الجمعة 19-04-2024 13:07:22 م : 10 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

عصر الـنهضة من غـياب المـشـروع إلى إنـتاج التخلف

الأربعاء 14 مارس - آذار 2018 الساعة 07 مساءً / الإصلاح نت - خاص- عبد العزيز العسالي                      (الحلقة الاولى)

 

 قراءة في أسباب الإخفاق وعوامله

 

يتساءل البعض: متى بدأ عصر النهضة العربية؟ وهنا اختلف فلاسفة الاجتماع والمفكرون العرب حول البداية الاولى. ونحن هنا -وبحسب الحيّز المتاح- لا نريد الخوض في هذه النقطة كثيرا; ذلك أننا نرى أن الأهم هو معرفة الأسباب والعوامل التي أدت إلى الإخفاق; لأننا في الوطن العربي والإسلامي لا زلنا نتجرع إخفاقات عصر النهضة, بل نعيد انتاجها مراراً وتكراراً, الأمر الذي يستدعينا للوقوف حول الاسباب والعوامل التي ادت الى الاخفاق طيلة 200 عام وزيادة لا زلنا ننتج التخلف ونحرسه!

 يمكننا القول إن:

ــ المجتمع العربي الإسلامي حاول الإفاقة بعد نوم طويل؛ اذ كان العقل العربي قد خامرته احاسيس قوية بهوة التخلف ادت الي يقظة العقل العربي المسلم, غيران العقل العربي والمسلم اصطدم بكتلة خرسانية ضاربة عمقا و جاثمة افقياً ومتشابكة, واجه اشكالية بنيوية بكل ما تحمله كلمة اشكالية من معانٍ.

ـ وحتى نقترب من ايضاح الإشكالية يمكننا ضرب المثال التالي تقريبا للصورة, ولعل تقديم المثال سيجعلنا نقترب من تصوير معنى الإشكالية تيسيرا على القارئ فنقول:

لو أن شخصا يعاني علة ضغط الدم + وهن في عضلات القلب + سكر + قرحة المعده + تليف في الكبد+ سُمنة مفرطة + قلق نفسي + فقدان النظر+ مقدمات فشل كلوي..لاشك أن حالة هذا المريض تحتاج الى جمعية متكاملة من الاطباء المتخصصين اولاً, وثانيا المضاعفات الناجمة عن التلازم بين هذه العلل من جهة. ومن جانب العلاج أيضا فإن لكل علاج مضاعفات سلبية تنعكس على الحالات الأخرى.

من جهة ثالثة أن هذه المضاعفات واردة بلا شك في حالة اجتماع الأطباء واتفاقهم, فما القول عن المضاعفات اذا اختلف الأطباء واختلف التشخيص مع غياب شبه تام للعلاجات ذات الفاعلية?!

ــ أزعم أنني من خلال المثال الذي اوردناه: يمكننا اسقاطه تمامًا على المجتمع العربي والاسلامي, وبالتالي نكون قد اقتربنا -الى حد ما- من إيضاح معنى الإشكالية للقارئ الكريم والتي واجهها (المصلحون) المحافظون, في عصر النهضة والتي كما اسلفنا لازلنا نتجرع إخفاقاته حتى اللحظة. كيف لا ونحن اليوم نعيش التساؤلات عينها التي طرحت في عصر النهضة!

 الإشكالية هي هي وان اختلفت في بعض الفروع.          

 ألا يعني هذا اننا خلال (2017) لم نبارح مكاننا الا في جزئيات بسيطة لم تغيّر من جوهر القضية بل ربما عمقت الإشكالية!

 

 ابرز المعضلات التي واجهها رواد الإصلاح

 

بعد تأمل طويل في ما كتبه المحللون والنقاد وجدنا سلسلة منظومة من العوائق والأسباب المترابطة والمتشابكة ـــ أمراضاً بل وأعراضاً احيانا اقوى واكثر فتكا من الامراض!

ــ حاولنا ربط العلل بأسبابها او كما يقال ربط السبب بالمسبَّب الاول في متتالية رياضية إن جاز التعبير, فتوصلنا الى تحديد ابرز المعضلات الاساسية التي أعاقت رواد الإصلاح من بداية عصر النهضة وحتى اللحظة, تتمثل في معضلات ثلاث محورية مركزية.

وكل معضلة من هذه الثلاث يتفرع عنها عدة عوامل وأسباب, كما ان هذه المعضلات في ذات الوقت هي منظومة متداخلة مترابطة متشابكة غايةً في التعقيد! فكل معضلة تؤازر الأخرى كما سنوضح لاحقا.

 

ــ المعضلات الثلاث المحورية هي:

1- الأمية الفكرية والثقافية.

2- الاستبداد الداخلي.

3- البعد الخارجي .

إذاً فلتكن وقفتنا عند المعضلة الاولى قائلين:

لن نكشف سراً، ولن نهتك ستراً إذا قلنا إن الأمية الفكرية والثقافية اخطر بكثير من الأمية الحرفية, أخطر مئات المرات.. هذه المعضلة الفكرية والثقافية كانت متداخلة مع بقية المعضلات الآنفة تداخلاً وظيفياً متبادلًا بين المعضلات!

ثم إننا عندما نتحدث عن الأمية الفكرية والثقافية: فإننا نقصد (محاضن تنوير العقل والفكر) المتمثلة في:

 الأزهر, الزيتونة القيروان, ومراكش, قم, مكة, المدينة, زبيد, جبلة, الجامع الكبير بصنعاء, حضرموت, وما شابهها. هذه المصانع الفكرية والثقافية كانت تنتج ما يسمى (المعرفة المغلقة) كانت ولا زالت، علما أن الجامعات ذات الصبغة الحديثة والتي جاءت تنافس المصانع التاريخية ــ التقليدية الآنفة, كانت هذه المحاضن التعليمية الحديثة قد خلقت كسيحة ــ تشارك في صناعة وانتاج التخلف!!

وعليه: فإذا كان هذا حال محاضن التنوير العقلي تعيش أمية فكرية وثقافية, فإنه بالمقابل كانت الأمية الحرفية ضاربة الاغوار واسعة الانتشار في عموم المجتمع العربي والإسلامي!

ــ هذه الأمية الحرفية كانت خاضعة بطبيعة الحال لتوجيهات الأمية الفكرية والثقافية, بل كانت الأمية الفكرية والثقافية مسيطرة على العقول والارواح, وقل مثل هذا عن الفلسفة والمنطق؛ فقد كانا يعيشان اسوأ انتكاسة اجترار مفردات في قوالب جامدة من اقوال القرون الغابرة! أقوالاً تجعل العقل تابعًا مستسلماً عند باب الفتوى وكل الاقوال الغابرة!; ذلك أن الفلسفة والمنطق. وإن كانا يعالجان الجانب الدنيوي فانهما كفر والحاد! وليس في الإمكان ابدع مما كان! وهكذا يرتكس العقل رافضا النظر الى الأسباب معللا أن خالق الأسباب هو الله والتعلق بالأسباب كفر فكيف نترك خالق الاسباب ونتجه للاسباب? هذه هي حال المدخلات الفكرية والعقلية في محاضن التنوير!

ــ من زاوية أخرى: ماذا عن جانب التزكية/ التصوف?

 هذا الجانب هو المهمين على المجتمعات العامة فقد كان –ولازال- يعيش نفس الغيبوبة الحضارية؛ فالجانب التزكوي لا يتعدى أبياتا في السيرة النبوية يلوكها وصولا الى منزل حليمة مرضعة الرسول ثم الانعطاف نحو العودة!

 وماذا عن شعار التزكية؟ إنه شعار استهلاكي يزعمون انهم يعالجون به مشكلات الواقع في نظر اصحاب هذه الحاضنة!

 انه شعار يقدم المبررات الحمقى ويرسخها عاطفيا ووجدانيا مثل:

 (دع الملك للمالك)

 ( اقام العباد فيما اراد)

 نحن في آخر زمن قال فيه الرسول كيت وكيت؛ اي لا داعي لتحريك العقول, بل حرام تحريك العقول كون تحريكها يصادم الأقدار.

هي سيرة مكتوبة في اللوح المحفوظ.. قد جف القلم بما هو كائن!

 ايضا التنظير بأن المهدي فقط هو الذي يتجاوز بمعجزاته كل الأنبياء هو من سيأتي وسيحل المشكلة بطرفة عين! هذا الطرح المسموم بل القاتل هو الأقوى سيطرة والأقوى حضوراً والأقوى استبداداً للعقول والوجدان!

ــ كان المستبد الداخلي الحاكم الإقليمي يشجع هذه الثقافة بطريقه مباشرة وغير مباشرة; كونه أقوى وأمضى سلاح في بطح المجتمع, كما هو أسرع واشد من الحجر الصلد في مواجهة أي عقل إصلاحي.

 

   نخبوية رواد الإصلاح

 

لقد انفرد العقل ذو المعرفة المغلقة والتزكية المنحرفة بالساحة الديموغرافية ــ اكبر شرائح المجتمع في حين ظل العقل الإصلاحي التنويري (المحافظ) وغير المحافظ في حالة (النخبوية ـ أقرب الى التقوقع إن جاز التعبير ــ اعني بالتقوقع العيش داخل قوقعة! ولو كُتب للعقلية الإصلاحية أن تقترب من المجتمع فإن الوجدان المجتمعي المتشبع بالتزكية المنحرفة تواجه وجدانا يحمل أقوى حالات الممانعة الثقافية رفضا جاهزا دونما نقاش; علما أن العقل الإصلاحي كان يمثل أقوى درع للهوية والثقافة والحضارة العربية الإسلامية, ولكن هيهات!

ـ لقد واجه رواد الإصلاح المحافظون جبهات مختلفة؛ الأمية الفكرية والثقافية والأمية الحرفية, والاستبداد من الحاكم المحلي والحاكم الأعلى ــ الباب العالي، الخلافة ــ و البعد الخارجي على النحو التالي:

 

ـ لقد تصادم العقل الإصلاحي المحافظ مع المستبد المحلي حول أولويات النهوض; لأن الحاكم المحلي ركز ع المجال العسكري تحت مبررات مختلفة أهمها وأبرزها:

 أن الوطن العربي خصوصا مصر والشام تواجهان أطماعاً خارجيةً..

هذا الاختلاف تحول الى احتكاك فتصادم بين رواد الإصلاح المحافظين والحاكم المحلي.

إن هذا يعطينا مؤشراً هاما أن معضلة الأمية الفكرية والثقافية كانت حاضرة بقوة لدى النخبة عموماً ــ حكاما ومثقفين المتمثلين في رواد الإصلاح والتغيير بشقيهم المحافظ والمتغرب!

ــ سيشتد حنق الحاكم المستبد أكثر اذا كان مضمرا لأهدافه الخاصة المتمثلة بإقامة (امبراطورية) مصر والشام والجزيرة!

ـ لا خلاف أن البعد الخارحي كان متربصا ــ يتحفز للإنقضاض على أطراف الدولة الإسلامية! لم يكن هذا التربص الخارجي بعيدًا عن رواد الإصلاح المحافظين ; الامر الذي جعلهم مختلفين في موقفهم ازاء شكل الدولة المركزية (الخلافهة) فكان أغلبهم مع بقاء الدولة المركزية كرمز جامع للوحدة الإسلامية في وجه الاحتلال المتغول والقوي !

ـ هذا الموقف إزاء دولة الخلافة واجه ردة فعل من داخل شريحة رواد الإصلاح (المحافظين) حيث رفض بعضهم بقاء الخلافة; معللا انه لم يبق بيد الخلافة غير الظلم والاستبداد وهو كل مالديها، وعليه لا مفر من الإطاحة بمنظومة الحكم المتهالك (الخلافة والحكم المحلي) حسب رؤيته وقدم البديل عنها شعار الجامعة الاسلامية.

 ــ موقف المحافظين هذا أدى الى مواجهة مع الخلافة ــ ردة فعل من رواد النهضة (المتغربنين) واصمين المحافظين انهم دعاة تخلف فكري وسياسي الخ.. موظفين الأمية الفكرية والثقافية في محاضن العلم التقليدية في قلب للحقائق بأن رواد الإصلاح المحافظين دعاة هدم للمذاهب كيف لا وعصر التجديد للدين قد ولى عصره, وبالتالي فالتجديد كفر ومروق عن الدين! هكذا مكر خبيث.

 من جهة أخرى كان رواد الإصلاح المحافظون مختلفين في أولويات الإصلاح, (محمد عبده) يرى البداية من التعليم في حين ان جمال الدين الأفغاني يرى الثورة اولا علي النظم الحاكمة!

من جهة ثالثة، كان رواد النهضة المتغربنين يدعون للثورة على كل مايتصل بالقديم؛ دينا و دولة وتراثا وهوية وحضارة!

من جهة رابعة: كان المحافظون لديهم دعوة للتجديد داخل مدارس الفكروالفقه، وان يكون التجديد قادما من داخل منظومة الموروث (تفجير طاقة التراث) هذه الرؤية المحافظة لاقت أشرس المعارك ليس من المتغربنين وانما مشيخة الأزهر وأمثاله من محاضن التنوير!

فقد كانت المحاضن ضد رواد الإصلاح المحافظين، ولم يشفع للمحافظين أعمالهم العظيمة المنافحة عن الدين والحضارة والهوية والتاريخ واللغة.

من جهة خامسة:

ــ المحافظون المؤيدون بقاء الخلافة العثمانية كذراع حديدي في وجه الأطماع الخارجية كانوا في ذات الوقت ناقمين على التخلف الذي تعيشه دولة الخلافة في كل اتجاه, هذه النقمة على التخلف قوبلت بحنق  وغيظ ونقمة من دولة الخلافة تجاه رواد الإصلاح المحافظين، وكان الأزهر واضرابه خير عون ضد الرواد المحافظين!

 

  رواد النهضة المتغربون

 

ـ العقلية التقليدية الجامدة والضيقة التي واجهت الفكر الإصلاحي المحافظ كانت تعيش جمودا قاتلا! فماذا عن العقلية التنويرية المتغربنة؟ لقد كانت اشد ضيقاً وأسوأ تقليداً (اسفنجة) تمتص كل ما هو قادم من الغرب وبصورة اكثر حدية (اقصاء الآخر) رافضين الهوية والحضارة والتاريخ والدين داعين الى التخلي عن كل ما هو قديم وماله علاقة بالحضارة الإسلامية والهوية والتاريخ واللغة، وفي ذات الوقت هم ضد الباب العالي (الدولة المركزية العثمانية)، وضد التعلم الديني, وأكثر من يمثّل هذا التيار مسيحيو الشام قوميون وشيوعيون, والجمعيات السرية, ليبراليون.

ــ كان الاشتباك بين هؤلاء والمحافظين مستعر الأوار؛ صراع فكري لا يخمد له أوار، علما أن الرواد المحافظين كانوا يقدمون إجابات راقية وناضجة حول قضايا العصر من المنظور الإسلامي حول الحرية, المدنية, المساواة, حقوق الانسان, وتحديث الدولة, بل انتقدوا التعليم المتخلف في الأزهر، داعين إلى التجديد في الفقه ووسائل التربية .. الخ.

 

باختصار:

لقد اصطدم  المصلحون المحافظون بجبهات عدة؛ جهل المجتمع, والاستبداد السياسي والاستبداد الديني, وإكراهات الواقع التي دعتهم الى تقديم إجابات تجديدية ناضجة حول قضايا العصر.. هذه الإجابات الناضجة من التيار الإصلاحي المحافظ جعل حملة هذا التيار يفوزون  بأوسمة جاهزة من كل جبهة فهم ببساطة, بكلمة واحدة (ماسونيون).              

 

 الــمـــجـــتمــع

ــ رغم النخبوية التي عاشها فريق التغيير (المتغربن) لكنهم استفادوا أيما استفادة من جهل المجتمع إزاء الاقتصاد الصناعي الاستهلاكي المتدفق من الغرب؛ فقد كان المجتمع يتوحل في حمأة الاستهلاك .. اذ كانت قلوب المجتمع مع ثقافة استهلاك السلع القادمة, وألسنتهم ضد المحافظين رواد النهضة, فكانت ثقافة الاستهلاك اكبر عون للثقافة الغربية ودعاتها.

 وهنا سنجد أن العلمانية قد غزت الشريحة الأوسع في المجتمع عبر الاستهلاك، فأحدثت شرخاً بل وقطيعة بين نخبة المحافظين والمجتمع! أوليس الوسط المجتمعي يعج بالأمية الحرفية والأمية الفكرية والثقافية؟

ــ هذه الإكراهات الواقعية كان لها أثرها البالغ في دفع الخطى النهضوية الإصلاحية المحافظة صوب الإخفاق.

 

دور التعليم الحديث:

 

أمر آخر هو: التعليم الحديث.

كان الحاكم المحلي قد أنجز شيئا في الجانب العسكري مدارس وإنتاج وتكتيك وأزياء وتسلح كل ذلك مستورد..

ــ الشيء الجديد هو: المدارس التبشيرية دخلت تحت شعار الامتيازات الدبلوماسية.

فدخلت مدارس تبشيرية مختلفة لغة وثقافة ودخل أبناء الذوات هذه المدارس وإغراءات بالوظائف وهنا اتجه المجتمع مع التعليم الحديث التعليم باللغات الأجنبية, فما إن يصل إلى صف سادس فقط وهو يجيد اللغة الأجنبية (انجليزي, فرنسي)، وهنا يمنح درجة مدير إدارة أقل شيء, وراتب 12 جنيها يومها كان هذا رقما فلكيا!

ـ مجتمع يتمرغ في وحل الاستهلاك ويرتمي في محاضن التعليم التبشيري تحت مسمى الحداثة، وطبيعي أن يتم لعن رواد الإصلاح تارة لأنهم ضد الدين ومع الغرب, وتارة هم متخلفون لأنهم لم يقدموا إجابات تحل مشاكل الحياة والسبب أن الإصلاحيين المحافظين عاشوا النخبوية ووسائلهم الإعلامية اقل بكثير الى جانب أن هناك فارقا هاما يشكل ثقافة المجتمع هو الاقتصاد الصناعي الذي يغرق السوق؛ فهو يتحدث نيابة عن التغريب والمتغربنين، بل خير معوان لهم!