الخميس 28-03-2024 14:25:20 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

معالم الصورة الحضارية في اليمن القديم (الحلقة الثانية)

الخميس 15 مارس - آذار 2018 الساعة 08 مساءً / الإصلاح – خاص – ثابت الأحمدي

 

عسكريا
تكلمنا في الحلقة السابقة عن الملامح الحضارية في اليمن القديم على الصعيد السياسي، وكيف شكلت تلك الأنظمة عامل قوة وتقدم، فتجاوزت الحضارة مكانها إلى خارج حدودها، أي أنها كانت امبراطورية حضارية مترامية الأطراف بفضل تلك الأنظمة السياسية العادلة والمتقدمة، ونتكلم في هذه الحلقة عن القوة العسكرية كواحدة من قوى الدولة التي تعكس أوضاعها بشكل عام.


القوة العسكرية جزء من القوة السياسية لأي دولة، وبما أن اليمن قد بلغت شأوا عاليا على المستوى السياسي كما أشرنا، فقد كانت كذلك على الصعيد العسكري الذي يعتبر جزءا من امبراطوريتها السياسية الممتدة خارج الجزيرة العربية.


وقد كان الجيش اليمني "أسد ملكين" في التاريخ القديم مؤسسة قائمة بكافة فرقه الحربية، وأزيائه الموحدة، وأسلحته التي تختص بها كل فرقة، كما تذكر نصوص المسند التاريخية؛ حيث "عُرف جند المشاة والهجانة والفرسان والقواسين، أو الندافين، لقد استخدموا تشكيلة متنوعة من الأسلحة القتالية، وذلك تبعا لمهام الفرد في أرض المعركة"1؛ أما في السلم فقد كانت مهمتهم حماية قوافل التجارة وحراسة المدن والمرافق العامة للدولة، وحراسة المكارب والملوك وكبار موظفي الدولة والشخصيات الهامة، ومساعدة موظفي الضرائب على تحصيلها.2


وللترتيب الكبير والتنظيم العالي فقد تم تقسيمه إلى عدة فرق عسكرية، كل فرقة تؤدي مهمة معينة، ولها سلاحها الخاص بها. وهذه الفرق هي:


المشاة
"أسدم" أو "رجلم" هو الاسم الرسمي لهذه الفرقة الأكثر عدة وعتادا، وكانوا الأكثر أهمية من غيرهم من الفرق في الحروب الجبلية التي لا تستطيع الجمال أو الفرسان استعراض مهارتها العسكرية فيها كثيرا. وكانت تستخدم السهام في المعارك، ويذكر نقش (J631/33) فئة حربية اسمها: "ندف معفرم" وتعني رماة المعافر. والندف التراشق، وتنادفوا تعني تراشقوا. وفئة أخرى أيضا اسمها: "صيدهمو وقبضهمو" التي تعني الرماة ومساعديهم، وتساهم في تموين الجيش والقوات الأخرى معه التي تحتاج إلى اللحوم وغيرها، خاصة في الغزوات البعيدة. وثمة نصوص كثيرة تؤرخ للحملات العسكرية في بلاد المعافر وما بعدها باتجاه العاصمة ظفار. وتذكر بعضا من الأسلحة المستخدمة آنذاك.3
وأهم سلاح المشاة آنذاك هو السيوف والرماح والنبال والفؤوس ذات الحدين.4


الهجانة
بحكم اتساع مساحة اليمن القديم وتمددها فقد كان من الضروري أن يؤسس الجيش فرقة الهجانة، أو راكبي الجمال، وقد ورد اسم هذه الفرقة في نصوص المسند باسم "ركبم" أو "ركوبيسم" أو "ركبت" كما في النقش: (Ja577/15) حيث ذكرت معارك حربية في القرنين الثاني والثالث الميلادي فيها هذه الفرقة، في عهد سبأ علهان نهفان، ومن بعده شعر أوتر، وبجمال مدربة أعدادها كثيرة تفوق أعداد الخيول؛ وقد وصل عدد الهجانة في إحدى المعارك ألفا وستمئة هجانا؛ بل إنه في إحدى المعارك بين الجيش الحميري والجيش الحضرمي في العام 305م، بلغت الهجانة الحضرمية 3500 هجانا و125 فارسا، مقابل 750 هجانا حميريا و70 فارسا، كما يذكر نص النقش 5، ولهذا لا غرابة أن يرتبط الإنسان بالجمل ارتباطا وجدانيا إلى حد مصاحبته بعد موته، كما هو الشأن في بعض القبور التي نبشت ووجد من ضمن الأثاث الجنائزي هياكل عظمية لجمال رافقت الأموات في قبورهم.!

وهذه قوة هجومية سريعة تعتمد على السرعة وخفة الحركة والمطاردة والمراقبة والاستطلاع وحماية الأطراف والمؤخرة، وجزء منها مختص بحمل الأثقال من مؤن وطعام وشراب..6

الرماة
وهؤلاء يقاتلون مع المشاة والهجانة، مهمتهم الهجوم أول المعركة، وحماية من بعدهم من أي هجوم، وسلاحهم النبال.7

الفرسان
يُعتبر الفرسان أو الخيالة الفرقة الثالثة في الجيش اليمني القديم، وقد اقترنت الخيل بالحرب عبر الزمن، ولها من الأهمية الكبيرة ما لها، فهي الفئة الحاسمة غالبا في أي معركة، حتى في التشريع الإسلامي كان للفرسان من الامتيازات ما ليس لغيرهم، وقد ذكرت كثيرا في نصوص المسند، كما في حملة القائد الحميري سعد تألب إلى حضرموت سنة 315م. والذي استطاع أن ينقض على مملكة حضرموت بسبعين فارسا وسبعمئة وخمسين هجانا.8 ، وقد تم استخدام الخيول في المعارك الحربية اليمنية منذ القرن الثامن قبل الميلاد. وثمة رسومات قديمة تصور الفارس على الخيل أثناء احتدام المعارك، وطبيعة قتاله.

لباس الجند
لكون الجيش مؤسسة رسمية في تاريخ اليمن القديم فلا بد أن يكون لجنوده هيئتهم الرسمية الخاصة بهم، كموظفي دولة، الأمر الذي يزيدهم هيبة إلى هيبتهم، ومن ذلك الخوذة العسكرية التي تحمي الرأس وجانبي الوجه، ويعلوها قرنان معقوفان، يشبهان قرني الثور، وقد لبسها الجندي المعيني في القرن الثامن قبل الميلاد. وأيضا الدرع الحديدي الذي كان يلبسه ويقي صدره وظهره ويصل إلى مستوى الساقين.9

"وقد عُثر على صورة جندي يمني قديم مرسومة على قطعة عقيق، تكون لباسه من سروال قصير، وقميص نصف كم، وحذاء برقبة، وخوذة على الرأس، وجنبية خنجر، وهذا اللباس العسكري كان خاصا بالجيش الرسمي المسمى خميس، وكذلك للمتطوعين فيه، ويُسلم هذا الزي لأفراد الجيش من الدولة".10

وفي معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي ما يشي إلى نوع معين من اللباس اسمه "اليلب" يبدو أنه من لباس الفرسان آنذاك، حيث قال:
علينا البيض اليلب اليماني وأسياف يقمن وينحنينا.

القيادة
كان الملك نفسه هو القائد الأعلى للجيش، يقودهم في المعارك الحاسمة ميدانيا، وقد أشرف على الإعداد والتجهيز وعين القادة الذين عادة ما يكونون من الأقيال والأذواء الذين يضمون إلى الجند بعضا من أفراد الشعب فيقاتلون معهم، وقد كانت الكثرة ـ سابقا ـ هي رهان النصر لأي جيش في الغالب، لذا يتم رفد الجيش الرسمي للدولة بأفراد من الشعب بواسطة هؤلاء الأقيال أو الأذواء.11

الحملات العسكرية اليمنية إلى الخارج
ما من قوة عسكرية عبر التاريخ تشعر بفائض القوة إلا وفكرت في غزو بلاد أخرى خارج حدودها، ولما كانت القوة العسكرية اليمنية القديمة على قدر عال من القوة والإمكانات المادية والسياسية فقد غزت بلادا عدة، متجاوزة الصحارى والبحار..
وتوثق نصوص المسند بعضا من هذه الحملات التي ذكرت..

كما ذكرت كتب التاريخ ذلك أيضا. وقد ذكر نشوان بن سعيد الحميري أن شمر يرعش غزا بابل وفارس وسجستان وخراسان وبلاد الترك وسمرقند وسميت باسمه. وهو ذو القرنين عند بعض أهل العلم، وقيل أن ذا القرنين هو تبع الأقرن والذي سار بجيوشه في الممالك الشرقية حتى وصل التبت والصين، وكذا ابنه تبع الأكبر الذي أقام في التبت حامية من الجيش العربي، لا تزال سلالتهم معروفة حتى اليوم.12
وإلى هذه الواقعة أشار دعبل بن علي الخزاعي في قصيدته الشهيرة ..عن بطولات اليمنيين، بقوله:


وهم كتبوا الكتاب بباب مرو وباب الصين كانوا الكاتبينا
وهم سموا قديما سمرقندا وهم غرسوا هنالك التبيينا
وبحسب الهمداني فإن قبر الصعب بن ذي القرنين في منطقة "حنو قراقر" جنوب العراق؛ حيث وافاه الأجل هناك وهو قافل إلى اليمن، بعد أن مرض ثماني ليال، ثم مات. وقد رثاه النعمان بن الأسود المعترف بقوله:
بحنو قراقر أمسى رهينا أخو الأيام والدهر الهجان
لئن أمست وجوه الدهر سودا جلين بذاك للملك اليماني
لقد صحب الردى ألفين عاما ولاقاه الحمام على ثمان
كما رثاه كثيرون أيضا بقصائد مطولة، منهم أسعد تبع بقصيدة تجاوزت ثلاثمئة بيت.13


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الأسلحة في اليمن القديم، 150.
2ـ انظر الصراع بين الممالك اليمنية القديمة، أسبابه ونتائجه، عبدالله علي الفيش عطبوش، أطروحة دكتوراة، جامعة دمشق. مارس، 2008م.
3ـ الأسلحة في اليمن القديم، 151.
4ـ الصراع بين الممالك، سابق، 160، نقلا عن استرابو.
5ـ الأسلحة في اليمن القديم، 157
6ـ جيش اليمن قبل الإسلام، الحارثي، 49.
7ـ نفسه، 49.
8ـ الأسلحة في اليمن، 160. . يذكر النقش Ja 665 أن هذا سعد تالب تيلف الجدني قائد جيش الأعراب الحميري أرسل أربعة فرسان للاستطلاع، وليكونوا طليعة الجيش، فعادوا وأخبروا الهجانة المكونة من ثلاثين راكبا ليأخذوا مواقعهم الدفاعية استعدادا لمقابلة سبعين راكبا من هجانة حضرموت، وهذا النص يوحي بأن ثمة عيونا للجيش أو ما يسمى اليوم رجال الاستطلاع الحربي.
9ـ نفسه، 147.
10 ـ الصراع بين الممالك اليمنية القديمة، 163.
11ـ نفسه، 165. والقيل أقل مرتبة من الملك، يليه الذو، ويعني صاحب القصر.
12ـ حسين عيضة شبيبة، مجلة الإكليل، ع:1، لسنة ..102.
13ـ الإكليل، 187/8.