السبت 04-05-2024 09:26:15 ص : 25 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

المنهج المقاصدي.. نماذج تطبيقية.. الحلقة الأولى: القيم السياسية في الإسلام

الأربعاء 17 يونيو-حزيران 2020 الساعة 03 مساءً / الاصلاح نت- خاص- عبد العزيز العسالي

  

استعرضنا في حلقات سابقة أهم الأسس النظرية للمنهج المقاصدي، وفي هذه الحلقة والتي تليها سنقدم تطبيقات عملية بصورة موجزة، وبعد تأمل في مجالات التطبيق وهي مجالات واسعة، اخترنا مجال الفكر السياسي الإسلامي لاعتبارات كثيرة وهامة أبرزها:

1- أن محنتنا المركزية تكمن في مجال "القيم السياسية"، والتي بدورها ألقت بظلالها القاتمة على بقية مجالات الحياة اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا - إنسانيا وحضاريا.

2- حضور الفكر السياسي من خلال المورث التطبيقي عبر التاريخ الإسلامي، هذا الحضور للموروث بصوره المختلفة بين الإشراق الحضاري أو العكس، فإن أفضل وصف لها أنها كانت إجابات على أسئلة سياقاتها التاريخية. 

جراحنا المتقيح.. تقليد كسيح: 

غير أن محنتنا الثقافية في هذا المجال هي أن العقل العربي راحل عن واقعه تماما، منسلخ عن واقعه ميمما وجهته بين تقليد للوافد العلماني الغريب عن بيئتنا، وتقليد لأفكار الموتى مستفتيا لها، يريد حلولا لمشاكله المعاصرة. 

تلك هي عقلية النخبة العربية المتعامية عن هموم وتطلعات الواقع العربي ثقافيا واجتماعيا.

إن ارتحال العقل العربي على النحو الآنف خلق معارك مستعرة لا يخمد لهيبها، ليس هذا فحسب، وإنما هي معارك زجت بنا طيلة قرن كامل في دروب أفضت بنا إلى اللاشيء.

القيم السياسية وإعادة التأصيل مقاصديا:

ما يهمنا في هذا المقام هو العقل المنافح على الأصالة والهوية والإرث الحضاري، كونه ثاويا في مقبرة السلف باحثا عن حلول لمشكلات العصر السياسية والحضارية، إنه سلوك ثقافي قد أخطأ الطريق، بلا أدنى ريب، ومن هنا وجب علينا إعادة التأصيل للقيم السياسية الإسلامية من زاوية المنهج المقاصدي المستند إلى السنن الحاكمة للاجتماع السياسي كما رسمتها مقاصد القرآن تفصيلا ورسختها كليات الشرع الإسلامي إجمالا، وبلورها المنهج المقاصدي تقعيدا، وعليه يمكننا القول بالفم المليان إننا نمتلك منهجا حضاريا متينا مرناَ، وفي غاية الإشراق قادرا على تلبية مستجدات العصر السياسية والثقافية والحضارية.

جلب المصالح ودفع المفاسد: 

من حق القارئ أن يتساءل: ما هو هذا المنهج المقاصدي؟ وهل نحن أمام وعود وردية؟ أم حلول سحرية؟

والجواب: أولا، إننا تحدثنا عن الجانب النظري في الحلقات الأربع في الشهر الماضي.

ثانيا، إليك أيها القارئ الكلام (موجزا) بعيدا عن التفلسف النظري قائلا إن إعادة التأصيل للقيم السياسية من زاوية المنهج المقاصدي يعني: جلب المصالح ودفع المفاسد.

نعم، إن ثقافة جلب المصالح ودفع المفاسد هي غاية التشريع الإسلامي وهدفه الذي جاء التشريع الإسلامي لحمايته والحفاظ عليه.

ثمار هذا التأصيل: 

1- إنه من صميم هويتنا العقدية والتشريعية والحضارية. 

2- كفيل بالإجابة على أسئلة كل الهموم والتطلعات المعاصرة الكفيلة بخدمة الإنسان والارتقاء به. 

3- كفيل بردم الهوة بين العقل الإسلامي والعقل المتغرب والذي يدعي بوعي أو بدون وعي أن الإسلام ضد المصلحة. 

4- كفيل بخدمة الشرع تجديدا وتطبيقا - تطبيقا حقيقيا بعيدا عن الشكلية القادمة من سوء فهم جزئيات الشريعة.

5- تحقيق القيام بالقسط الشامل - العدل في الحكم وعدالة توزيع الثروة وتحقيق حرية الأمة واحترام إرادة الأمة وقدسية كرامة الإنسان فردا ومجتمعا، وضرورة وجوب احترام إرادة الأمة في الاحتكام إلى هويتها وأصالتها والحفاظ على المال العام ومقدرات الأمة وثرواتها، وصولا إلى النهوض الحضاري والرفاه الاقتصادي، كل هذا له أساس متين في منهجنا التشريعي المقاصدي، ولسنا بحاجة إلى التسول من أحد، عدا نقاط هي من المشتركات الإنسانية في مجال الوسائل البحتة، مثل هندسة المباني التعليمية والصحية والتخطيط الحضري وما شابه ذلك. 

 بواعث إعادة التأصيل: 

1- ظهور تصورات غريبة للقيم السياسية في الإسلام (داعش، الدولة الإسلامية، القاعدة، أنصار الشريعة، المليشيات السلالية العنصرية الانقلابية)، هذه نماذج ذاوية في القبور مدعية أنها تطبق الإسلام، وهيهات.

2- تقديم صورة شائهة مسخت الشرعية السياسية وصادرتها ودفنت إرادة الأمة، وحصر الشوري السياسية والتنفيذية في أهل الحل والعقد، وهما شخصان يعينهما الحاكم، هذا التصور يدعي أنه على الخط المستقيم وأنه وريث السنة النبوية وأن الحكم بالتغلب والانقلاب ومصادرة إرادة الأمة هو عين العقيدة الصحيحة والتشريع القويم.

3- بالمقابل نجد دعوى أخرى لا تقل فجاجة عن سابقتها، قائلة بأحقيتها الإلهية السماوية في الحكم.

4- قدسية الحاكم، هذا التفكير المريض هو مولود طبيعي لكلا التصورين الآنفين للشرعية السياسة، وبالتالي فلا يجوز مساءلة الحاكم المقدس ولا حد لصلاحياته ماليا وإداريا، وإن بلغ ظلمه وإفساده المهلك للحرث والنسل إلى درجة الفرعون.وإن مزق النسيج المجتمعي شيعا وشلليات، بل مهما قتل وأفسد، فهو الإله الصغير المعبود في الأرض. وفوق ذلك كله، لا يهم أن يكون الحاكم علمانيا أو ملحدا، باختصار، إننا إزاء ادعاءات باسم الإسلام جعلت من أمة التوحيد عابدة للفرعون باسم الإسلام وكفى بهذا بهتانا ألصق بالإسلام. 

4- تحويل وظيفة الدولة وتنصيب الحاكم من وسيلة إلى غاية، بل أصبح وجود الحاكم هو العقيدة وهو الأصل الأول من أصول الدين، حسب الهراء السلالي العنصري، بل ولا يختلف هذا التصور عند الفريق المقابل، إلا في عبارة مفادها الدولة ضرورة دنيوية، وهذا كلام حق لكنه فارغ من معناه تماما، كونه يلتقي مع التصور السلالي في استباحة دم المخالف.

5- إهدار دماء المخالف لتلك الدعاوى: 

نعم، لو أن أصحاب تلكم التصورات الشائهة لنظام الحكم في الإسلام اكتفوا بتصورهم للنظام السياسي على ما فيه من انحراف وتزوير لحقائق الإسلام، لهان الأمر، ولكن الكارثة هي ما ترتب عليها من إهدار دماء المخالف ولو كان كل الشعب (جرائم داعش والقاعدة، ومليشيا الانقلاب العنصري السلالي)، سفكا للدماء وتدمير المدن على رؤوس المواطنين، فضائع ورعب وإرهاب ودمار، قتلا للأطفال والعجزة والنساء... إلخ. هل هذا هو القيام بالقسط الذي جاءت الرسالات السماوية لإقامته؟
 
6- الاستدلال بالجزئيات: 

يستدل فريقا استفتاء القبور بأحاديث جزئية وأقوال فقهية، تبريرا لتصوراتهم وأقوالهم وأفعالهم الدموية والإرهابية، وهذا الانتكاس المفاهيمي يدل دلالة ظاهرية قاتلة مخالفة لمقاصد الشريعة العادلة وإن ادعى أصحابها أنهم ينطلقون من نصوص شرعية.

7- إفساد الإسلام وتشريعاته العادلة باسم الإسلام.

وليس أخيرا، كل ما سبق ناتج عن غياب المنهج في فهم نصوص الشريعة ومقاصدها وأهدافها ومبادئها وغاياتها المتمثلة في حماية مصلحة الإنسان دنيا وأخرى.

جهل بمآلات التصرفات المتعلقة بالجزئيات على حساب مبادئ الشرع في تحقيق العدل والحرية والمساواة وكرامة الإنسان وحقوقه.

خلاصة المنهج: 

شريعة الله عدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها ويسر كلها، فكل تصرف خرج بها من العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن اليسر إلى الشدة فليس من الشرع وإن أدخل فيه بالتأويل. 

نلتقي بعون الله مع القيم السياسية في الإسلام وتكييفها المقاصدي.