الأربعاء 01-05-2024 09:36:40 ص : 22 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

القرآن وثقافة الحياة الأسمى (دراسة سننية) (الحلقة الرابعة: حماية الضعفاء محور الحياة الأسمى)

الإثنين 28 أغسطس-آب 2023 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبدالعزيز العسالي

 

تمهيد:

هذه الحلقة الرابعة والأخيرة تحت العنوان العام - القرآن وثقافة الحياة الأسمى.. حيث تضمنت الحلقة الأولى الوعي الفكري والثقافي بسنن الحياة الأسمى، وتضمنت الحلقة الثانية سنة قيمة الأخوة وعلاقتها بخريطة واسعة من سنن الاجتماع وأثرها في قيام الحياة الأسمى، وتضمنت الحلقة الثالثة قيمة الجمال ودورها في صناعة الحياة الأسمى.. والحلقة الرابعة التي نحن بصددها بعنوان "حماية الضعفاء" محور الحياة الأسمى.. وقد اخترنا ثلاثة "مصطلحات" قرآنية، وفي حقيقة الأمر هي ثلاث سنن إلهية لها أثرها البارز الحاكم للاجتماع وإقامة الحياة الأسمى.

الجدير ذكره أن مقاصد القرآن الهادية إلى الثقافة السننية ومقاصد السيرة النبوية العملية العطرة البانية للحياة الأسمى، تعتبر فريضة شرعية وضرورة فكرية وثقافية، وأجزم أنها "أرضية بكر" غير مطروقة، كما أن التعاطي معها يمتد إلى حلقات كثيرة، كيف لا والأستاذ فؤاد سيزكين رحمه الله قام بتخطيط خارطة بناء المجتمع المسلم - أسس وعلاقات داخلية وخارجية انطلاقا من سيرة الرسول صلى الله علبه وسلم في القرآن وتطبيقاته العملية، ففاجأنا بموسوعة قاربت 300 مجلد.

وعليه، فإننا قد عقدنا العزم استعانة بالله - إذا أمد الله في العمر - على إضافة ما يمكن إضافته في هذا المجال الحيوي الهام.

وعودة إلى مضمون هذه الحلقة فهو ناتج عن طول تأمل وبحث واستكشاف لمصطلحات القرآن، فوجدنا خرائط قرآنية واسعة، بصيغة أكثر وضوحا وجدنا سنن الله الناظمة والحاكمة للاجتماع - البانية للحياة الأسمى، بل وجدنا معها عقائد وغايات قرآنية ضامرة في حياتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية، والمخيف حقا هو غياب التعاطي مع خرائط القرآن السننية الهادية إلى الحياة الأسمى.

وقد تساءل المفكر د. عبد المجيد النجار قائلا: ما الذي جعل المسلمين يتمسكون بالتوحيد الغائي في قوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" يقابله ترك تام للتوحيد السببي - مبادئ التسخير الناظمة للحياة؟

أليس هذا جزء من عقيدتنا في القرآن؟ إذن، فقد تعاطينا مع ثلاثة مصطلحات - دراسة دلالية سياقية، وعلاقاتها المنتجة للسنن الاجتماعية الحامية للضعفاء - القاصدة إقامة الحياة الأسمى، على أنني أعتذر سلفا إزاء قصوري في تغطية الموضوع كما ينبغي، ذلك أن الدر اسات الدلالية واسعة جدا ولكني حرصت قدر المستطاع على تقديم ما يبلّ ظمأ القارئ العزيز، وذلك من خلال المحاور التالية..

 

المحور الأول، القول السديد:

ورد القول السديد في موضعين من القرآن المجيد، الموضع الأول، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا" (الأحزاب، 70).

الموضع الثاني، قال تعالى: "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا" (النساء، 9).

دلالة القول السديد:

تعددت أقوال المفسرين واللغويين انطلاقا من تركيب مفردات الجملة في آيتي الأحزاب والنساء من جهة، والعلاقة السياقية من جهة ثانية، وإليك أقوال المفسرين حول دلالة القول السديد مع حذف التكرار.

قالوا هو: التوحيد، العدل، الصواب، الصدق، القصد، الحق، إحلال خير، براءة من الفساد، استواء، استقامة، العقل المسدد المهتدي إلى المقاصد النافعة ثباتا وشمولا.

ثانيا، دلالة الجملة: لقد اقترن القول السديد بالإيمان والتقوى في سورة الأحزاب، واقترن بالتقوى فقط في سورة النساء.

الدلالة السياقية الأولى للنصين:

ورد الأمر بالتقوى والقول السديد في الأحزاب بعد النداء للمؤمنين: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا".

أيضا، ورد الأمر بالقول السديد في سورة النساء بعد أمرين جازمين داخل الآية ذاتها: وليخش الذين... فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا.

تراكم الأدلة لحماية الضعفاء:

استهلت سورة النساء بالنداء: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة".. وهذه طريقة القرآن تبدأ بمركزية التوحيد، وعلى الفور يربط القرآن بين القيم الإنسانية وعقيدة التوحيد، غير أن الشيء اللافت للنظر حقا هو أن الله علمنا أن قيمة التقوى لها وجهان، الوجه الأول تقوى الله الذي خلق الناس من نفس واحدة... إلخ.

وكما أن خالقكم واحد فإنه قد خلقكم من نفس واحدة، فإنه يجب عليكم تحقيق الوجه الثاني للتقوى المتمثل في العلاقات الرحمية - فاتقوالله واتقوا الأرحام، وهذا يعني أن قطع الأرحام هو قطع لما أمر الله به أن يوصل.

إذن، تقوى الأرحام مرتبط بتقوى الله، ومن جلال هذا المدخل العظيم اللافت إلى مكانة الأرحام فقد توالت دلالات حماية الضعغاء، وقد آثرنا سردها بأسلوبنا تجنبا للإطالة، فقد قرر حماية شريحة الضعفاء - أرحام، نساء، أيتام، سفهاء - أي ضعيفي الإدراك والفهم، فحماية هؤلاء هي أعظم سنن الله الحاكمة للاجتماع.. بدلالة أكثر كثافة أن حماية الضعفاء هي محور استقامة الحياة الأسمى، ذلك أن سنة حماية الضعفاء تقوم على مكونات التقوى بشقيه الرباني والرحمي، وتقوم على الكرامة الإنسانية عموما والمساواة والرحمة والعدل وصولا لضمان عيش كريم لجميع الناس تنفيذا لمقاصد الإسلام في المال وهو تفتيت الثروة وعدم تركيزها بأيد قليلة.

ولا غرابة إذا وجدنا الحديث القدسي يقول: "أنا الرحمن وأنتِ الرحم فمن نازعكِ قصمته".. فحق الرحم عين حق الله.

ومن مكونات سنة حماية الضعفاء: قول الحق، حماية وحدة المجتمع، وحماية النسيج المجتمعي، وحماية شبكة العلاقات الاجتماعية والحيلولة المانعة للشتات والتمزق والحقد والتحاسد، فتستقيم الحياة الأسمى. تلا ذلك الأمر بإعطاء اليتامى أموالهم، وأن أكل أموال اليتامى هو عمل خبيث بل هو حوب كبير - الحوب هو أن يجتمع عدد من الأثقال الغاية في الثقل على كاهل الشخص وهو حافي القدمين يتخطى بصعوبة بالغة وسط أوحال مليئة بحسك جهنم والعياذ بالله.. ولك أخي القارئ أن تتخيل.

تلا ذلك رفق من نوع خاص بيتامى النساء - الأقارب حيث يتجه أقاربهن إلى الزواج منهن حماية للتركة من الوقوع خارج القبيلة أو العشيرة، لكن غالبا هذا الزواج من اليتامى القريبات يعرضهن لعدم العدل فقررت الشريعة في هذه الحالة ترك الزواج، والزواج بغيرهن مثنى وثلاث... إلخ. فإذا كان التعدد سينعكس قلة إطعام للأبناء فيكتفى بزوجة واحدة، ثم قررت الشريعة تسليم صداق النساء - نحلة - والنّحْلة في الأصل عقيدة، وهذا يعني أن تسليم صداق الزوجة قيمة متصلة بعقيدة التوحيد، ثم قررت دلالة ابتلاء اليتامى - معرفة وعيهم الراشد فليس كل بالغ راشد، والهدف هو حماية المال من عبث السفهاء، فالمال قوام الحياة.

تلا ذلك نص إرهاصي بين يدي قرار التوريث للجنسين على السواء فكل منهما له نصيب من التركة، بل إن شريعة الرحمة قررت إطعام الفقراء - أقارب أو غيرهم - ولو لم يكونوا ورثة والعطاء يجب أن يكون مقترن بلين الخطاب - الكلمة الطيبة - قولا معروفا.

وبعد الدلالات التراكمية في ثماني آيات نصل إلى الآية محل الشاهد وهي "القول السديد".. فالشريعة الخالدة قررت أوامر لها جرس خاص - وليخش القضاة، والقسامون وليتقوا الله، وليقولوا الصواب والحق والعدل والسداد.

ويتخلل الخطاب الرباني إحداث هِزة وجدانية تلامس عاطفة الأبوة الخائفة على أولادها الضعفاء بعد وفاتكم أيها القسامون القضاة اعلموا أنها سنة اجتماعية، فإذا لم يكن قولكم سديدا فستنعكس السنة على أولادكم - من يعمل سوءا يجز به.

إذن، فالإيمان والتقوى في سورة النساء حاضر كما في سورة الأحزاب، ودلالة سياقية أشد ثقلا على القلب الخاشع التقي، فالمشرّع الرحيم العليم سبحانه لفت النظر في سورة الأحزاب إلى إباء وإشفاق السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة وهي دلالة سياقية تحمل ترهيب فريد - اعلم أيها الإنسان أنك تحملت شيئا أبت السموات والأرض والجبال وأشفقن منه، فهل أنت على يقظة بما التزمت به من عهد مع الله العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور؟

إذن، فليكن قولك صوابا وسدادا في كل حياتك عموما وفي حماية حق الضعفاء خصوصا فالشرع الحنيف جاء لحماية الضعفاء.

الخلاصة: اقترن القول السديد بالإيمان والتقوى، وحضر التذكير بالأمانة في سورة الأحزاب، واستهلت سورة النساء بمسرد من القوانين التشريعية الصارمة على حماية حق الضعفاء. وهذا تراكم دلالات يهز القلوب والعقول لأنه جمع بين عدد من الأوامر والمقترنة بالإيمان والتقوى والقول السديد والأمانة، والهدف هو ترسيخ سنة اجتماعية غايتها حماية شبكة العلاقات - حماية النسيج المجتمعي وصولا إلى إقامة الحياة الأسمى.

 

المحور الثاني، دلالة القصد:

قال تعالى: "وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين".

قصد السبيل يمكننا القول إنه تقريب وتسهيل وسائل حركة الحياة للإنسان حتى لا يتيه الإنسان في سبل البحث عن وسائل العيش الميسورة، فالله العليم الحكيم الخبير ها هو يدلكم ويهديكم إلى أقصر وأقرب وأسهل وسائل اجتياز سبيل الحياة.. "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم".. فالله يريد أن يخفف عليكم بل ويتوب عليكم.. وأن من يعرض عن هداية الله - نولّهِ ما تولى - نتركه للطريق الجائر.

الجدير ذكره هو أن أمة الإسلام سلكت الطريق الجائر منذ قرون فتاهت وسلكت سبيل العيش الجائر الضنك وذلك من يوم ضاجعت ثقافة الخلاص الفردي، وهي ثقافة إرث فلسفي صوفي هندي دخيلة فأضاعت ثقافة الحياة الأسمى التي رسمها القرآن وطبقها الرسول صلى الله علبه وسلم في سيرته العطرة في بناء الأمة الوسط التي أقامت الحضارة الإنسانية بشهادة العدو قبل الصديق.

الخلاصة: القصد هو الطريق الأقرب والأيسر والأسهل ويتمثل في الاستجابة لله وللرسول وتنفيذ هداياته التي أساسها التوحيد والمنبثقة عنه، فعبادة الله وتوحيده لا تستقم إلا بالعبادة السننية السببية، ولن تؤتي ثمارها في الحياة الأسمى إلا بالتعاطي مع المنظومة الشاملة لسنن الله الحاكمة للاجتماع المتمثلة في مقاصد القرآن والقيم الكونية، والقيم الخلقية، والسنن الإلهية في الآفاق والنفس والاجتماع على مستوى الواقع الإسلامي داخليا وخارجيا - وقدوتنا رسول الله صلى الله علبه وسلم، وما لم فإن الخلل المنهجي سيلازمنا، وستظل حياتنا متخلفة ذاوية في أعمق وهاد التاريخ.

 

المحور الثالث، دلالة الاستقامة:

نريد أن نتعاطى مع مفهوم الاستقامة دلالة وعلاقة مع المفهومين السابقين - مفهوم القول السديد ومفهوم القصد، وذلك على النحو التالي:

أولا، نستطيع القول إن قيم القرآن ومصطلحاته - مفاهيم ودلالات: نجد المصطلح يكتنز فيه دلالات ومفاهيم القيم والمصطلحات الأخرى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينضوي في إطاره كل السنن والتشريعات، والتواصي بالحق والعدل... إلخ، مع التسليم بوجود فوارق دلالية أخرى وتلك طبيعة اللغة العربية - لغة الرسالة الخالدة.

إذن، الاستقامة والدين القيّم، والصراط المستقيم والدين القيم، ودين القيمة، دينا قِيَماً، والسلوك، والالتزام، والإحسان، وغير ذلك من المفاهيم ذات الصلة نجد أن القرآن قد قررها في سورة الفاتحة ولكن بأسلوب الدعاء - اهدنا الصراط المستقيم.

وفي سورة الأنعام أمرنا الله باتباع الصراط المستقيم، وفي ذات الوقت نهانا عن اتباع السبل فهي الجور - الطريق الجائر.

وفي سورة هود جاء الخطاب موجها إلى الرسول صلى الله علبه وسلم: "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا".. تلا هذه الآية عدد من القيم والسنن الاجتماعية بلغت قرابة 15 قيمة وسنة.

ولأن القرآن يفسر بعضه فقد جاء أول مكونات الاستقامة - عدم الركون إلى الظلمة، معللا ذلك بأنه الوقوع في نار الدنيا حربا وفسادا... إلخ. على أننا نجد الرياضيات تؤكد أن الخط المستقيم هو أقرب طريق إلى مركز الدائرة.

وفي ذات الوقت نجد أن التصريف اللغوي لمفردة "قيمة" دينا قيما، مستقيم، استقامة، قائم، القيّمة، استقم، استقاموا، قياما... إلخ، فهذه المفاهيم قد وردت في سياقات دلالية متآلفة متكاملة مترابطة.

وإليك نماذج: "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل".. "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم".. "اهدنا الصراط المستقيم".. "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك".. "وألّوِ استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا".. "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون".. والصراط المستقيم هو "صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين"... إلخ الصفات التالية: الأولياء، المتقون، المقتصدون، السابقون، المحسنون، المخلصون، المتقون، الدعاة على بصيرة.. قال تعالى: "وما أمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة".

وقال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".

الخلاصة: القول السديد هو الصدق، والحق، والعدل، والصواب، والقصد هو الطريق القاصد والحق والعدل والسداد والاستقامة، والالتزام بذلك يكون قد سلك الطريق المستقيم، وسلوك الصراط المستقيم هو طريق الحياة الأسمى، والحياة الأسمى شرطها الوحيد هو التزام الفرد والمجموع بالاستجابة لله والرسول لما يحييهم، وطريق الحياة الأسمى يبدأ من منظومة الأخوة، والقول السديد، والقصد، والاستقامة، وهذا هو البنيان المرصوص الذي يحبه الله وهو عين الإحسان والنظام والالتزام والقيم الخلقية والجمالية - الحسية، والمعنوية وكلها تصب في حماية الضعفاء والسلام والاستقرار وخدمة ورفاه الإنسان.

كلمات دالّة

#اليمن