتف بالبعثات, وانما استدعى فرنسيين لإدارة مكاتب الدولة, وترتيب موازنة الدولة والتخطيط لهاــ حسب المستشار طارق البشري, وهنا وُضِع الفخ تدريجيًا ــ بدءًا من تكبيل مصر بالديون!


ولأن الواقع العربي والإسلامي مهدد بالغزو الأوروبي , فقد جعل الباشا من اولوياته تقوية الجانب العسكري تصنيعاً وزراعة, وتربية، وإعدادا للجيش في مدارس عسكرية خاصة تعنى بالجيش للحرب والبناء, وإنتاج احتياجاته الغذائية والتموينية, وتصنيع الاسلحة البسيطة, ثم تطو الأمر الى صناعة اسطولٍ عسكريٍ ضخم، غير أن روسيا وفرنسا دمرتا الأسطول, تم تبادل الأدوار ــ فكانت بريطانيا هي رأس التآمر لكنها تظاهرت انها مع الخليفة العثماني وأيدت تدمير الأسطول، مبررة للخليفة العثماني أن الأسطول كان ضد الخلافة!
ــ لاشك ولا ريب فيه تاريخيا أن الأسطول تم تدميره على حدود اليونان وهو يحارب لصالح الدولة الشرعية العثمانية!
ـــ يمكن القول: ربما كان لمحمد علي باشا مشروعه الامبراطوري, وتوريث أولاده, فدخل الشام ..
بريطانيا بدورها استغلت دخول جيش محمد علي باشا الى سوريا، فأثبتت للخلافة ان محمد على باشا يتوسع للانفصال والاستقلال, هل هذا هذا صحيح؟! ربما، وربما العكس!


الذي يهمنا في هذا المقام أن الاحتكاك حصل بين حاكم مصر وبين رواد الإصلاح (النخبة بعمومها)؛ فالرواد المحافظون يطالبون الدولة بالتحديث الشامل، أما الاقتصار على الجانب العسكري ـ رغم أهميته- فهو غير كافٍ. النخبة الاصلاحية المتفرنسة اللبيرالية, واليسارية, والقومية, لا يهمها التحديث الشامل بقدر ما تريد القضاء على الهوية الحضارية والانقطاع عن الماضي تماما لما فيها الانفصال عن الدولة المركزية ــ تمرد علي كل ما هو قديم ــ أسوة بالغرب!, مستغلة موقف رواد الإصلاح المحافظين انهم مع التخلف ـ ومع الخليفة! وهنا كان المستبد الحاكم المحلى يغض الطرف إزاء هذا الصراع، ولا يستبعد أن الحاكم المستبد عمل على توسيع الهوة بين رواد الإصلاح, فاشتدت المهاترات ..
باختصار:
إن رواد الإصلاح لم يلتقوا على طاولة تحديد الاولويات نظرا لاعتبارات سنأتي على ذكر أهمها لاحقا..

ــ كان فريق المسيحيين في الشام ضمن النخبة المتغربنة, وكانوا أشد عداوة وتشويها للدولة العثمانية, وبدؤوا بالعزف على وتر (الدولة القومية العربية)، وفي هذا السياق قاموا بخدمة اللغة العربية أيما خدمة كإثبات أصالة العرب وسبق حضارتهم!
- كان هذا في الشام ــ سوريا ولبنان ـ فقد كانت الجمعيات السرية المسيحية بالشام تنظيميا يتبع فرنسا وبريطانيا, وكان حزب تركيا الفتاة يشجعهم علي التوجه القومي ووعدهم بالدعم!
ــ كان الاستعمار الاوروبي يلوح فقط -وبإجرام سياسي ماكر- أن احتلال مصر وارد, اما الشام فلا حديث عنها ـ وهنا انقسم صف رواد الاصلاح ـ جهوياــ فالمصريون مع الدولة المركزية خوفا من الاحتلال الخارجي لمصر, وأهل الشام ضد الدولة المركزية ــ الخلافة ـ وهذا الانقسام ضرب التوجه النهضوي في الصميم!

تناوبت بريطانيا وفرنسا التصريحات تارة من فرنسا وتارة من بريطانيا انهما مع الخلافة!
هذه التصريحات الماكرة رافقها إيعاز خفي لرواد الحداثة ـ مسيحيي الشام والليبراليين واليسار عموما: أن المحافظين مع التخلف..عموما والمتمثل في شخصية الحاكم العثماني خصوصا,بل هم مع الاستعمار في دعم التخلف!


لم يكتف فريق التغريب بهذا التشويه وإنما استعان بالحاكم المحلي ـــ موظفين الاحتكاك بينه ورواد الإصلاح المحافظين انهم ضد توجهه في بنا الدولة!
ـ في ذات الوقت كان الاحتلال يظهر تأييده الكائد والمخادع بأنه مع دعوة تجديد الدين وإصلاح الازهر.. وهي طريقة بالغة الخبث ـ كان لها بالغ الأثر في إحراق أي فكر تحديدي داخل الأزهر والمجتمع وأن تجديد فكرة جاء به المستعمر!


هنا اشتدت مضايقة رجالات الإصلاح المحافظين بطريقة او بأخرى سيما بعد ان احتلت بريطانيا مصر (1882)م, وهنا انكشفت مواقف مختلفة ..فجيش مصر الذي تم تحديثه قرابة اربعين سنة لم يفعل شيئا يذكر في وجه الاحتلال البريطاني!

ــ امعانا في الإجرام والخبث: يصرح الاحتلال البريطاني انه جاء يحمي الدولة الشرعية (الخلافة) من أي انفصال او تمزق!
وفرنسا تقول احيانا انها ضد توجه بريطانيا في حماية الدولة العثمانية -توزيع ادوار; الأمر الذي كرس توسيع الهوة بين بين رواد الاصلاح بشقيه المحافظ والمتغربن من جهة، ومن جهة اخرى كرّس ووسع الهوة بين رواد الاصلاح المحافظين وبين المجتمع والازهر!
ــ من جانب آخر لم يعد هناك مرشد ديني يرافق البعثات التعليمية ..هنا تسلم الراية (الذئاب) ومن رعى غنما في ارض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الذئبُ.

وهنا تم صناعة رؤوس طلاب البعثات تحت عناية المستعمر في كل اتجاه!
ــ هذا الجو الموبوء المعكّر استبدادا وتخلفا وجهلا وغزوا ملونا واحتلالا اجنبيا مثْل اشد انواع إكراهات الواقع والتي خلقت ارباكا مزدوجا امام رواد الاصلاح المحافظين!


ــ لم يكن هنالك فرصة لالتقاط الانفاس! وان وجدت فرصة للقاء بين رواد الاصلاح بشقيهم, فان خيط فريق الحداثة بيد السيد الاصفر! وعليه هيهات حصول لقاء!
والدليل ان موقف الاحتلال انتهى بنفي رائدي الاصلاح -واللذَين يمثلان ذوآبة النخبة المحافظة والمتنورة في آن .. حيث تم نفي الشيخ محمد عبده والافغاني إلى فرنسا طيلة عشر سنوات. ونفي شوقي وحافظ ابراهيم الشاعران المعروفان وغيرهم ..
ــ بالمقابل كانت البعثات الى اوروبا متوالية.
ــ تم فتح المدارس التبشيرية ـ كما اشرنا كانت بمثابة امتيازات لكل قنصلية من دول اوروبا مدرسة خاصة في سوريا او في مصر فتوسعت مدارس التبشير!


ــ كان لهذه المدارس خطورتها فقد توغل الاحتلال في الوسط الاجتماعي فأحدثت تأثيراً في الثقافة الاجتماعية..فانخرط فيها الكثيرون من الجنسين من ابناء الذوات ومن بعض المواطنين العاديين الذين لم يحصل ابنا ؤهم على المنح الخارجية, وكذا البعض ممن لديه بقايا تحسس من هجرة الاولاد ـ الاناث خصوصا, فها هو قد وجد بغيته ــ ولده يدرس في المدرسة التبشيرية وهو يراه كل يوم فيطمئن عليه! فيا ترى هل المجتمع يعلم خطورة تكوين عقلية النشء? حتى وان علم فالزمام انفلت والنظام التعليمي براق اخّاذ يخطف الابصار!
- سيكون للبعثات ومدارس التبشير دورها الخطير في الزج بالمجتمع في هاوية التغريب من اعلى مستوى في القرار السياسي وما دونه ــ انتاج التخلف كما سنشير لاحقا.


الخلاصة:


رغم الاحتكاك القوي بين رواد الإصلاح المحافظين والحاكم المستبد: فإن التاريخ لم يسجل تصادما ايديولوجيا (علمانيا) وانما كان التصادم حول التنمية الشاملة في نظر الرواد وبين واولويات الحاكم المنحصرة في جانب الجيش!
صحيح أن المعارك الفكرية كانت على أشدها بين الشيخ عبده وفرح انطون وبعض المستشرقين وغيرهم مثل سلامة موسى, وكذا الافغاني مع الدهريين, علما أن كتابات الشيخ عبده حول المدنية كانت متقدمة وناضجة, لكنها نقطة وسط ظلام دامس رافقها اكراهات واقع جعلت كثيرين من النخبة لا يحفلون بأطروحات الشيخ ــ كيف لا والمحافظون ها هم يرددون مفاهيم الاحتلال في تجديد الدين والحفاظ علي الدولة المركزية!
فوجئ رواد الإصلاح في مصر والشام بتدمير الخلافة اولا, وتقسيم سايكس بيكو ثانيا, رافق سيلاً من أوساخ اللغة ـــ شتائم ضد العرب ولكن من اين؟ انه من حزب تركيا الفتاة القومي الذي طالماـ شجع القوميين العرب أن يتمردوا ضد الخلافة !