الجمعة 29-03-2024 15:28:14 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

في مفهوم المواطنة.. لمحة تاريخية

الأحد 14 يناير-كانون الثاني 2018 الساعة 06 مساءً / الإصلاح – خاص – ثابت الأحمدي
 

مفهوم المواطنة مفهوم جدلي يتطور بتطور الزمان والمكان؛ ويختلف من أمة إلى أخرى ومن حضارة إلى حضارة بناء على محددات خاصة في التصورات والمفاهيم..
نحاول هنا أولا استقراء المفهوم في الثقافة الإسلامية؛ إذ تمتلئ قواميس اللغة العربية قديما بكلمة "وطن" ومشتقاتها، لكني لم أجد من بين هذه المشتقات لفظ "المواطنة" كواحد من المشتقات والتي تأتي على وزن "مفاعلة" التي يمكن أن تأتي كثير من المشتقات على غرارها من جذور أخرى.


وقد اقتصر هذا اللفظ ومشتقاته على الإشارة إلى المدلول اللغوي في الغالب، كقولهم: وطن فلان أرض كذا. أي سكنها، واتخذها مقرا لإقامته.


والحقيقة أن غياب هذا اللفظ مرتبط تماما بغياب المفهوم العام لمدلول المواطنة في الوعي الجمعي المتشكل حينها من ثقافة الصحراء والقبيلة والخيل والمرعى.. إلخ والمسيطرة على الذهنية العامة، كما هو الشأن لدى بقية الأمم والجماعات يومها.


المواطنة "من المفاعلة" والتي ترمز إلى ممارسة فعل ما من طرفين اثنين هما: [السلطة ــ المواطن] لم تتجسد في الذهن أو في التصور سابقا؛ لأن التصور العام للمواطنة يقتصر على نمط معين ومحدد من العلاقة بين الطرفين هي علاقة الولاء على الطريقة المعروفة آنذاك فقط، وتتمثل من جانب المواطن في دفع الإتاوات والضرائب والنفير مع القوم إذا ما دقت الحرب طبولها أو أشعلت نيرانها، فيما تكاد تنحصر من قبل الدولة على مفهوم محدد، هو كف الأذى عنه والانتصاف له من أخيه المواطن حال الاشتجار أو الخلاف بينهما؛ أما الانتصاف له من السلطة نفسها فلا يوجد لا في ذهن المواطن، ولا في ذهن السلطة على حد سواء. وفي خطاب الإمام علي بن أبي طالب ــ كرم الله وجهه ـــ للخوارج ما يوضح هذا المعنى بصورة أجلى؛ حيث خاطبهم: "لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء" والمتأمل في فلسفة الخطاب ــ وهو خطاب محكوم بفلسفة الزمان والمكان نفسه ــ يجده مجسدا للصورة التي ذكرناها، لنستطيع القول: أن حق المواطن على السلطة كان يتمثل في الحق "الكفِّي" فقط، وهو حق يقتصر على عدم إلحاق الأذى به لا غير؛ علما أن ثمة ممارسات عملية ناضجة كانت قد ابتدأت مع دستور المدينة المنورة عقب الهجرة النبوية، وبدأت بواكيرها الأولى تتبلور في الوعي الجمعي على الصعيد النظري وعلى أرض الواقع على الصعيد العملي. ولم تكن وثيقة المدينة التي صاغها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليها طوائف وجماعات المدينة إلا دستورا للدولة، ووثيقة مبادئ سياسية تضبط أداء الجماعات والمكونات في المجتمع الجديد. وهي وثيقة أساسها العدالة الضامنة للجميع بلا انتقاص لأي طرف، إلا أن يأتي بما يخل ببند من بنودها، وهو ما كان من اليهود بعد ذلك.


المواطنة ــ حسب مدلولات قواميس ومعاجم اللغة العربية قديما ــ ارتباط بالمكان فقط، في صورة تشي إلى مدى الانفصال الكائن بما حوله، وهي من وجه آخر تعني: "رعوي" مفرد "رعايا" وبالمفهوم التاريخي السلبي الذي انطبع في الذهنية العامة، وتحول من حيث المدلول اللغوي المباشر الذي يحتمل قدرا من الإيجابية في المدلول إلى مجرد مفهوم "التابع" لسيده لا أكثر! تلك الكلمة التي اشتهرت على مدى قرون طويلة بصيغتها الجمعية "رعايا" لا تكاد تعني على وجه أدق غير ما ذكرنا في المفهوم "تابع"!


ولهذا السبب، ولتجذر مفهوم المواطنة بصورته السلبية قديما تقلصت وغابت ثقافة الحقوق الدستورية من ذهنية الكثير من الناس بمن فيهم الفقهاء وعلماء الدين كطلائع نخبوية وفئات تنويرية في المجتمع حتى أصبح مجرد المشاركة في الحكم من قبل بعض الشخصيات التي تأهلت لذلك وفي منصب صغير أو كبير هو منحة ومكرمة من الحاكم لهذا الرجل الذي أصبح ينظر إليه وكأنه ولي نعمته لا يستطيع مخالفته في أدنى عمل حتى وإن كان الحاكم خاطئا أو مخطئا، كما هو الشأن نفسه بالنسبة للحاكم الذي رأى في من عيَّنه مجرد أجير عنده لا يحق له المخالفة أو الاعتراض.. وللأسف فهذا المفهوم لا يزال متجذرا في الوعي الجمعي والذهنية العامة حتى اليوم بالنسبة للعربي الذي لم يستطع الفكاك عن أسر ثقافة القائد الواحد والأوحد والأعظم والأول والأكبر!!! كما لم يتبلور مفهوم المواطنة بالصورة الإيجابية السائدة التي عليها لدى مواطن الغرب، ولا يزال التصور السائد حتى اليوم امتدادا لتصور الأمس بماضويته وتقليديته، بمعنى أن المفهوم "الكفِّي" هو المفهوم الذي لا يزال سائدا في ذهنية البعض.


في تقديري إن شرط "الكرم" في الخليفة أو الإمام حسب شروط مذاهب الفقه الإسلامي الكلاسيكية سابقا الذي وضعه الفقهاء ضمن عدة شروط، له مغزاه الدقيق ومبرره الموضوعي، المتصل بظروف اللحظة التاريخية التي أنتجت مفهوم المواطنة على النحو الذي ساد حينها؛ حيث كان الإمام أو الخليفة ممسكا بكل شيء من تعيين قائد الجيش إلى توزيع أصواع البر والشعير، وكانت "المؤسساتية" خارج نطاق التصور على الصعيد النظري والعملي معا؛ إذ يتعدى بخل الإمام ــ كجبلة أو طبع في سلوكه ــ إلى إلحاق الضرر بالآخرين، خلاف ما إذا اتسم بصفة العطاء والكرم والتسامح الذي يتعدى نفعه إلى الآخر، وهو شرط ــ كما أسلفت ــ موضوعي "ديالكتيكي" أنتجته طبيعة التصور العام لمفهوم المواطنة السائد آنذاك وفلسفة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يفقد موضوعيته وجدواه في ظل المؤسساتية والدستورية التي يُعتبر الرجل الأول فيها مديرا لا حاكما، وأشبه ما يكون بمؤشر الساعة، قد يستوي فيه البخل والكرم بالنسبة للآخرين؛ إذ لا يترتب على بخله حرمان أحد، كما لا يترتب على كرمه استفادة آخر في الأعم.. بمعنى أن حقوق الناس قد أصبحت مرتبطة بالمؤسسة لا بالشخص، لنستطيع القول على ضوء ذلك أن شرط الكرم حاليا أصبح من التاريخ لا من الحاضر.


ولما سبق أيضا من الأسباب المرتبطة بالتصور السائد لفكرة المواطنة قديما فإن بعضا ممن تبلورت لديهم الفكرة الصحيحة لمفهوم المواطنة في الدولة الإسلامية ولحقيقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم بمفهومها الإيجابي قد قادهم الأمر إلى القيام بالخروج على الحاكم أو بما يسمى اليوم بحركة الانقلاب المسلح، وقد غلبت عليهم "النَّـزعة الطهورية" في التصور العام لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فظهرت عدة حركات أو انقلابات مسلحة مارست العنف في فترات متقطعة خلال الثلاثة القرون الهجرية الأولى وكلها ـ تقريبا ـ لم تنجح في انقلاباتها على عدالة قضيتها، وعلى الرغم من تعاطف الكثير معها.. "حركة الإمام الفقيه أحمد بن نصر الخزاعي في عهد الخليفة الواثق في العصر العباسي أنموذجاً" وقبله حركة ابن الأشعث في العهد الأموي. وأيضا على الرغم من الظلم الذي حاق بها خاصة ممن عرفوا في المجتمع الإسلامي بالموالي وكانوا يمثلون شريحة واسعة؛ فقد حُرموا حق المواطنة المتساوية في عهد الأمويين كحرمانهم من أعطيات ديوان الجند إلا في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ بل وعدم مساواتهم بإخوانهم المسلمين وفقا لما تقتضيه تعاليم الإسلام، في عدم تزويج أحدهم من امرأة عربية أو حتى الصلاة بعدهم إلى حد انتحال الأحاديث التي تنتقص من آدميتهم!! وكذا حرمانهم من وظائف الدولة الكبيرة والمتوسطة؛ فاتجه كثير منهم إلى أربطة العلم وكتاتيبه، ولذا نجد أغلب العلماء قديما هم من الموالي والمولدين!!


هذه الجماعات الصغيرة التي تشكلت بين الحين والآخر كانت تملك تصورا سليما أو قرب إليه على الصعيد النظري لمفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أي كانت تملك مشروعا للتغيير هو أفضل من النماذج التي كانت قائمة آنذاك؛ لكنها لا تملك آلية الوصول إلى السلطة لتنفيذ المشروع، فكانت الانقلابات هي أقصر الطرق إليها؛ أو قل أوحدها، خاصة وقد جسدتها في مراحل متأخرة بجواز إمامة المتغلب، وإن كان مفهوم التغلب قديما غير التغلب اليوم، ويختلف عنه في الآلية والكيفية والنوع ليس هذا مجال تفصيله. ولهذا نلاحظ همود وتراجع ما يمكن أن نسميه اليوم بحركات التحرر ضد الاستبداد منذ القرن الثالث الهجري وما بعده بعد أن قامت ستة وستون ثورة وانقلابا خلال ثلاثمائة سنة تقريبا ابتداء من ثورة الإمام الحسين ضد يزيد بن معاوية وما تبعها من انقلابات وثورات، هذا الهمود والسكون كان نتاج يأس وإحباط أصاب النخبة الثقافية المتمثلة في بعض الفقهاء، وطلائع التنوير المتمثلة في الفلاسفة وأتباعهم بعد سلسلة طويلة من الانقلابات والثورات الفاشلة، فكانت النتيجة أن أفضى الأمر إلى ممارسة "التقية" عند الشيعة، وأيضا تحريم الخروج نهائيا وتكفير الخارجين بصورة لم تكن موجودة في أدبيات الفقهاء وعلماء الدين خلال المراحل التي سبقتها عند أهل السنة، وكان في النهاية الارتكاس الحضاري كمسلمة حتمية لمجمل الصراعات الداخلية في الدولة التي كانت رد فعل لصور شتى من الظلم والاستبداد.


أتكلم عن هذا المفهوم الذي يغلب عليه الجانب السلبي باعتباره الذي ساد واستحكم لفترة طويلة ولا تزال بعض من معالمه موجودة اليوم وإن أقل، وإلا فقد شهدت فترة صدر الإسلام والخلافة الراشدة تطورات هائلة لا في هذا المجال فقط؛ بل في مجالات متعددة، وقصة عمر والثوب "من أين لك الثوبان يا عمر"؟ أرقى مشهد حضاري وأنصع صورة لمفهوم المواطنة التي من أهم معالمها حق المساءلة الشعبية إلى جانب حق المشاركة وحق المراقبة، ومواقف أخرى كثيرة أيضا تجسدت في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ومن بعدها اختفى هذا المفهوم إلا في أضيق نطاق تبازغ وعلى استحياء بعد ذلك حتى نهاية الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وقد تأثرت بعصر الأنوار الأوربي فسنت القوانين المتعلقة بالحقوق العامة والمساواة بما يتوازى مع المساواة في الغرب وبصبغة إسلامية نقية..
هذا عن مفهوم المواطنة قديما، فماذا عن المفهوم اليوم؟


الواقع أن الحديث عن مفهوم المواطنة اليوم قد أصبح واحدا ومتشابها إلى حد ما في أنحاء المعمورة، وخاصة مع شيوع المواثيق الدولية وانتشارها، وقد أخذت طابع الإلزامية العالمية لكثير من الشعوب، وأعتقد أن لذلك علاقة وثيقة بنشوء المدنية ومفهوم الحضارة، لأن مفهوم المواطنة على النحو الإيجابي لم يتبلور إلا بعد نشوء المدينة واستقرارها، قديما وحديثا، وكلما أوغلت الدولة في المدنية والحضارة كلما تطور المفهوم إيجابيا، والعكس أيضا صحيح.




مفهوم المواطنة في الغرب
لا يختلف مفهوم المواطنة في الغرب عنه لدى العرب كثيرا الآن بصرف النظر عن المراحل التي مر بها عند الطرفين؛ فقد وصل المفهوم لدى الغرب إلى دلالة أوسع وأرحب على الصعيد النظري، وإلى واقع ملموس على الصعيد العملي واقترب منه الأمر لدى العربي إلى حد ما وإن من طريق آخر.


ففي الغرب قديما وتحديدا عند اليونان نما المفهوم مبكرا، وتطور بتطور الفلسفة التي عرفت بها عاصمتها أثينا وانتشار المدارس والأكاديميات، ومع تكون ونشوء المدينة على نحو حضاري ومدني حينها قبل الميلاد بقرون، فأول تعريف للمواطنة ـ تقريبا ـ نجده لدى أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حين عرَّف المواطَنة بقوله: "المواطنة بالمعنى المطلق للكلمة لا يمكن تحديده بسمة أفضل من المشاركة في الوظائف الحقوقية والوظائف العامة بشكل عام" وكان ذلك بالفعل على الصعيد العملي ولكن ليس لكل الفئات الموجودة في الشعب، مع الإشارة هنا إلى أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن حق المواطنة آنذاك لا يمكن اكتسابه عن طريق الولادة الشرعية في المكان؛ إنما عن طريق امتلاك العقار كشرط ضروري للحصول على حق المواطنة الكاملة، وهو ما سار عليه الأمر زمنا طويلا في اسبرطة، وبالتالي حُرم منه كثير من غير المالكين في المجتمع الاسبرطي حقوقهم، ومن بين ذلك الأغلبية الغالبة من النساء اللاتي كن يُورَثن ويمُنعن من المشاركة العامة وكانت الثقافة السائدة حينها أن المرأة الشريفة لا يسعها إلا بيتها؛ إذ لا يليق الخروج إلى الشارع بالمرأة الشريفة!! كما هو الشأن نفسه أيضا إبان ازدهار مجد الإمبراطورية الرومانية خلال القرنين الثالث والرابع الميلادي ابتداء من عهد الإمبراطور قسطنطين الأكبر فما بعده، غير أن المفهوم لم يشمل الأقليات الأخرى غير الرومانية في المجتمع الروماني من مثل اليهود على وجه التحديد الذين نكَّل بهم الإمبراطور بعد أن اعتمد المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الواسعة التي توحدت شرقا وغربا لأول مرة على يده، وقد بدأ التراجع في المفهوم يتراجع بعد ذلك ليس في الإمبراطورية الرومانية فحسب؛ بل في أنحاء أوربا، وخاصة منذ بداية عصور الإقطاع الأوربي وسيطرة طبقة النبلاء على مقاليد الأمور بصورة وحشية مدة طويلة، وهو ما أفضى في النهاية إلى تحول جديد مع بداية عصور النهضة الأوربية منذ القرن السادس عشر الميلادي فما بعده؛ حيث شهد المجتمع مخاضات عسيرة في عملية التحول باتجاه الحضارة والمدنية انقلبت مع هذا التحول كافة الموازين الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه اليوم.


وقد ظهرت لأول مرة في العام 1689م وثيقة الحقوق العامة في انجلترا وتبعتها عرائض ووثائق أخرى لم يكن آخرها الإعلان الدولي لحقوق الإنسان عام 1948م وإن كان يحمل طابع العالمية إلا أنه أوربي الفكرة والمولد..


وتعرف دائرة المعارف البريطانية المواطنة بأنها علاقة بين فرد ودولة، كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق متبادلة في تلك الدولة.


فالمفهوم السائد اليوم في أوربا هو في حقيقته امتداد للمفهوم الفلسفي والثقافي الذي وضع أسسه فلاسفة عصور التنوير من أمثال مارتن لوثر كنج، وجون كالفن، وجون لوك، الذي يعتبر من أوائل من أرسى قواعد ومبادئ الديمقراطية الدستورية، وتأثر بها كثيرا بعد ذلك فلاسفة الثورة الفرنسية من أمثال فولتير وجان جاك روسو، وأيضا مونتسكيو وجورج برناردشو وغيرهم، وقد أصبح مفهوم المواطنة في أوربا اليوم يعني تحديدا تشارك طرفين متوازيين هما السلطة والمواطن في الحياة العامة بصورة إجمالية ومن منطلق أن لكل طرف على الآخر واجبات وله مقابلها حقوق، إلا أن ثمة إشارة مهمة يجدر التنبيه إليها وعادة ما يتجاوزها الكثير من الكتاب والمفكرين في هذا الجانب، وهي أن التحولات الجديدة في المنظومة التشريعية للرأسمالية المعاصرة قد أثرت سلبا على مفهوم المواطنة بطريقة غير مباشرة؛ حيث سلبت الرأسمالية المفتوحة ــ وأعني بها المتحررة من تدخلات الحكومات وإفلاتها من كل الضوابط الأخلاقية ــ مبدأ المساواة العامة بين المواطنين ليس في الجانب الاقتصادي فحسب؛ بل وفي مختلف الجوانب؛ حيث لم يعد بوسع الطبقة المحدودة الدخل المشاركة السياسية مثلا على نحو فاعل كما كان سابقا، بعد أن أصبحت المادة نفسها أحد عوامل القفز السياسي والتغلب الاجتماعي، وخاصة في مجتمع يقدس المادة والمنفعة بصورة غير معهودة عن ذي قبل. ومما هو كائن اليوم فإن الرأسمالية المتوحشة قد زادت الغني غنىً كما زادت الفقير فقراً. وجاءت مؤخرا العولمة بمفهومها المنحاز أيضا التي لا يصيب من خيراتها إلا القوي وبقدر قوته؛ أما ضررها فلا يصيب إلا الأضعف منفردا فقط!!


هذا السطو العنيف من قبل الرأسمالية المتوحشة جاء نتاج تحولات اقتصادية في حركة السوق بلا رقيب من قبل الدولة، لم يصاحبه تحول جديد في مفهوم المواطنة؛ إذ بقي المفهوم على نمطه الكلاسيكي الذي تبلور بعد مخاضات عدة عقب الحرب العالمية الثانية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م. وهو في حقيقته مفهوم إيجابي، والأصل أن تقاس عليه المفاهيم الأخرى في الاقتصاد والسياسة وغيرهما، وتصبح تابعة له بدلا من أن يكون تابعا لها، وإن كان الأمر يقتضي إعادة النظر في صياغة المفهوم بعد تغول ثقافة العولمة التي تجتاح أخص الخصوصيات لأي إنسان على ظهر البسيطة، بحيث يتعدى مفهوم المواطنة البعد القومي أو القطري الذي كان حاضرا إبان تشكل أو تعملق الدولة القطرية أو القومية خلال العقود الأولى وما بعدها من القرن الماضي إلى البعد الكوني العالمي الذي تتجه إليه العولمة اليوم.


أخيرا: مفهوم المواطنة متغير وجدلي، محكوم بفلسفة الزمان والمكان كما أسلفنا، إلا أنه في جذره الأصلي لا يتجاوز ثلاثة حقوق رئيسة يدور حولها في الغالب، وهي على الصعيد السياسي حق المشاركة في الحكم، وحق المساءلة للحكام، وحق الرقابة عليهم. فيما هو على الصعيد الاجتماعي حق العيش بأمان، والأمان أو الأمن هنا بمفهومه الواسع، شاملا الأمن النفسي، والأمن الغذائي، والأمن الثقافي، والأمن التعليمي، والأمن العلمي، وأيضا أمن المعلومات اليوم، مقابل واجبات يقوم بها تجاه دولته، تختلف تفاصيلها من نظام إلى آخر، ومن زمن إلى زمن. وربما أضافت لنا العولمة حقوقا أخرى لمَّا تتشكل معالمها حتى الآن على مختلف المجالات إلا أن هذا لا يزال رهنا بوفاق عالمي يقتضي أولا اعتراف الأقوى بحق الآخر، وتمكينه من ممارسة حقه بلا تدخل أو وصاية أو فرض رؤى وتصورات على أحد.
الوطن والهويات


قد تتعدد الهويات والانتماءات داخل الوطن الواحد من دينية وعرقية وثقافية، ولكل منها مرجعيتها الخاصة في الثقافة والسلوك؛ لكن تبقى هوية الوطن فوق كل الاعتبارات، وفوق كل الهويات، لأنها الخيط الناظم للجميع في المحصلة النهائية، وللمصلحة المشتركة التي ينطوي تحت لوائها الجميع بلا استثناء.
لا تضاد أو تناقض بين أن ينتمي الجميع في الوطن الواحد إلى الأديان المختلفة فيه، أو الأعراق والسلالات وغيرها، فهذا من قبيل التنوع، كما هو الشأن في الهند مثلا أو ألمانيا أو أمريكا، أو حتى سويسرا على صغرها، لكن شريطة ألا تمثل هذه الانتماءات أيديولوجيات صارمة لمنتسبيها تطغى على أيديولوجية الوطن، باعتباره البيت الأوسع للجميع.


ومن الجدير بالإشارة إليه هنا أن الإسلام قد ضمن كل الحقوق في دولته لمن يدينون بغيره من الأديان، ما دام ملتزما بشروط المواطنة التي تتطلبها الدولة "عقد الذمة" وفي وثيقة المدينة بين الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ـــ من جهة، واليهود من جهة أخرى خير دليل على ذلك، لولا أن يهود المدينة هم من سعى إلى نقض العهود والتحلل منها لغير مبرر؛ بل لقد صار المستأمِنُ واحدا من أفراد الوطن، بمجرد استئمانه فيه. وقد نص أحد بنود الوثيقة على المساواة بين مختلف المواطنين في المدينة. "إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم. وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم، وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه"

وأيضا: النص الآخر: ".. وإن ليهود بني النجار، وبني الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة، وجفنة، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف"
هذا ما يتعلق بالجانب النظري، وعلى الصعيد العملي فالشواهد أكثر من أن تستقرأ أو تذكر..