الثلاثاء 23-04-2024 12:54:07 م : 14 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

سيكولوجيا النظرية الهادوية

الأحد 24 ديسمبر-كانون الأول 2017 الساعة 01 مساءً / الإصلاح – خاص – ثابت الأحمدي

 

من يتَتَبَّع أغوار وفجاج النَّظَريَّة الهادوية الجديدة والطارئة لا على اليَمنِ فحسب؛ بل على المنطقة العَربيَّةِ كلها، يلمح أمشَاجَها الثَّقَافيَّة الأولى قد تَسربتْ من خَارج حُدود المنطقة إبَّان الانفتاح الحضَاري الجَديد الذي حصل بين الثقافتين الإسْلاميَّة والفارسية، في إطار التأثر والتأثير بين المجتمعات؛ لاسِيَّما المجتمعات المتجاورة جغرافيًا، كما هو الشَّأن بين العَربِ والفُرس.


وقد كانت الخلفية الثَّقَافيَّة لهذه النَّظَرِيَّة فارسية الصُّنع، حيثُ النظرة المُقَدسَة للحاكم "الشاهنشاة ـ ملك الملوك" حد السجود له التي فاجأت الاسكندر المقدوني حين غزا بِلاد الشَّرق، فتفاجأ بطقوس المُلك الموجودة فيها، من تبجيل للملك والسُّجود له.. من رهبة البلاط الملكي أو الأميري.. من أُبهة الأروقة، حتى عمد لنقل بعض هَذِه الطقوس والمراسيم بما في ذلك التاج نفسه الذي كان غريبا عليهم، إضافة إلى السُّجود وتأليْه الحاكم، الأمر الذي جَعل المقدونيين يرفضون بعض هَذِه المراسيم الجديدة الوافدة عليهم.!


وهذه الفكرة متماهية وممتزجة إلى حد كبير مع فكرة "الحق الإلهي" لدى الفرس، وأيضا الصينيين والهنود من قبلهم، فيما يتعلق بالحاكم لديهم الذي يستمد سُلطته من السَّماء، وهو القدر المحتوم بالنسبة للشعب ولا مناص منه، سواء أكان مستبدا أم عَادلا، كما هو الشَّأن نفسُه لدى الفراعنة الذين يعتبرون الملكَ شخصية إلهيَّة مقدسَة، عليم بكل شيء، لا يرُد له أمر؛ فهو وحده المشرعُ والمنفذ، إلى حد عدم جواز الاقتراب منه؛ بل حتى ظله فإنه مُقدس، وعند اليابانيين سَابقًا فإنَّ الملك هو إله الشَّمس الذي يحكمُ الكونَ كله. وقريبا من هَذِه الحال عند البابليين. وقَدْ ظَلتْ الفكرةُ بالنسبة للفُرس باقيةً ومتجذرة في ثقافتهم حتى بعد الإسْلام، كما تسرَّبت أيضًا للفكر الإسْلامِي بصورة تشبه ما عليه الحاكم عند الفُرس، نلحظ ذلك حتى في بعض أدبيَّات أهلِ السُّنة أنفسهم، وإن بصورة خفيفة، خاصَّة ما تبناه الخلفاء، ونلمحه بوضوح في "الأدب الكبير" لابن المقفع، الذي دشَّن القول في الأيديولوجيا السُّلطانية، كما أشَار إلى ذلك المفكر العربي محمد عابد الجابري، وإن كانت ثمة بعض طقوس من هَذا القبيل قد تجسدت ابتداء من حُكم معاوية، وبرزت بصورة أكبر أثناء فترة عبد الملك بن مروان، المؤسس الثاني للدولة الأمويَّة.


يقول معروف الرصافي في "الشخصية المحمدية" وهو بصدد الحديث عن إسلام الفرس وتعاملهم مع الدين الجديد، بعد القادسية: ".. إن الفُرسَ المغلوبين على مُلكهم كانت نفوسهم في صدر الإسلام تتقدُ غيظا، وقلوبهم تضطرم حقدا على العرب الذين كانوا هم الرافعين لواء تلك النهضة العربيَّة الإسلاميَّة، والذين اكتسحوا بجيوشهم الجرارة بلادَ فارس من أدناها إلى أقصاها. ثم إنهم دخلوا في الإسلام كرها، وأخذوا يعملون على إعادة ملك الأكاسرة من طريق الدين، فتظاهروا بحب علي وأولاده من أبناء الحسين، النازلين من صُلب ابنه علي زين العابدين الذي يمتُّ بنسبه من جهة أمه إلى الأكاسرة، ملوك الفرس.."


مضيفا: "هذا هو أساس فكرة التشيع، ثم اتسعت هذه الفكرة، وتشعَّبتْ بمرور الزمان، فافترق لها المسلمون إلى فرق وطوائف شتى، كلهم متعادون محتربون"
ومن عُهود "أردشير" الفارسي: "واعلموا أن الملك والدّين توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه؛ لأن الدين أسُّ الملك وعماده، ثم صار الملك بعدُ حارسَ الدين، فلا بد للملك من أُسِّه، ولا بد للدين من حارسِه، فإن ما لا حارس له ضائع، وإن ما لا أسّ له مهدوم، وأن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السَّفلة إياكم إلى دراسة الدين وتأويله والتفقه فيه، فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم، فتحدث في الدين رياسات مُستسرات فيمن قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة النَّاس والرعية وحشو العامة. ولم يجتمع رئيس في الدين مسر ورئيس في الملك معلن في مملكة واحدة إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك؛ لأن الدين أسٌّ، والمُلك عماد، وصاحب الأس أولى بجميع البنيان من صَاحِب العماد"


وهذه الحالة أيضا هِي من الموروث اليهودي، وأيضا التَّعاليم المَسِيْحيَّة التي عَلِقت بالثقافة الملوكية في مرحلة ما بعد المسيح، عليه السلام. ونلمحها جليَّة في رسَالَة القديس بولس، المؤسس الثاني للمسيحية، ذي الجذور والثقافة اليَهُوديَّة في إحدى رسائله: "أيها العبيد أطيعوا في كل أمر سَادتكم البشريين.."
نَظَرِيَّةُ البطنين من حيثُ بُنيتها النَّفسِيَّة "السيكولوجية" لا تختلف عن أيةِ نَظَرِيَّة شُمولية من النَّظَريَّات السِّيَاسِيَّة في الحكم، لها ظاهرٌ ولها باطن، إن أخفت أدبياتُها النَّظَرِيَّة ظاهرَها، أظهرت ممارساتُها العملية حَقائقَها. وإن قَال صاحبها أنها ابنة مَكانها ـ كادعاء "شوفيني" ـ أظهرت الاستقراءات التَّارِيْخِيَّةُ أنها ابنةُ الزمان الممتد من خارج الزمان والمكان معا!


يَدعي صاحبها روح الجَمَاعَةِ بما تحملُه قيم الجَمَاعَة من شُورى وديمقراطيَّة وتَعَاون وإخَاء، بينما هِي في حقيقتها نزعةٌ فرديةٌ، بما تكرسُه نزعةُ الفرد من تسلط واستبدادية وأنانية مفرطة. فمثل هَذِه النَّظَريَّات الشُّمولية ليست إلا نمط التفكير الخاص بما يحمله من موجهات وثقافة وتفكير المنظر نفسه، المتشكل من الوعي التاريخي بالسلطة، مضاف إليه التصرف أو السُّلوك العملي على أرض الواقع. وهو تفكير أساسه الـ "أنا" بكل نزواتها، سواء "أنا" الفرد أو "أنا" الجماعة، وفي "برومير الثامن عشر لويس بونابرت" لكارل ماركس لمحات واضحة لهذه الأنوية المفرطة التي تتخفى وراء المثاليات، لكن مخالب الوحش التي تسكن هَذا الشَّخص أو تلك الجَمَاعَة هِي الغلاّبة عمليًا.


ولأنَّ مثل هَذِه النَّظَريَّات السِّيَاسِيَّة مرجعُها بالنهاية فرد أو جمَاعة، أساسُها العرق والعنصرية، بما تحتويه نزعة هَذا العرق أو طغيان تلك العُنصرية، فهِي مستبدة بطبعها؛ لأنها تريد إخضاع الآخرين لنمط معين من السُّلوك، بل وحتى الفِكر والثقافة لكل الجَمَاعات الأخرى. ولك أن تتخيل أن الحاكم بأمر الله الفاطمي ـ أحد من حكموا مصر على أسَاس هَذِه النَّظَرِيَّة ـ لما تسلَّم مقاليد الحكم كان أول ما أمر به أنْ قَتل أستاذه ومعلمه "بيرجوان" وادعى الألوهيَّة، وأمرَ النَّاس بالسُّجود له حين يذكر الخطباء اسمَه على منابر المسَاجد، كما أمر بإغلاق الأسْواق نهارًا وفتحها ليلا، وحرم على النِّسَاء لبس الأحذية والخروج من منازلهن، وحَرَّم أكل العسل والزيت والملوخية، واقتلاع الكروم!


"ولأن كل سُلطة ترتد في نهاية الأمر إلى فرد.. قائد.. زعيم.. ملك.. رئيس.. أو إلى أفراد: مجلس.. لجنة.. أو إلى جَمَاعَة أو جماعات: حزب.. جماعة.. طائفة.. قبيلة، فإن كل سُلطة تقوم على الأسَاس النفسي العقلي للفرد أو الأفراد أو الجماعة، أو الجَمَاعات الذين يمارسون السُّلطة؛ أي أن سيكولوجية سُلطة مُعينة هِي في حقيقة الأمر سَيكولوجية فرد، أو أفراد أو جَمَاعَة في السُّلطة ـ وهم في السُّلطة ـ وهَذا ما يكاد ينطبق بشكل كامل على الأنظمة الشُّمولية، وعلى أنظمة الحزب الواحد والتنظيم الواحد والرأي الواحد الذي لا يقبل الآخر؛ بل يَسعى جاهدا إلى إبعاده ونفيه"


نظرية البطنين الدينية/ السِّيَاسِيَّة هِي ذاتها من حيثُ التعصُّب نَظَرِيَّةُ النازية/ العرقية، خاصَّة أن كلتيهما تعتمدان على العِرق أو العُنصر؛ إذ قرر هتلر أن العرق الآري ـ وفق النَّظَرِيَّة الجديدة ـ هو العِرقُ الأفضل والأرقى وسَيد العالم بلا منافس، والذي يجب أن يحكم أوروبا كلها. فقضى إثر ذلك على الحريات الفردية وصَادر الحقوق المدنية، وأصبح الجميع أحزابًا وشخصياتٍ ومنظماتٍ يدورون في فلك النازية الهتلرية الجديدة، وتم نقل سُلطات المجلس التشريعي إلى مجلس الوزراء الذي يرؤسه "الفوهرر" فكان وحده هو الحزب وهو الدولة!


وذاتُ الأمر بالنسبة للفاشيَّة التي لا تؤمن إلا بالقوي وحقه في الحيَاة وإزاحة الأضعف؛ بل عدم الاعتراف به، بما في ذلك مُنظمات المُجتَمع المدني والحُريات الشخصيَّة. وإذا كانت النازية أساسُها العرقية، فإن الفاشية أساسُها القوميَّة؛ لذا فمَن دونهما من الأقليات أو الجَمَاعات هم أدنى منزلة، حقوقهم منقوصة، وأصواتهم غير مسموعة، ومن حيثُ تعاملها مع الفرد فهِي تتبنى رأي النَّظَرِيَّة الاشْتراكيَّة هنا "الفردُ من أجْل المجموع" وإن كانت تناوئ الاشتراكيَّة سِيَاسِيًا. هَدفها العَام التَّحكم لا الحُكم، كما أسْلفنا. وكل جَمَاعَة تأسَّستْ على نَظَرِيَّةٍ شُمُوليةٍ من هَذا القبيل تعمل على اختزالِ الدَّولَة كاملة في ذاتها، فترفض كل صوت مُعارض، متوجسة منه حد الهوس؛ بل ربما رأى المتسلط في قصيدة شعرية ما أو مقالٍ مناوئ لكاتب ما، بمثابة كتيبة عَسْكرية تزحف نحوه، أما إذا تجمهرت الأصواتُ المعارضة فذلك هو الجنون بعينه بالنسبة لها!


يقول الإمَامُ عبد الله بن حمزة: "ونحن طَلبةُ الحَقِ الذي غُلبنا عليه، وورثة العِلم الذي دعونا إليه، ونحن الموتورون، وطَلبة الدم، ولو لم يبق من عمر الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليَوم حتى نملك الأرض بين أقطارها على بني العباس، وعلى غيرهم من الناس، قَال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }الأنبياء:105. ولا يكون ذلك إلا من تلقاء اليَمن، وربك أعلم مَن صاحبه؛ وكل مُستحق يرجو أن يكون صَاحِبَ ذلك، ليُعزَّ دينَ الله، لا ليوسِّع في الدنيا.."


ثمة نص أدبي في رواية تحمل اسم الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، اسمها "الفرار إلى جهنم" تُقرر هَذا الشعورَ النفسي بأصدق ما يكون، مجسدا فيه حالته الشعوريَّة التي آل إليها هو بنفسه في آخر لحظاته، وكأنما كتب عن نفسِه!


يقول: "ما أقسى البشرَ عندما يطغون جماعيًا! يا له من سيل عرم لا يرحم مَن أمامَه، فلا يسمع صُراخه، ولا يمد له يده عندما يَستجديه أو يستغيث؛ بل قد يدفعه أمامَه في غير اكتراث. إن طُغيانَ الفرد أهونُ أنواع الطغيان، فهو فرد في كل حَال، تزيله الجمَاعة، ويزيله حتى فرد تافه بوسِيلة ما، أمَّا طُغيان الجموع فهو أشَد صُنوف الطغيان. فمن يقف أمَام التيار الجارِف والقُوة الشَّاملة العَمياء؟ يا للهول! من يخاطب الذات اللاشاعرة كي تشعر؟!من يناقش عَقلا جَماعيًا غير مجسد في أي فرد؟! من يُمسك يد الملايين؟! من يسمع مليون كلمة من مليون فم في وقتٍ واحد؟! من في هَذا الطغيان الشَّامل يتفاهم مع من؟! ومنْ يلوم من؟! .."


أخيرًا.. النَّظريَّةُ الهَادَويَّة نَظَرِيَّةٌ أصُوليَّةٌ لأسْرة تلهثُ وراء الحكمِ من أجل التحكم والسَّيطرة، ولا تعترف بالآخر أبدا؛ لأن أي أصُوليَّة هِي متخلفةٌ ومتعصبةٌ بطبيعتها، ولا ترى إلا نفسَها فقط. تنظر إلى الوَطَن باعتباره إقطاعيَّة خاصَّة بها، وتتعامل مع ثرواته كما يتعامل البدو الرحل مع الماء والكلأ، غنيمة أسبوع أو شهر أو موسم ليس إلا؛ لأن الوَطَن كأيديولوجيا وعقيدة راسخة في الوجدان قد غاب، أو بالأصح تم تغييبه هنا، ليحل محله أيديولوجيا الجَمَاعَة بفكرها المتخلف التي تتصارع مع الشعب، متحفظة بحقها في التمجد دون سواها، وقَدْ اختصرت كل الاستراتيجيَّات والأولويات الوطنيَّة في مصالحها الخاصَّة على حِسَاب الكيان الوطني العام؛ فالعصبويات لا تبني أوطانًا، ولا تقيم عُمرانًا. تعتمد في ثرائها ـ غالبا ـ على حد السَّيف بدلا من أداة المحراث، لا تهتم بالبناء والإنتاج، بقدر ما تهتم بالفيْد أو الغنيمة التي عادة ما تكون على حِسَاب السَّواد الأعظم من الناس. ويزداد الخطر أعظم حين تقرن عصبيتها هَذِه بعقيدة دينيَّة سَاندة، تَستَطِيْعُ تسْويقها بين العَامَّة الذين تعمد إلى تجهيلهم وتبخيسهم وجُوديا، ليفضي الأمرُ إلى فرز اجْتماعي يجعلُ من المواطن مجرد تابع ذليل، فاقد لهويته ولإنسانيته وغير واثق من قدراته، مُقابل جَمَاعَة أو عُصبة متألهة، ترى نفسَها فوق البَشر ودون النبي، مواطن غير مُتشارك أو حتى مُتسائل، فلقد كفتْه النَّظَرِيَّةُ مؤنة التَّشارُك والتسَاؤل؛ بل والتَّفكير، فسيده أعْرف بِمصَالحه منه، وبالتالي فهو يفكرُ بدلا عنه ويحكمُ بدلا منه. وعادة ما تتقزم أحْلامه وتتصاغر حد التلاشي، فيكون مجرد العيش في الحُدود الدنيا هو مطمع نفسِه أولا وأخيرا، وقَدْ كبَّلته الخرافةُ والوهمُ من كل جَانب.