السبت 04-05-2024 18:40:19 م : 25 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

منظومة الهوية ومقاصدها دينيا ووطنيا (الحلقة الأولى: منظومة الهوية مقاصديا)

الخميس 04 يناير-كانون الثاني 2024 الساعة 06 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبدالعزيز العسالي

 

مقدمة: معارف الوحي ومفهوم الهوية

قال تعالى: "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون" (البقرة: 138).

تعليق موجز:

1- هذا النص جاء في سياق قرآني طويل تضمن حِجاجا مع اليهود والنصارى، ابتداء من الآية 120: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، مرورا بمقام الخليل إبراهيم عليه السلام ووظيفة البيت الحرام: "مثابة للناس وأمنا".. ودعوة الخليل أن يبعث الله خاتم النبيين، غير أن اللافت للنظر حقا هو ذلكم الهجوم الحجاجي القرآني في الآية 130، قال تعالى: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين • إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين".

إننا إزاء حجاج تسفيه عجيب، تلا ذلك تأكيد آخر أن ملة الخليل عليه السلام هي الإسلام، ولم يكتف، بل أتبعه بوصية الخليل ويعقوب عليهما السلام لأبنائهما بأن يلزموا عقيدة الإسلام ويموتوا على ملة الإسلام، ويصل السياق نهاية الآية 136: "ونحن له مسلمون".

وعلى الفور يلتفت الحجاج مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم أن استمرار بني إسرائيل على سفاهتهم هو دليل أنهم في شقاق - مشاقة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.. أعماهم الحسد والحقد "فسيكفيكهم الله".. إنه ضمان رباني، فاستمسك بما أنت عليه وقل للسفهاء: ما نحن عليه هو "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون".

2- مفهوم "الصِّبغة" بتشديد الصاد وكسرها يحمل دلالتين: دلالة الفطرة - وزناً صرفيا ومعنىً.. فالميزان الصرفي - فِطْرَةٌ، صِبْغَةٌ.. غير أن هذه الدلالة محلها الوجدان - أعماق الضمير.

الدلالة الثانية سلوكية - ظاهرة في التصرفات، وهذا يعني أن الصّبغة الربانية ليست قشرة متمثلة في الظاهر، وإنما هي أيضا غريزة مرتكزة في أغوار الضمير والوجدان، بخلاف الصَّبغة بالفتح، فهي تعني قشرة ظاهرة.. نلمس ذلك في قوله تعالى: "أولي النَّعمةِ" بفتح النون.. أي أن الكفار ليسوا في نِعمة حقيقية وانما نعمة ظاهرية فقط.

3- الخلاصة أن "صبغة الله" وما سبقها من السياق الحجاجي قد تضمنت مفهوم الهُويّة، وهذا سيتضح أكثر إن شاء الله عند تعريف الهُوية.

4- وظيفة الهوية مقاصديا: منظومة الهوية -باختصار- هي وسيلة مركّبة اكتنزت على قيم، ومفاهيم، وسنن، يمكن توصيفها أنها وسيلة ذات فاعلية وظيفتها خدمة الدين والوطن. وهنا سؤال يفرض نفسه بقوة قائلا: ما هي المكانة الشرعية لهذه الوسيلة؟ الجواب في البند التالي.

5- قرر فقهاء المنهج المقاصدي أن الوسيلة التي تخدم مصلحة الدين والإنسان هي وسيلة شرعية واجبة يجب الأخذ بها والحفاظ عليها وبالتالي يكون حكمها واجب - فرض، كونها تخدم مقاصد الشرع.. والقاعدة المقاصدية المقررة عند جمهور الفقهاء تقول: "للوسيلة حكم الغاية"، أي الهدف.. فمثلا الحفاظ على الصحة واجب والعلاج وسيلة واجبة لحفظ الصحة.

وقبل الدخول في صلب الموضوع أريد أن أوضح للقارئ العزيز أن موضوع الهوية واسع جدا ومن الصعوبة اختزاله في حلقات، وحرصا مني على تقديم أكبر قدر من الأفكار والمفاهيم، وأبعاد منظومة الهوية ومكانتها المقاصدية دينيا ووطنيا، ودورها الوظيفي الفعال، كونها إحدى سنن الله في النفس والاجتماع والعُمران، لأجل ذلك لجأت إلى الأسلوب الأكاديمي كونه أفضل حيث يمكننا بواسطته تقديم أكبر قدر من الأفكار والمفاهيم.

وقد تم تقسيم الحلقة إلى المحاور التالية:

المحور الأول: تعريف الهُوية

- الهوية لغةً: مشتقة من "الهُوَ"، حيث تقول ذلك الشخص هو من القطر أو الإقليم أو الدولة الفلانية.

- الهويّة اصطلاحا: هي الانتماء.. فنقول هذا الشخص ينتمي إلى شريحة من الناس ذات عقيدة أو قيم أو مذهب أو طائفة أو عرقية... إلخ.

الجدير ذكره أن أول مكونات الهوية هو "العقيدة"، قال تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون".. وهناك مكونات أخرى وهنالك استثناءات، سنوضحها لاحقا.

- تراكم الهويات: المقصود هنا أن الشخص أو الشريحة تحمل عددا من الهويات، وهذا التراكم بديهي وملموس، فمثلا كاتب هذه السطور ينتمي إلى قبيلة العسيلة، وينتمي إلى مديرية شرعب السلام، وينتمي إلى محافظة تعز، وينتمي إلى الجمهورية اليمنية، وينتمي إلى الأمة العربية، وينتمي إلى الأمة الإسلامية، وينتمي إلى الإنسانية جمعاء، وفي ذات الوقت لا يطغى انتماء على انتماء.

المحور الثاني: مكونات الهُوية

- الدين، اللغة، الأرض، التاريخ، الثقافة، الحضارة.

- مقومات الهُوية: أبرز مقومات الهُوية تتمثل في الوعي بمكونات الهوية، ومكانة الهوية، وأهميتها، ووظيفتها، وفاعليتها، ومكانتها السننية الحاكمة للاجتماع - إنسانيا، وحضاريا، وعمرانا، ومقاصدها، ونتائجها سلبا وإيجابا.

المحور الثالث: خصائص الهوية:

- المرونة، والمقصود بالمرونة أنها تقبل البناء عليها قضايا جديدة إيجابية - جودة الصناعة.. يقال صناعة ماليزية جيدة.

- تبني الشخصية على أسس مركزية، وأسس ثانوية.

- تعزز قيم المجتمع وأبرزها الحفاظ على شبكة العلاقات الاجتماعية، ذلك أن شبكة العلاقات تعتبر من خصائص الهوية وأبرز مظاهرها وثمارها في آن.

- قابلة للقياس المتمثل في الانتماء الديني والوطني إزاء المصالح الشخصية والمشاريع الصغيرة الضيقة، وهناك مؤشرات قياسية أخرى سنذكرها في موطنها.

- قابلية سلبية.. والمقصود هنا أنه إذا حصل مساس بإحدى المكونات فإن بقية المكونات يلحقها الاضطراب.

المحور الرابع: وظيفة الهوية:

- تحقيق الشخصية الحضارية.

- مواجهة المعوقات وتحويلها إلى تحديات ونهوض كما حصل في دول كثيرة نهضت ودفنت التخلف في زمن قياسي.

- تجسيد وتمتين شبكة العلاقات الاجتماعية وترسيخها.

- تخلق اصطفافا شعبيا جماهيريا حول الأهداف الكبرى للأمة والمجتمع.

- تسد الفجوة بين الواقع والمأمول.

- تقتصد وتصبر وتتكافل ويحضر التواصي تجاه حماية الأهداف والنهوض بالأمة.

- السعي نحو الالتزام بالإحسان والأداء والجودة والنظام... إلخ.

- خلق توجه شعبي نحو تحقيق الأهداف.

- تقرير الشعور بالذات والانتماء.

- سياج يحمي الفرد والأمة من التمييع، والذوبان والسلبية، واللامبالاة.

- ضبط اتجاه بوصلة الأمة روحيا، وثقافيا، ووطنيا، وانتماء للأمة واحترام إرادتها، والأهداف الكبرى للأمة إنسانيا وحضاريا.

المحور الخامس: غاية الهوية

يمكننا القول إن المقاصد والأهداف والغايات والثمار والنتائج متداخلة، بل وهناك تداخل بين المحاور كما سيرى القارئ.

وهذه أبرز غايات مقاصد الهوية:

- توحيد المجتمع على المبادئ الكبرى، والقيم الجامعة عقديا، وقيميا، وخلقيا، واجتماعيا، وسياسيا... إلخ.

- تعزيز ثقافة الاعتداد بالذات وفي مقدمتها الكرامة والحرية، وتحسين السلوك المجتمعي نظاما، ومظهرا حضاريا، وجودة المنتج.

- رسم صورة ذهنية محترمة عن الدولة حكومة وشعبا.

- الإسهام الفاعل في غرس وتعزيز وتحقيق الأمن والاستقرار والسلام والتنمية.

- توظيف الناتج والعائدات لأولويات البناء بأمانة وانضباط.

- صناعة شخصية الأمة وصولا إلى الاستقلال والتحرر من التبعية وترسيخ جودة العلاقة بالآخر استنادا إلى مبدأ الأخوة والتعارف والتعاون وحسن جوار وتحقيق مبدأ البر والقيام بالقسط وتحديد معيار الاستفادة من تجارب الآخر أيًّا كان.

المحور السادس: روح الهوية

- إكسير يعزز ديمومة انسجام حياة الفرد والأمة قيميا، وسلوكيا، وولاءً، وانتماء وطنيا... إلخ.

- إكسير يعزز فاعلية الشعور بالكرامة للفرد والمجموع.

- توليد الطاقة الفاعلة للإنجاز.

- إكسير يعزز فاعلية الاعتزاز والتضحية في سبيل قيم الأمة وسيادتها ومبادئها السامية دينيا، ودستوريا.

المحور السابع: ثمار الهوية

كثيرة هي ثمار وفوائد الهوية، لكننا سنذكر أبرزها وهي:

- تحديد المعركة وحصر أولوياتها حسب الزمان والمكان والمشكلة واتخاذ الموقف والإجراء المناسب.

- تعزيز الوعي وكشف خطورة الزيف والخطاب المتلاعب ومآلاته والدوافع الحقيقية والمواقف الخادعة والماسة بهوية الأمة.

- إعادة بناء الهوية عند اللزوم وتجديد أفق التناول والوعي بالأبعاد الجديدة وأهميتها.

- ترسيخ صناعة الهوية الجديدة وتأكيد وتمكين الشعب من القرار.

- توطيد الولاء للأمة وقيمها وأهدافها الوطنية الكبرى وتقرير إرادتها وتقوية شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والسعي الجاد إلى إرساء العقيدة العسكرية والأمنية لمؤسستي الجيش والأمن.

وعليه، نكون قد قدمنا لكم الجانب الأكبر من منظومة الهوية ومقاصدها الدينية والوطنية.

هناك محاور أخرى أهمها قياس الهوية وتنمية الهوية، وغيرها، ومكانها المناسب في الحلقة القادمة بعنوان مفسدات الهوية.. نلتقي بعون الله.

كلمات دالّة

#اليمن