الخميس 02-05-2024 19:16:27 م : 23 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

مفهوم الثقافة والمثقف من منظور قرآني

الأربعاء 22 إبريل-نيسان 2020 الساعة 10 مساءً / الاصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي
 

 

  

أولا: تعريف إجرائي للثقافة
 
هذه خلاصة مقالات وكتابات ونقاشات دارت في الأوساط الفلسفية والفكرية في ظروف متباعدة ومختلفة وقد نقلتها بتصرف موجز، مضيفا إليها مفردات حفاظا على ترابط المعنى واستقامته. 

ثانيا: الهدف من هذا الاستخلاص هو: 

أ- الاقتراب بالقارئ من مفهوم الثقافة والمثقف الواسع التعاريف، إلى حد التناقض صياغة ومعانٍ، غير أني عملت جاهدا لاستخلاص ما هو متسق المعنى. 
 
ب - رسم خريطة ذهنية للقارئ يستطيع من خلالها ضبط بوصلته العقلية تقرّبه من المعاني العميقة المختبئة خلف المفردات والجُمل، وصولا إلى استيعاب تعريفنا للثقافة من منظور القرآن.

ثالثا: الخلاصات

1- الثقافة هي البناء العُلْوي للمجتمع.
 
2- يتكون البناء الثقافي من أسس ومظاهر، فالأسس هي القيم الدينية والأخلاق السلوكية، والتشريع والأدب والفن والأعراف. 
 
3- الثقافة هي نظرة شاملة للكون والحياة والإنسان.
 
4- الثقافة موقف، وقد يتجسد هذا الموقف في عقيدة، أو تعبير فني، أو مذهب اجتماعي، أو فكري، أو مبادئ تشريعية، أو سلوك عملي.

5- الثقافة هي الوعي المنظم الذي ينتج عنه تصرفات تطبيقية تحدد وضع الأشياء في مكانها المناسب. 

6- الثقافة تعني البحث والتنقيب الهادف إلى الظفر بمعاني الحق والخير والقيام بالقسط في الوسط التربوي والمجتمعي ككل، والسعي إلى تحقيق العدل وإحلال السلام في النفوس أولا، والمجتمع ثانيا، وحمايته ثالثا، ذلك أن الثقافة تهذب النفوس فيتهذب الوجود الإنساني ويتقوم اعوجاجه، حيث يتحول المجتمع الإنساني في مواقفه إيجابيا وبفاعلية انطلاقا من المكونات المعرفية والعقلية والفكرية والعاطفية والسلوكية. 

7- المثقف مصلح، مرتبط بقضايا مجتمعه في إدارة شؤونه إدارة راشدة، ويحوّل العلوم والمعارف التخصصية لخدمة المجتمع خبيرا ومستشارا للإنسانية كلها. 

8- الثقافة ليست حشوا من المعارف والمعلومات المختلفة والمتضاربة. 

9- الثقافة ليست عملية حيادية مجردة، بل هي منسبكة متداخلة مع مقتضيات التهذيب وتقويم الاعوجاج. 

10- الثقافة هي ذلك المفهوم القيمي الذي يرقى بالإنسان إلى مقام الإحسان غير منتظر الجزاء، ذلك أن المثقف متحرر من القيود المفروضة عليه نفسيا واجتماعيا (الأعراف المعوجّة والخاطئة التي تسير بالمجتمع في الطريق المضاد لاحترام إنسانية الإنسان أولا وعملية التغيير الحضاري ثانيا).

11- الإنسان قبل الثقافة شيء وبعد الثقافة شيء مختلف تماما، كونه أصبح يمتلك تصورا منسجما للكون والحياة، تصورا مسؤولا يضبط نزواته وأهواءه، فيعيش أوسع من ذاته فيؤمن بالاختلاف، ويدير الاختلاف بالحوار، همّهْ البحث عن الحقيقة والوصول إليها وليس احتكارها وادعاء حيازتها. 

12- المثقف دائما يبحث عن القضايا المشتركة، التسامح خُلُقُهُ، شعاره التواضع ونبذ التعصب والتطرف، قريب من الهم العام مجتمعيا ينظر إلى الأولويات بتقدير ووعي. 

13- المثقف يرسخ أسس الثقافة السياسية المتمثلة في الحرية والديمقراطية، يخرج من تخصصه إلى الوضع العام مثل الولاء للأمة واحترام إرادتها، وغير ذلك مما يبني الأمة ويحمي حقوقها. 

14- المثقف يحمل سلطة أخلاقية (صوت داخلي يخلق بوصلة عقلية تشير إلى المآلات الخطيرة الناجمة عن السكوت إزاء القضايا الخطيرة أيا كانت).

رابعا: الباعث على الكتابة

من خلال تدريسي للفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية وأصول الفقه ومواد شرعية أخرى، وذلك في عدد من الجامعات خلال 16 عاما، توقفت طويلا عند تعريف الثقافة عموما والثقافة الإسلامية خصوصا، فقد جمعت -عامدا- مراجع مادة الثقافة الإسلامية لعدد من المختصين في الجامعات العربية، بعض هذه المراجع كتبت قبل 70 سنة، وبعض تلك المراجع أعدتها لجان متخصصة مكونة من شخصيات لها مكانة فكرية، ومع ذلك جاءت تعاريفهم قاتلة للفهم.

خامسا: تعريف غير ملزم

في عام 2009 وضعت تعريفا للثقافة، ولكني لم ألزم الطلاب، ومع ذلك لاقى تفاعلا جميلا، وهذا هو تعريفي: تعريف الثقافة اصطلاحا هي: التعامل الواعي مع الحياة. غير أني عدت لتفكيك التعريف إلى مكوناته الأولية فوجدتها غير كافية.

سادسا: عوامل جديدة

عشر سنوات متواصلة بأحداثها الفظيعة، مارسها الغرب والشرق ضد ما يسمونه بالعالم الثالث وباستعلاء واستكبار في الأرض، لأن الإنسان هو الرجل الأبيض والأصفر لا غير، وصادفت خلال قراءاتي كلاما عنصريا صادرا عن فلاسفة أوربيين كبار طالما قرأنا عنهم أنهم ملتزمون دينيا، وإليك أخي القارئ مقولة فقط للمؤرخ الإنجليزي الأمريكي صاحب تاريخ البشرية المعروف بالتزامه الديني المسيحي، وها هو يقول: عندما نتحدث عن حقوق الإنسان غير الأوروبي فما نقصده هو كما يقال حقوق الحيوان والقط والشجرة، فإذا رأينا أن مصلحة الأوروبي في إزاحة الشجرة أو ذبح الحيوان فلا مانع.

وليس أخيرا، وقع بيدي كتاب التراث والحداثة للدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، والذي تضمن أغلبه حوارا طويلا بينه وبين عدد من المفكرين الكبار المناوئين لمشروع الجابري في نقد العقل العربي. 

وهنا وقفت على جملة صغيرة جدا لكنها ذات عمق صادرة من مثقف مسؤول، قالها الجابري ردا على سوال لا يخلو من سخرية طرحه بعض المعارضين كنوع من الإرهاب الفكري الناعم، مضمون السؤال أن الجابري لم يحترم تخصصه، والسؤال هو: هل أنت ناقد أم مؤرخ أم منظِّرْ؟

أجاب رحمه الله بهدوء: المقترح التنظيري الذي قدمته جاء بعد عمل خلال عقدين من الزمن في نقد العقل العربي، ثم وضعت تصورا للحل، هذا التصور هو إسهام متواضع قدمته لأمتنا قبل انتهاء العمر، لعل الجيل القادم يبني عليه أو يستلهمه، فإلى متى نظل عالة على الغير؟

الحقيقة أن الجواب قد مثّل صفعة للمتبجحين فألقمهم حجرا، وكان محفزا لي من جهة أخرى فعزمت على تقديم إسهامي في تعريف الثقافة والمثقف على النحو التالي: 
  
بما أن أول معنى لغوي لمفردة "ث ق ف" يعني التقويم، فيقال ثقّفتُ الرمح أي قوّمت اعوجاجه، وعليه فإن تعريف الثقافة لغة هي "الاستقامة".

وإذا نظرنا في دلالة الاستقامة سنجد أنها دلالة مركزية تعني استقامة الإنسان عقديا وفكريا وسلوكيا. بصيغة أخرى: استقامة السمع والبصر والفؤاد، فهذه الوسائل الثلاث الإنسان مسؤول عنها، فهي ليست ملك وحيازة الإنسان وإنما هي "أمانة"، والقرآن زاخر بدلائل الاستقامة لفظا ومعنى. "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك". "اهدنا الصراط المستقيم". "وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا". وهناك نصوص كثيرة لكن هذه أوضحها دلالة. 

المثقف في الاصطلاح هو: الإنسان المؤتمن على الحياة. هذا التعريف موجود بقوة ضمن دلالة الاستقامة، ذلك أن من دلائل الاستقامة "الملازمة والمرابطة" على ثغور القيم الفطرية والعقدية والتشريعية. قال تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة: "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير"... إلخ المقطع من سورة "هود" والذي تضمن دستورا متكاملا للحياة، وتضمن نصا صريحا على الملازمة للإصلاح: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين • وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (هود: 116-117).

إذن، الاستقامة هي الملازمة للإصلاح فكل ملازم مصلح، وليس كل ملتزم مصلح، وعكسها الطغيان، تأمل قوله: "فاستقم"، "ولا تطغوا".

من جهة أخرى، الطغيان يلازمه الفساد الذاتي والإفساد للحياة، إهلاكا للحرث والنسل، وقد وصفه القرآن بأقذع وصف هو الانسلاخ "أو كالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها". إنها أعلى صور البلاغة متمثلة في الاستعارة التي شبهت المنسلخ المتبع لهواه أنه كالأفعى التي تنسلخ من جلدها متنكرة له. ولسان حال المنسلخ "نافق توافق" يومك مع من تغديت. 

وفي ذات الوقت يدعي أنه يحمل نوايا حسنة ومتمسك بالحياد انطلاقا من المفهوم الممسوخ للثقافة، علما بأن الملازمة والاستقامة تأبى هذا الانشطارالذاتي، كونه في الحقيقة انسلاخا ينتج عنه كل فساد وإفساد للحرث والنسل، ويكفيه وزرا أن القرآن جعله قاتلا للناس جميعا "فكأنما قتل الناس جميعا". وفي أقل الأحوال صاحب سنة سيئة كما وصفه الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن عليه وزر انسلاخه ووزر من اقتدى به إلى يوم القيامة. 

الخلاصة: 

- الثقافة لغة هي الاستقامة. 
- المثقف في الاصطلاح هو الإنسان المؤتمن على الحياة.

كلمات دالّة

#اليمن