الخميس 25-04-2024 09:45:35 ص : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

أسس التنمية المجتمعية في القرآن (الحلقة 5-5) المجال السياسي

الخميس 09 إبريل-نيسان 2020 الساعة 10 مساءً / الإصلاح نت - خاص / عبد العزيز العسالي
 

  

 
أولا: يتفق غالبية فلاسفة علم الاجتماع السياسي أن التنمية المجتمعية ذات صلة متينة بقيم المجتمع ومُثُلِه عقديا، وفكريا، وعلميا وتربويا، وسلوكيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وإنسانيا، وحضاريا. 

والطريق إلى التنمية المجتمعية هو التربية والتعليم الفاعل اللذَان يستهدفان إصلاح التفكير العلمي، وصناعة الوعي الثقافي، وتنمية المجال الخُلُقي (تراحم، تكافل، تعاون، والتربية الثقافية على القيام بالقسط، إحلال السلام المجتمعي، وترسيخ الوعي الحقوقي، والثقافة الاقتصادية كزيادة الإنتاج، والبحث عن موارد، ومن ثم الحفاظ علىها، وتحريم الغش والاحتكار والربا، وصولا إلى أداء الحقوق، وترشيدالإنفاق، والوعي بأهمية الادخار، وضوابط الاستهلاك... إلخ. المفاهيم ذات العلاقة بالمجال الاقتصادي)، مؤكدين ضرورة إيلاء العناية بالمجالات الآنفة كونها تمثل الأرضية الصالحة لإقامة نظام حكم رشيد، وبدون العناية فلن يتحقق قيام "حكم رشيد"، ذلك أن الحكم الرشيد يصنعه المجتمع، وفاقد الشيء لا يعطيه.

ثانيا: تعريف السياسة

لا نريد الخوض في التعاريف القادمة من عقائد وأيدلوجيات، فقط سنقتصر على التعريفين التاليين: 

1- تعريف الفكر الإسلامي للسياسة

السياسة هي تصرف يكون معه الناس أقرب إلى وأبعد عن المفسدة، ولو لم يذكره القرآن ولا السنة، وهذا تعريف ابن عقيل الحنبلي، ويؤيده فقهاء مذهبه بل وعدد كثير من فقهاء المذاهب.
 
3- التعريف الوضعي

السياسة فن الممكن، وهذا التعريف ذرائعي براجماتي شعاره الغاية تبرر الوسيلة. 

4- التعريف المركب

السياسة هي فن الممكن مع مراعاة العدل والمصلحة، وهذا التعريف اختاره الأستاذ هاني الحسن نائب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، رحمه الله. 

 ثالثا: عناية القرآن بالمجال السياسي
 
 القرآن الكريم هو كتاب يهدي للتي هي أقوم، كما أنه يهدي إلى الرشد، وتلك هي عناية الحكيم العليم من اللحظات الأولى التي هبط فيها آدم إلى الأرض، حيث رافقه التوجيه الرباني القائم على الاختيار.

"قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإمّا يأتينّكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى" (طه: 123).

والهدى الرباني تضمن عناية فائقة بكل مجالات التنمية التي تنعكس نتائجها على حفظ وحماية الإنسان المتمثلة في مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية، وعليه، نؤكد جازمين أن مجالات التنمية المجتمعية قد احتلت مساحة تكاد تصل نصف آيات القرآن، وقد أوردنا في الحلقات الأربع نماذج قليلة بحسب الحيز المتاح.

رابعا: المجال السياسي

لقد اعتنى القرآن بالمجال السياسي منذ وقت مبكر، في الفترة المكية، حيث استعرض علل الاجتماع السياسي عبر التاريخ الإنساني، بدءا منذ عصر ما قبل الدولة، وكذا عصر وجود الدولة، حسب تسمية فلاسفة الاجتماع. 

خامسا: علل الاجتماع من منظور القرآن

تعددت تعاليم القرآن الصارمة بدلالتها القاطعة، محددة جذور ومنابع الفساد المهلك للحرث والنسل، موجهة العقول إلى نبذ سبيل المجرمين الظالمين والطغاة المفسدين، حيث قدم القرآن استعراضا ميسرا يفهمه العامي والعاقل والعالم والمفكر والفيلسوف، وصدق الله القائل: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر".. فما هي منابع الفساد المهلك للحرث والنسل؟ 

1- الملأ المتصاهرون مع المترفين (عصر ما قبل الدولة).

2- المْلك والطغيان المستند إلى الملأ والترف (عصر ما بعد الدولة كالنمرود، وملوك مصر ما قبل الفرعونية، ثم عصر الفراعنة وغيرهم).

3- تكررت مفردة "الملأ" في القرآن قرابة 16 مرة كلها في سياق الذم، عدا موضع واحد ورد في سياق المدح وهم ملأ ملكة سبأ "يا أيها الملأ افتوني في أمري".

باختصار، الملأ، بما فيهم الملوك عبر التاريخ، تنكبوا الطريق الإنساني، عقديا واجتماعيا، فظلموا الإنسانية في شتى المجالات، عبادة لشهواتهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فساد وإفساد أهلك الحرث والنسل، ولا عزاء للإنسانية، فالمصلحة هي للملأ ذوي الكروش النامية، فهم البشر الأرقى الجديرون بالعيش دون سواهم.

ورحم الله شاعرنا البردوني الذي وصف أصحاب دعوى الإنسانية المعاصرة قائلا: 

قالوا هم البشر الأرقى وما فعلوا
شيئا كما أكلوا الإنسان أو شربوا
أدهى من الجهل علم يطمئن إلى 
أنصاف ناس طغوا بالعلم واكتسبوا

وعليه، لا غرابة أن يكون الملأ هم أعداء القيام بالقسط على المستوى المجتمعي، وهم أعداء الحكم بالعدل في مجال السياسة، كما جاءت به الرسالات السماوية.
  
سادسا: منهج القرآن في التنمية السياسية

رسم القرآن منهجا سننيا في سبيل مواجهة الفساد والطغيان والفجور السياسي ومكافحة شهوة التسلط الفردي المطلق، وذلك على النحو التالي: 

- رسم القرآن طريقا عكس طريق الملأ والملك المتسلطَيْن 100% طريقا واحدا لا غير لإقامة النظام السياسي والحكم الرشيد (عطاء رباني) حقا شرعيا للأمة في اختيار وتنصيب من ينوب عنها قياما بخدمتها وتحقيق مصالحها، قال سبحانه: "وأمرهم شورى بينهم".

هذا الحق هو ما توصلت إليه الثقافة المعاصرة، المعروف بالشرعية السياسية.
 
 - لقد نزل هذا النص في العصر المكي قبل أي تشريع تفصيلي لأحكام العبادات والمعاملات، الأمر الذي يعطينا وعيا بأهمية العناية القرآنية بتنمية الجانب السياسي المتزامن مع تنمية بقية المجالات.
  
كيف لا يعتني القرآن بتنمية المجال السياسي وهو أقرب الطرق إلى تجسيد القيام بالقسط (الهدف العام للرسالات السماوية عموما).

- لقد رسخ القرآن المكي في النفوس والعقول أسس الاجتماع من خلال تنفيره الصارم إزاء تسلط فئة الملأ، فتشبعت عقول الرعيل الأول من الصحابة بهذه الثقافة. 

سابعا: العصر المدني

الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم بالوحي، ومع ذلك نجد القرآن يأمره "وشاورهم في الأمر".

ما نوع الشورى التي رسخها القرآن في العهد المدني؟ إنها الشورى التنفيذية.

الحقيقة أننا إزاء تنمية سياسية قرآنية فريدة، لكن السؤال: كيف تعامت العقول عن هذه التعاليم القويمة؟ لكن الغريب حقا هو أن الدول التي رفعت شعار النظام الجمهوري وتمسحت بالتقاليد الديمقراطية نجدها تنص في دساتيرها أن القرارات التفيذية لا مشاورة فيها.

وهنا المأساة، فكم تجرعت الشعوب من ويلات الفساد والهلاك والدمار الشامل بسبب هذا التشريع الأعور، والأكثر غرابة ومرارة هو أني لم أجد في حدود علمي فقيها تعرض لقضية الشورى التنفيذية، حتى ترسخت ثقافة عوراء متكئة على وهم يوحي أن هناك نصوصا قاطعة الدلالة حول عدم مشاورة السلطات في القضايا التنفيذية.

من جهة أخرى، الصمت المريب عند النخبة عموما ورجالات القانون الدستوري خصوصا، وهم الأكثر وعيا وحفظا واستحضارا لموقف هتلر الذي صعد إلى السلطة من خلال الشرعية السياسية، ولكن نام شعب هتلر عن المشاورة في القرارات التنفيذية الخطيرة، والنتيجة: أين وصلت ألمانيا؟

قل مثل ذلك عن نابليون، وشاوشيسكو، والأسد، وصدام، وعفاش، والقذافي، وغيرهم، بل شعب ماليزيا نام بعد تخلي مهاتير عن السلطة فقبضت الحكومة التالية الرشاوي وباعت وطنها.

هل نخبة اليمن ستنسى معاناة شعبنا بسبب الصلاحيات التي جعلت من الفجور السياسي منازعا لله في سلطانه؟ فسلم الوطن بمقدراته جيشا وأسلحة وخزينة لعصابة مليشاوية انقلابية، تسلط فردي ضارب بخيارات الشعب (مخرجات الحوار الوطني وراء الحيط).

 أين حملة الشهادات والنياشين والرتب العليا في أوساط الجيش والأمن والشرطة والاستخبارات... إلخ؟ أي عقيدة عسكرية يحملها أولئك البراميل؟ ناهيك عن الفكر والثقافة العسكرية والوطنية.

 هل كانت ثقافة الجيش والأمن أشبه بمن يأكل الحصى الذي لا ينمي عقلا ولا يحفظ جسدا فضلا عن تدمير أسنان آكله؟

حسنا، لنفترض أن التنمية العسكرية والأمنية كانت خلاف لما ذكرناه، بل كانت مدخلات إيجابية 100%، فما الذي أفقدها فاعليتها؟ ولماذا سلم الجيش والأمن قياده لصبيان الكهوف؟ إذا لم تستيقظ النخبة وتأخذ الدروس مما حصل، هل سنكون أمة تستحق الاحترام؟

المعيار القرآني السنني ماثل أمام أعيننا، والكارثة لا زالت طويلة الذيول العنقودية وستستمر آثارها سنينا.

ثامنا: أبرز القيود القرآنية

1- يجب التنصيص على الشورى التنفيذية في الدستور، كونها أبرز القيود الواردة في القرآن ضد السلطة المتغولة، كما أنها التجسيد العملي لحماية مصالح الشعب. 

2- من أهم القيود الواردة على السلطة: تكتل نخبوي يتمتع المنضوون فيه بسلطة أخلاقية استثنائيه انطلاقا من النص "أولوا بقية ينهون عن الفساد"، تكتل أو حلف لا يتبع حزبا ولا جهة بل هو من كل الأطياف والتخصصات والشرائح والوجاهات وقادة الرأي والقضاة والجيش، يكون متواجدا داخل أجهزة السلطة وخارجها ويكون له رئاسة دورية كل شهرين مثلا، يراقب أداء السلطة، وعندما يلمس انحرافا في السلطة يسستهدف القيود الواردة ينفخ إعلاميا في سمع الشعب، وهذا هو الإصلاح الوقائي الذي أثبت نجاحه في مجتمعات فتسارعت الخطى نحو الاستقرار والتنمية. 
 
3- تنمية ثقافة الممانعة في وجه الظلم والفساد انطلاقا من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كونه صمام أمان المجتمع. 

4- رقابة الرأي العام انطلاقا من قوله تعإلى: "فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".

5- الجهر بالسوء للمظلوم، هذا مبدأ نص عليه القرآن الكريم، مشيرا بوضوح أن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا إذا كان هذا الجهر صادرا عن مظلوم فإن الله يحبه.

6- زراعة الرفض الشعبي وترسيخه في مواجهة الاستخفاف بالشعب وتنمية الإحساس بالكرامة الإنسانية للفرد والمجموع، ابتعادا بالشعب عن هذه الوهدة، كونها من أكبر المعينات على خلق فرعنة الفجور والطغيان فيستنسر البغاث "فاستخف قومه فأطاعوه".

يجب دفن استخفاف الطغيان المتغول على حساب كرامة الشعب.

كلمات دالّة

#اليمن