الجمعة 29-03-2024 18:33:05 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

مبضع طبيب.. شيءٌ من القوة لبناء الدولة

الأربعاء 13 ديسمبر-كانون الأول 2017 الساعة 09 مساءً / الإصلاح – خاص – ثابت الأحمدي

 

والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم.
هكذا قال المتنبي قديما في أدق تشريح نفسي "سيكولوجي" قبل ظهور "الأنا" و "الأنا الأعلى" و "الهو" وعلم نفس الشخصية. ونظريات علم الاجتماع السياسي، مشيرا إلى حالة أزلية في النفس البشرية، من الصعب التخلص منها بالموجهات المثالية أو الفلسفات التنظيرية غير المصحوبة بالقوة الرادعة. وربما كان قد سبقه إلى ذلك مغنية الرشيد في ذينك البيتين اللتين كانتا سبب نكبة البرامكة في عصره، حين قالت:


ليت هندًا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجـد
واستبدت مرة واحـــدة إنما العاجز من لا يستبد

وقبلهما معا، قال الشاعر الجاهلي، زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ومن لا يظلم الناس يُظلم

لا فرق بين ما قالته المغنية الأثيرة، أو ما قاله الشاعران الحكيمان.. فقد أثبتوا حقيقة إنسانية واحدة عبر الزمن. وهو حب التسلط والميل إلى الاستبداد، وربما الطغيان. وما ينطبق على الإنسان باعتباره فردا، ينطبق على الجماعة تماما، من منطلق النفس الإنسانية لها.


ومن هذا المنطلق، ولذات السبب تنزلت الأديان، وكانت الشرائع، وتعددت الفلسفات، وسُنت القوانين والتشريعات والأعراف؛ سواء الأرضية أم السماوية. وقد كان من ضمن أهداف الشرائع السماوية، إلى جانب ربط الإنسان بالسماء روحيا، أيضا الانتصاف له من أخيه الإنسان (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)!! لأن الإنسان يتصرف بوحشية أحيانا تجاه أخيه الإنسان. ولن يكون الانتصاف الكامل والتام إلا بالقوة الرادعة؛ لأن الشرائع أو الفلسفات والقوانين لا تكفي وحدها نظريا لضبط أخلاق الناس وتوجيه سلوكهم، ورسم حدود التعامل بينهم، وأن من يتأثرون بالتوجيهات النظرية هم الأقل، فيما الأغلب لا "يتأنسنون" إلا بالقوة والردع وتفعيل مبدأ العقاب لمن أساء. ليس ذلك فحسب؛ بل إن كل إنسان متوحش وقاتل، يستطيع حشد المبررات والحجج لتبرير إجرامه وربما لتزيينه في عيون الناس. وما الفتوى والفتوى المضادة في الأديان إلا ملمح من ملامح هذا التبرير الذي يسعى للقضاء على الآخر بالقوة؛ لأن التكفير في الأديان ما هو إلا مقدمة للقضاء على الخصم من أجل ارتكاب الجريمة المحللة، وهو القتل..! ونظير التكفير التخوين أيضا لدى الشوفينيين واليساريين الذين لهم فتاواهم الخاصة هنا..!

 


في تأسيس الدول
يرى الفلاسفة وعلماء الاجتماع: إن الإنسان مدني بالطبع، أي كائن اجتماعي، يؤثر ويتأثر ويتفاعل مع غيره. فهو لا يستطيع العيش بمفرده أبدا، وإن حاول ذلك. ومن هنا يبدأ التداخل ويبدأ الصراع بين المجتمع، أفرادا وجماعات. فأرسطو مثلا يقول: إن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش منعزلًا، فهو يشعر بمَيلٍ غريزيٍّ للاجتماع، فيلتقي الذكر بالأنثى مكونَين بذلك وحدةً اجتماعيةً صغيرةً وهي الأسرة، وتتفرَّع الأسرة وتتشعَّب مكونةً العائلة، فالعشيرة، فالقبيلة، فالمدينة التي تكون نواة الدولة؛ لذا كان لابد من الخيط الناظم لهذا المجتمع الذي يضبط مساره، ويرشد سلوكه وتصرفاته ولو في حدها الأدنى. ويمثل الرئيس/ الملك/ الإمام/ الخليفة.. إلخ واسطة العقد في هذه العملية، كسلطة سياسية هي في الأصل امتداد للأبوة المنزلية/ العائلية، أي أن السلطة السياسية هي أبوة أكثر توسعا وأكثر عددا، جمعتهم المصلحة المشتركة في الجغرافيا الموحدة، وكل منهم منوط به دور معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى لا يختل النظام. ولن يكون ذلك إلا بالقوانين المتعارف عليها كالدساتير والقوانين واللوائح في الدول المتقدمة والمستقرة أو بالقوة القاهرة في المجتمعات المتأخرة والبدائية، خاصة التي تتسم بالعرقيات والأجناس والجماعات المتعددة، ولا اعتبار ولا قيمة لكل هذه التنظيرات والفلسفات على الصعيد العملي ما لم تكن مسنودة بقوة قاهرة تفرضها على الناس، ومن هنا تكتسب الدولة اسمها، أما إذا فقدت السيطرة والتحكم فأول ما تفقده هو اسمها، ولم تعد دولة، كالإنسان تماما إذا مات سرعان ما يُقال عنه "الجنازة" أو "الجثمان" في لحظاته الأخيرة ولم يعرفوه باسمه..! فالقوة هي أساس الدولة، وهي سر بقائها.


وبما أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، ولأن تحقيق المصالح ودرء المفاسد في المجتمع مسألة نسبية، ومبدأ ترجيحي، يتداخل فيه الضرر الأصغر مع الضرر الأكبر، والمصلحة الصغرى مع المصلحة الكبرى، وأيضا المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة، فإن من الطبيعي أن ينشأ بين الجموع من يقف على طرفي نقيض من التشريعات الكلية أو المصالح العامة؛ لا لشيء، إلا لأن مصالحه الخاصة تضررت، ولأن المجتمع قد قضم جزءا مما يراه حقا شخصيا له. فمثلا كان السبب الأكبر لرفض دعوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبل أعمامه وأقاربه هو تعرض مصالحهم الطبقية للتراجع جراء الدعوة الجديدة التي تحرم الربا والغش والاحتكار وتجارة الجواري والرقيق التي كانوا يمارسونها على حساب السواد الأعظم من الناس، ولهذا كفروا به، وقاتلوه وناصبوه العداء؛ لأن مصالحهم الخاصة تعرضت للخطر، والناس عبيد مصالحهم. وهو ذات الشأن مع كل الأنبياء من قبله الذين مثَّل ابتعاثُهم إلى أقوامهم حالة من الإنقاذ المجتمعي العاجل، جراء تغول مفسدة اجتماعية ما.. كما هو ـ أيضاـ مع الفلاسفة الذين ظهروا في مجتمعاتهم مصلحين وناصحين؛ بل لقد تم قتل بعض الأنبياء والفلاسفة من قبل الطبقة العلية التي لا يروق لها هؤلاء المصلحون ولا دعواتهم..


على أية حال.. منذ القدم والدولة بمفهومها السياسي مشكلة الناس جميعهم، ولهذا كانت التشريعات والتنظيرات والفلسفات. وقد أخذت عدة أشكال وأنماط، رضي عنها من رضي، وعارضها من عارض. ولا تزال حتى اليوم همَّ الناس وغايتهم.


كل ديمقراطيات العالم الحديثة خرجت من رحم الديكتاتوريات، وبلا استثناء. حتى بدا المشهد وكأن الديكتاتورية هي بوابة العبور الأولى للديمقراطية على تناقضاتهما. فبريطانيا ـ المتقدمة اليوم ديمقراطيا ـ لم تعرف الديمقراطية إلا بعد خمسة عقود متتالية من الديكتاتورية الحاكمة عقب الحرب الأهلية. ومثلها فرنسا التي خضعت لنير الديكتاتورية ما يقارب تسعة عقود. كما هو الشأن أيضا لدى اسبانيا التي أخضعها الجنرال فرانكو من العام 1936 إلى عام وفاته في 1975م بالقهر والحكم العسكري الصارم، ليتركها بوفاته ولكن بعد أن أصلح اقتصادها وقضى على الحرب الأهلية وتركها تنافس اليابان في التنمية والتقدم..


تتأسس الدولة أولا من اللادولة.. من المجتمع المشاعي أو القبيلة، ويكون تأسيس الدول مرهون بقائدها ومؤسسها الأول الذي يفرض شروطه بالقوة بين جماعات متباينة ترى في الدولة تقويضا لمصالحها الخاصة الطبقية أو العشائرية، وعادة ما تميل إلى النزعة الفردية في تعاملها، وتنفر من التفكير الجمعي ومن القانون والتوجيهات الفوقية، فيأتي القائد أو المؤسس الأول لفرض إرادة الدولة على الجميع بصرامة تستدعي القمع والقهر وصناعة ما يعرف بـ "دولة الإكراه" للجميع. وعادة ما تأخذ سنوات تختلف من دولة لأخرى، ومن مؤسس لأخرى. ومهما قيل عن القمع والقهر والإفراط في استخدام القوة إلا أن ذلك في إطار المشروع والفعل الصحيح، باعتبار مآلاته، ووفقا لسبينوزا فإن الأفعال تكون صوابا بقدر ما تساعد على زيادة السعادة، وخطأ بقدر ما تساعد على إنتاج ما هو عكس السعادة.


تلي "دولةَ الإكراه" كمرحلة ثانية "دولةُ الاستبداد" كمرحلة ثانية في التأسيس بعد أن انتقل الناس من المشاع أو القبيلة أو العشيرة إلى الدولة في صيغتها الأولية التي يغلب عليها الصراع والاضطراب والمعاركة، وعادة ما تأخذ عمر جيل كامل، أي ما بين 40 إلى خمسين عاما بعد أن يتقبلها الجيل الأول كأمر واقع، وقد تقل عن ذلك، وفقا لمعطيات هذا الشعب أو ذاك، المتشكلة من الجغرافيا والتاريخ والثقافة..


وفي دولة الاستبداد ـ وهي المرحلة الثانية من نشوء الدول ـ يتقبل الناس الدولة كأمر واقع، وتبدأ هذه المرحلة بالتأسيس للقوانين والتشريعات وبسطها كاملة على الجميع بلا استثناء، كما تبدأ المصالح العامة تتحقق للجميع، ويبدأ الرفاه الاجتماعي يتحقق ولو في حده الأدنى، مع وجود نزعات تبرم بين الحين والحين من بعض الفئات أو الشخصيات من هذا النظام الذي يراوح ما بين القسوة والعدالة، غير أنها قسوة القوانين لا قسوة المزاج التسلطي الخاص للحاكم الذي يغلب على المرحلة الأولى من التأسيس، ويقضي في هذه المرحلة على أطماع المتنفذين من البرجوازيين وبقايا الإقطاعيين الذين يفترض أن تكون دولة الإكراه قد قلمت أظافرهم، وهذبت من غرائز الوحش الذي يسكنهم، كما حصل مع جورج واشنطن الرئيس الأمريكي الأول حين منعت الدولة استيراد العبيد من خارج الولايات المتحدة الأمريكية، فتمت معارضة هذا القرار من قبل بعض تجار العبيد الذين شكل لهم هذا القرار خسارة فادحة وتقويضا لدعامتهم الاقتصادية، إلى حد قيامهم بمواجهة الدولة وإشعال حرب أهلية، إلا إن إرادة النظام والقانون كانت أكبر من احتجاجاتهم ومعارضتهم، فتم تنفيذ القرار بقوة، وانصاع التجار لذلك بالقهر، ولولا القوة القاهرة لما تم تنفيذه. وتم حسم هذه القضية بصورة نهائية في عهد الرئيس لنكولن، بتحريم الرق نهائيا، سواء مجلوبا من خارج الولايات المتحدة أم داخلها في يناير 1863م. كما أن الرئيس الأمريكي الثاني جون آدمز قد أصدر قوانين رادعة ونفذها بالقوة القاهرة، كقانون "الأجانب" وهو قانون يتعقب أي أجنبي داخل أمريكا، ثبت تورطه في أية قضية تهدد سلامة أمريكا، وقانونا غريبا سماه "قانون الفتنة" ضد أي شخص ثبت حقده أو كذبه على الولايات المتحدة الأمريكية، وقد عمل خلفه توماس جيفرسون، الرئيس الثالث على إطلاق سراح من تم سجنه على ذمة الحقد أو الكذب على الحكومة. وأغرب منه "قانون التمرد" في عهد "جون آدمز" الذي منع الفيدراليين مجرد انتقاد القوانين التي تصدر مركزيا، ومنع أي انتقادات لشخص رئيس الجمهورية أو الكونجرس، وفرض عقوبات بالسجن والغرامة المالية لكل من يتكلم عن هذه المسائل..!


المستبدون على امتداد التاريخ أسسوا دولا وحضارات؛ الفراعنة على نهر النيل أو البابليون في الفرات، وغيرهم، ولم تكن تنشأ هذه الحضارات لولا طريقة الحكم في كلا المنطقتين، وأتكلم هنا عن الاستبداد "الديكتاتورية" بما هو نظام وشكل من أشكال الحكم السياسي لا عن الطغيان بما هو فوضى وعبودية واختزال للدولة في شخص الطاغية/ الحاكم كما هو الشأن لدى فرعون الذي حول مسار حكم العائلة من الاستبداد إلى الطغيان، فبعث الله موسى منقذا للشعب، أو كنموذج الإمامة في اليمن التي دمرت ماضيه وحاضره ومستقبله ولا تزال، باعتبارها حكما طغيانا لا حكما استبداديا.


المستبد يعدل على الصعيد الجمعي، ويظلم على الصعيد الفردي، يستند إلى مثل عليا في الحكم وفي الاستبداد؛ لذا عادة ما نجد المستبدين أكثر نزاهة وحرصا على المال العام وأكثر حفظا للقوانين والدساتير التي تحكم الناس، خلافا للطاغية الذي يرى نفسه هو الشعب والشعب هو.


خلال فترة من الزمن ــ يصعب تحديدها بفترة محددة ــ يكون الناس قد تشربوا مفهوم الدولة، وعرفوا معنى العدل، وتمدنوا ـ قسرا ـ في سلوكهم وفي مختلف مناحي حياتهم، فيميلون إلى حالة أكثر تمدنا وأكثر رقيا وتهذيبا، فتنشأ وفقا لمبدأ "الانتخاب الطبيعي" المرحلة الثالثة بصورة تلقائية وهي مرحلة "الحكم الرشيد" أو الحكم الديموقراطي، وهي أرقى الحالات جميعا، باعتبارها نتاج توجه ومطالب وحاجة الشعب نفسه، لا القائد الذي تتقلص صلاحياته، ويتقلص نفوذه إلى حده الأدنى في هذه الحالة، ويُعتبر مثل "مؤشر الساعة" يدير أكثر مما يحكم، كما أنه مقيد ومحكوم تلقائيا ببقية "التروس" داخل ماكينة الدولة التي تسيره وتضبط حركته ومساره. الرجل الأول في الدولة الديموقراطية هو "مؤشر الساعة" عين الناظر عليه وحده، فيما هو لا يملك من أمر حركته شيئا، فهو محكوم بحركة ونظام التروس من خلفه، بدقة متناهية، وهي حركة ودقة الدولة الديموقراطية، دولة النظام والقانون، الدولة الضامنة للجميع التي يقل فيها النزاع وينعدم فيها الصراع، فلا نظام غير نظام الدولة، ولا صوت يعلو على صوت القانون.