الخميس 02-05-2024 07:32:29 ص : 23 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

تعز.. وضريبة الموقف (1-4) إطلالة تاريخية

الثلاثاء 14 يوليو-تموز 2020 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبد العزيز العسالي

تنويه:
الكتابة حول الحرمان والحصار، لا تعني إغفال ما حصل ولا زال في بقية المحافظات الممتدة على رقعة وطننا اليمني الحبيب، بل أقول جازما إن هناك اتفاقا بين العقلاء حول المفهوم التالي:

- تعز الذراع الحامل لثورة 11 فبراير.

- مأرب الذراع الحامل للجمهورية.

- شبوة الذراع الحامل للوحدة.

مستهل:
تهتدي إن هي أتعزت
وإن جانبتها تخبط العشوى

عبد الله البردوني، من قصيدة رفاق الليلة الأخرى.

لماذا تعز؟

حرمان.. حصار.. عدم تحرير.. خلايا نائمة.. سلخ وتقطيع لمديرياتها.

ثالثة الأثافي، هي سلخ وتقطيع مديرياتها -المخاء والحجرية وساحل تعز الغربي.. وعزلها عن عاصمة المحافظة.. وبطريقة لا تخلو من خسة تستغل أزمة الحرب المنعكسة اقتصاديا على أبناء هذه المديريات فيتم شراء جوع المعسرين وتوجيههم لزراعة القلاقل والفوضى في مديرياتهم وصولا إلى قطع شريان حياة مدينة تعز المتمثل في قطع طريق تعز عدن.

هنا يتساءل العقلاء: لماذا هذه الممارسات الخسيسة ضد تعز؟

لماذا تعز؟ الإجابة على هذا السؤال تحتاج عددا من الوقفات.

إطلالة تاريخية:

لا شك أن المواقف الواعية والمسؤولة.. واستخدام المرونة في مكانها.. والقوة الصلبة الرادعة في مجالها وزمنها المناسبين، يعطينا دليلا أن هناك مستوى عال من الوعي الثقافي الناضج.. ودلالة أخرى أن هذا الوعي المتقدم والراسخ لم يولد طفرة.. وإنما هو وعي له جذوره الممتدة والضاربة في أعماق أعماق الوعي أولا.. ومسارب التاريخ ثانيا.. وإذنْ، فإن هذه الإطلالة التاريخية ستفتح لنا:

1- نافذة على الوعي الثقافي التعزّي.

2- ستعطينا دلالة لا تقبل الجدل وهي أن الوعي الثقافي المتراكم يمنح الأمم والشعوب شخصية قوية واثقة بذاتها.. وانطلاقها نحو مستقبلها أولا.. وأن الوعي الثقافي المتراكم هو محل الرهانات النهضوية والحضارية ثانيا.

3- هذه النافذة ستجعلنا نقترب من الإجابة على السؤال: لماذا تعز؟

وحرصا على بقاء خيط الفكرة لدى القارئ سنقدم إجابة إجمالية على سؤال: لماذا تعز؟ والجواب: لأن تعز هي عاصمة الوعي الثقافي عبر القرون.

الجواب التفصيلي على السؤال: لماذا تعز؟ سنحاول إيجازه في الباقات التاريخية الفكرية والثقافية التالية:

1- مُعلّمٌ فريد في تعز
- الجند والسكون:

الرسول صلى الله عليه وسلم اختار الصحابي الشاب المتألق معاذ بن جبل رضي الله عنه معلما وموجها في
(تعز-الجند والسكون) ومشرفا على بقية الأقاليم الشرقية -ذمار.. مأرب.. شبوة.. حضرموت.. والمهرة.

مبررات الاختيار:

إن الاختيار النبوي للشخص.. والمكان.. والمهام.. لم يكن عفويا.. وإنما كان اختيارا صادرا عن معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة تامة بطبيعة الواقع الثقافي في إقليم الجند والسكون.. ومن هنا نجده صلى الله عليه وسلم قدّم مبررات الاختيار قائلا: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل".

هذا المؤهّل الفكري والفقهي بل والشهادة من المعصوم صلى الله عليه وسلم يعطينا دلالة مفادها أن مدن الجند والسكون والسكاسك فيها إرث ديني.. فكري.. ثقافي.. حضاري في غاية التعقيد.. هذا التعقيد لن يقوم بتفكيكه وتنقيته بوعي تام.. شخص عادي.. وإذن، فارس هذا الميدان هو الصحابي الجليل معاذ رضي الله عنه.

2- المبرر النبوي يعطينا فكرة ثقافية وحضارية أخرى وهي أن تعز هي عاصمة المركزية الدينية والثقافية والإدارية وبقية الأقاليم تابعة لها.

3- فقهاء عمالقة:
نماذج لمدرسة معاذ..

امتاز عصر التابعين بسبعة فقهاء مشهورين اثنان منهما تخرجا من مدرسة الجند هما: طاووس بن كيسان.. وعطاء بن أبي رباح.. علما بأنهما كانا رقيقين.. لكن مدينة الوعي الثفافي رفعتهما إلى الذروة ليكتمل بهما عدد الفقهاء السبعة.

4- الشافعي وأحمد بن حنبل:
الفقيه الشافعي والمحدث أحمد بن حنبل رحمهما الله تخرجا من مدرسة معاذ في الجند.

5- قيادة الفكر الإسلامي:
ذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب أن زبيد وما حولها إلى نجران.. وأيضا وادي السحول أي "إب" كلها تتبع تعز إداريا حتى عام 350 هجرية.

وفي مطلع خمسينيات القرن الرابع الهجري تخرج الفقيه أبو الحسن الأشعري الشافعي من الجند وانطلق عام 356 هـ إلى بغداد وأعلن مذهبه الفكري المخالف للمعتزلة وناظرهم وانتصر مذهبه وأصبح هو مذهب المدرسة السنية عموما والتي تمثل نسبة 97% من علماء السنة المتبعين للمذهب الأشعري في أقطار العالم الإسلامي حتى اللحظة.. بغض النظر عن أخطاء اعتورت هذا المذهب.. لكن هدفنا هو أن مذهب ابن الجند مسيطر حتى اللحظة.

6- جَباء مدينة العلماء:

لم يمر القرن الهجري الأول حتى انتشرت المدارس العلمية في كل اتجاه.. لكن مدينة جباء -حسب المؤرخين- كانت فيها 400 دار وكل دار تمثل مدرسة بدءا من المراحل الدنيا وحتى المراحل العلمية العليا.

موقع هذه المدينة العلمية، حسب المؤرخ الجندي، تقع في فجوة جبلية في الجنوب الغربي من جبل صبر -تتبع المعافر واشتهر علماء كبار كثير بنسبتهم إلى المعافر.. منهم:
- الفقيه ابن العربي المالكي المشهور وله تفسير بلغ 80 مجلدا بعنوان "أنوار الفجر".. لأنه كان يكتبه بعد صلاة الفجر.. كما أن له تصانيف أخرى رائعة.
- الملك المنصور بن أبي عامر المعافري الذي حكم الأندلس 22 عاما.

- هناك رسالة ماجستير للباحثة سناء الترب بعنوان "المعافريون في الأندلس".. جمعت فيها عددا مذهلا من العلماء والأمراء والقضاة وقادة جيش... إلخ-معافريون.

- في حدود علمي أعلن أسفي إزاء تقاعس الباحثين المعاصرين كونهم لم يتطرقوا لتاريخ هذه المدينة العلمية التي ظلت 400 عام.

7- انتشار مراكز العلم:
المؤرخ الجندي قال: بلغ عدد المراكز العلمية في الجند وحيفان والأغابرة والدمنة وغيرها 500 مركز علمي، ذكر أكثرها بالاسم وحدد أماكنها.

8- ملوك.. وعلماء:

الرسوليون في تعز:

الحِبْشي في كتابه "حكّام مجتهدون" استعرض ملوك الرسوليين في تعز خلال قرنين ونصف تقريبا.. وذكر تفوقهم العلمي في تخصصات مختلفة منها الطب والبيطرة والفلاحة والفلك والرياضيات والزراعة وبعض الصناعات.

- أورد اسم كتاب للملك المظفر.. عنوانه الصناعات العشر وأنه مخطوطة في مكتبة ميونخ بألمانيا.. والصناعات العشر منها: صناعة الصابون.. والحبر.. والورق.. وطريقة علاج حوافير الخيل.. وصناعة الصمغ.. والشمع.. وصناعة الأقلام
وصناعات أخرى ملفتة النظر.

- ذكر للملوك الرسوليين مؤلفات صناعية أخرى - تجليد الكتب.. صناعة الأقلام.. والطب والفقه والأدب والفلاحة والفلك.. الأمر الذي يعطينا صورة عن سعة الوعي الثقافي والعلمي والحضاري بتعز.

بالمقابل ذكر حكّاما هادويين مجتهدين غير أن اجتهادهم لم يتعد أصول الدين- إثبات عقيدة الحق الإلهي السياسي المنحصر في البطنين.

نعم ذكر حاكما هادويا واحدا ألّف في الفلك والرياضيات.. وكذا حاكم زبيد (جيّاش) في القرن الخامس الهجري ألف كتاب تاريخ زبيد.

** مهوى الأفئدة:
أصبحت تعز في العهد الرسولي مهوى أفئدة علماء مصر والشام والعراق وفارس.. بل إن مدرسة حضرموت التواقة للريادة أصبحت ترسل مدرسيها والطلاب إلى تعز.

وأكثر من ذلك.. أن الدولة الرسولية كانت ترسل كسوة البيت الحرام من تعز.. ونظرا للانتشار العلمي والرفاه في ظل دولة الرسوليين فقد اتسعت رقعة حكم الرسوليين إلى عُمان.. ومكة.. وبعض السنوات وصل دمشق.

9- عنوان الشرف الوافي:

هذا الكتاب لم ينسج على منواله عبر التاريخ وقد حاول السيوطي تقليده فلم يستطع.. تضمن الكتاب خمسة علوم للفقيه البارع إسماعيل المقري وقد نسجه بطريقة مذهلة.. وكان هدفه أن يكون قاضيا والكتاب بمثابة مؤهّل على نبوغ يعكس ذروة عالية من الرسوخ الفكري.

10- كتاب الاستعداد لرتبة الاجتهاد:
هذا السّفْر العجيب ظهر في أواخر القرن التاسع ومطلع القرن العاشر الهجري.. في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يرسف في ظلام التقليد فقدم الفقيه الحنفي ابن الموزعي كتابه هذا ضمّنه اجتهادا لغويا وفي علم الحديث والفقه وأصول فقه والنحو والصرف والبلاغة.. حيث اجتهد في أغلب المسائل التي سبق فيها خلاف أو مسائل رأى أنها بُنيت على تقليد الآخر للأول.. نجده قدم فيها مذهبه الاجتهادي الخاص مشيرا من خلال عنوان الكتاب أن كتابه يرشد الباحثين ويمنحهم الاستعداد للاجتهاد.

11- التعايش الفكري:

ذكر المؤرخ الجندي أن مذهب مالك والشافعي وابي حنيفة كانت مدارسها قائمة في تعز ويتم تدريسها لمن أراد دون أي تعصب.. وهذا لم يكن حاصلا في بقية المدن الأخرى.. وإن وُجَد فيها مذهب فهو نادر.

تعز في العصر الحديث:

المقصود بالعصر الحديث عند المؤرخين يبدأ من القرن العاشر الهجري.

هذه ملامح سريعة ذات دلالة لافتة للنظر تعزز ما نحن بصدده - مفهوم الوعي في تعز.. وهي:

1- عدم الخضوع للظلم..

السفاح ابن المطهر الهادوي في القرن العاشر سفك دم آلآلاف من اليمنيين الأبرياء في مناطق مختلفة.. ولكن عند دخوله تعز فوجئ بجيش الشيخة "زعفران" شيخة قضاء الحجرية.. حيث خرجت برجالها ووقفت سدا منيعا في وجه السفاح.. ومنعته من دخول الحجرية.. وتكلل نجاحها بوصول الحملة العثمانية الأولى فاتجه العثمانيون نحو "إب" مطاردين السفاح حتى وصل حجة.

2- ثورة المقاطرة في وجه الظلمة بيت حميد الدين كانت نقطة إشراق في ليل دامس.

3- سعيا خلف الوعي المعرفي والثقافي:
ظهر ت أول مدرسة على النمط الحديث في حيفان وأخرى في التربة.. وكان الدعم من أبناء تعز العاملين في عدن، والمدرسون فيها الأستاذ النعمان وأخوه علي بل هذ الأخير هو المؤسس للمدرستين.. وقد زار المدرستين ابن الإمام يحيى وأمر بإغلاقهما.

4- الجمعية الكبرى:

في عام 1944 قام المناوؤون لظلم وطغيان بيت حميد الدين من أبناء الشمال بتأسيس حزب الأحرار في عدن.

5- سخاء نادر ومتميز:

جُلّ أبناء تعز الذين كانوا يعملون في عدن قدموا المال الكثير وبنسب متفاوتة لدعم الأحرار.. ولأن الإمام كان يهدم منازل بيوت المتبرعين بالمال.. فقد كان النعمان يأخذ المال من الداعمين بصورة سرية.. دون علم زملائه أعضاء المعارضة، فاحتدم النزاع بين النعمان والزبيري حول مصدر التمويل الداعم بهذا السخاء.. خشية أن يكون المال من بريطانيا.

قدّم النعمان مبررات "سرية الدعم" فلم يقتنع الزبيري.. فحرر النعمان رسالة بواسطة الزبيري لأحد الداعمين، لكن الداعم رفض وأنكر بقوة.. فعاد الزبيري وقد تعزز شكه.. فانطلق النعمان مع الزبيري إلى الداعم وهنا بادر الداعم وأعطى النعمان المبلغ.. فالتفت النعمان إلى الزبيري وقال له: ألم أقل لك إنه الخوف من تهديم الإمام لبيوتهم؟

6- داعم فريد يبرهن على نضوج الوعي:

التاجر عبد الحق الأغبري قدم دعما كثيرا.. لكن عندما اضطر الأحرار لشراء مطبعة تابعة لصحيفة صوت اليمن، قدم هذا الرجل العظيم ثمن المطبعة للنعمان 36000 ريال فرانص.. وهذا مبلغ فاق دعم المجموع.. إنه مبلغ مهول في تلك الحقبة التاريخية..
كيف لا.. ونحن نعلم أن الزبيري عضو المجلس الجمهوري بعد قيام ثورة 26 سبتمبر كان يتسلم راتبا بالعملة الورقية 130 ريالا لا غير.

شوهد هذا الرجل (الأغبري) مطلع سبعينيات القرن الماضي وهو أمام دكانه المتواضع الكائن بشارع جمال في صنعاء.. فتقدم إليه شخص صنعاني.. وكان على علم بتضحيات الرجل.. وقال له: ما الذي استفدته يا عمنا من إنفاقك؟ ها أنت؟ صادف تلك اللحظة خروج الطلاب من المدرسة.. فالتفت رجل الوعي مشيرا بأصبعه نحو الطلاب قائلا للمتسائل: يكفيني هذا.
أية عظمة يا ابن تعز؟

7- حاضنة ثورة 14 أكتوبر:

إنه لمن المؤسف حقا أن الذين أرخوا للحركة الوطنية أغفلوا دور تعز في احتضانها ثورة 14 أكتوبر بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. قيادة وتدريبا وموتمرات وإمدادا ومسيرات... إلخ.

الخلاصة:
- نستخلص مما سبق أن الوعي الثقاقي في تعز لم يكن طفرة وإنما هو وعي تراكم عبر القرون.
- حين نتحدث عن "تعز الوعي" مقصودنا هو الغالب الأعم..

معالم الوعي البارزة:

1- غياب النظام الأبوي..
أعني لا يوجد في تعز ما يسمى داعي القبيلة.. والذي يعني أن الكل تبع للشيخ.
2- سعي تعز دوما لقيام الدولة:
الشواهد قبل قيام النظام الجمهوري وبعده تقول إن "مشيخة تعز" مع الدولة بل إن الشيخ يعلن بكل احترام وقوفه أمام القضاء مدعيا أو مجيبا بصورة ودونما أي تلكؤ؟

3- الاختلاف في الرأي:

هذا أبرز معالم الوعي:

فالكل يختلف ولكنه اختلاف لم يتعد إلى التخندق والتعصب والتراشق بالنيران.. فما هو حاصل الآن ضد تعز يعتبر شذوذا بنظر أغلبية أبناء تعز بحثا عن مشاريع صغيرة.

4- إدارة الاختلاف:

ترسخ الوعي بأهمية الاختلاف على الرغم من تأخير حسم القضايا لكن الحاضر في الأذهان أن تأخير حسم القضايا أفضل من القرار الفردي.

التجليات:
1- تجلي الوعي الثقافي في تعز في درجة متقدمة من النضج الذي يستحق كل التقدير والاحترام.

2 - تحول الوعي الثقافي في تعز إلى كتلة صلبة تحطمت عليها كل المواقف الطائفية والمناطقية والمذهبية والجهوية.. وفشل أصحاب المشاريع الصغيرة.

3- خلَقَ الوعي الثقافي حاضنةً شعبية قدمت ولا زالت تقدم قديما وحديثا كل ما يمكن تقديمه للجيش الوطني والمقاومة الشعبية.

** القارئ العزيز: لا شك أننا قد اقتربنا خطوة نحو الإجابة على السؤال: لماذا تعز؟

نلتقي بعونه سبحانه في الحلقة القادمة.

كلمات دالّة

#اليمن