الخميس 25-04-2024 17:18:49 م : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

التنمية المجتمعية في القرآن (3-5) الأساس الخُلقي

الثلاثاء 24 مارس - آذار 2020 الساعة 09 مساءً / الاصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 

المفردات الخُلُقية الواردة في القرآن بلغت 22 خُلُقا، وحسب الفقيه أبو حامد الغزالي، رحمه الله، والذي استخرج آيات المنظومة الخلقية فبلغت 1504 آيات، أي ربع القرآن تقريبا، وسماها جوهر القرآن.

المنظومة الخلقية الإسلامية لا شك أنها حاضرة في سلوكيات المجتمع العربي والإسلامي إجمالا على تفاوت كبير في نسبة الالتزام بين خلق وآخر ومجتمع وآخر، لاعتبارات سياسية وفكرية وتربوية وثقافية... إلخ.

وبما أن المنظومة الخلقية العملية حاضرة إجمالا، فإننا بحاجة ماسة لمعرفة جوانب القصور في المجتمع، والتي انعكست سلبا على فاعلية التنمية المجتمعية فظهرت تشوهات مختلفة لحقت بالمنظومة الخلقية، فعلى سبيل المثال تجد من ينفق ملايين على بناء مسجد أو فراش للمسجد، أو تحفيظ قرآن أو حقيبة مدرسية للطلاب المحتاجين، وهذا لا شك عمل طيب بلا نزاع، لكن لو قيل للمنفقين إنه مطلوب الإنفاق على طلاب متميزين في مجال الماجستير والدكتوراه أصحاب تخصصات علمية هامة كتصنيع علاج أو تخصص طبي هام، فمهما شرحنا للمنفق الأهداف والثمار الإيجابية، فلن يقبل، والسبب في هذه النقطة خصوصا أن عقلية الواعظ والفقيه تعاني فقرا قاتلا في الجوانب الفكرية والثقافية المتصلة بالتنمية المجتمعية، هذا الفقر سببه قصور الفكر التربوي منهجيا وفكريا وثقافيا، فغاب الوعي التعبدي المتصل بالدور الهام للتنمية المجتمعية. 

كما أنه يصعب علينا استقصاء كل الأسباب، لكن سنذكر أهمها، فنقول: إن غياب التربية على فقه الكُلّيّات، فمثلا المنظومة الخلقية البالغ عددها 22 خلقا، نجدها تندرج تحت قيمة كلية جامعة، هي "كُلّيّة الأمانة"، ذلك أن الأمانة تستوعب العقيدة والتشريع والسلوك الطيب والعلم والتنمية... إلخ.

 الفكرالخُلُقي المنشود
 
إذا أردنا "خُلُقا" ينتج تنمية مجتمعية ذات فاعلية تنتشل الأمة المسلمة من هوّة التخلف وذل التبعية الشاملة فاللازم علينا إعادة النطر في المدخلات الفكرية الكلية المقاصدية، ذلك أن إعادة النظر في مقاصد القرآن كفيل بأن يقودنا -قطعا- إلى الهدف والغاية القيمية اللذين قصدهما القرآن وحددهما بوضوح لا غموض فيه، وهذه الأهداف تنقسم إلى أهداف مركزية وهي:  
 
 1- القيام بالقسط.  
 2- إحلال السلام وترسيخه.  
3- الغاية، وهي الاستخلاف وعمارة الأرض.

كما أن مقاصد القرآن كفيلة بأن تعطينا المعالم الكلية التي من خلالها نستطيع تحديد الأهداف الكلية المتفرعة والتي نحولها إلى مدخلات فكرية أولا وتحويلها إلى خلق ثقافي سلوكي، فهذا البرنامج هو الكفيل بنفخ روح الحيوية والحركية في التنمية المجتمعية الرامية إلى رسم طريق سياسة خلقية تنتقل بنا من خلق الخلاص الفردي إلى الخلاص المجتمعي العام، ولن يتأتى هذا إلا بضرورة العودة إلى مقاصد القرآن وكلياته الفكرية والمتمثلة فيما يلي: 

1- الأمانة: 
هذه القيمة الشاملة هي التي عرضها الله على السمٰوات والأرض والجبال، وقد حملها الإنسان كونه الأقوى من الجن والملائكة بما هيأه الله فيه من قدرات للاستخلاف وعمارة الأرض، علما أن الأمانة كلية مركزية. 

2- القيام بالقسط: 
هذه كلية مركزية ولأجلها جاءت كل الرسالات السماوية. 
لماذا القسط؟ لأن الفرق اللغوي بين العدل والقسط هو أن الحكم بالعدل يعني حماية الحق بصورة صارمة، لكن القيام بالقسط يعني الحكم بالعدل مصحوبا بالبر والتواضع والإخاء.

ومن جهة أخرى ورد النداء القرآني لعامة المؤمنين بأن يكونوا قوامين بالقسط. كما أن القيام بالقسط بمثابة المولد للطاقة الحيوية في تنمية المجتمع، بل يرى مفكرون أن العدل والقسط والحريات والمساواة هن البلاغة الجماهيرية، أي الخطاب المحرك الأقوى للجماهير، وفي ذات الوقت أن القيام بالقسط هو سلوك فردي وجماعي ينبثق عنه حزمة خلقية، كالحب والإخاء، والتعاون والتعايش، والقبول بالاختلاف، والمبادرات الفردية والجماعية، وحماية الكرامة والحريات، وترسيخ المساواة، ورفض الظلم، وحماية الحقوق بلا استثناء.

3- الإحسان: 

من الأمور المؤسفة أن موروثنا الفكري حاصر كلية الإحسان وقزمها وحولها خلقا فرديا في مجالين: مراقبة الله، وإعطاء الفقير.

وفي نظري فإن هذا خطأ فادح، فكلية الإحسان مقصد قرآني واسع الأبعاد، حيث تدخل تحته الجودة والإتقان، وحب العلم، وحب العمل، والصبر، والتميز، والتمام، والكمال، وأعلى من ذلك الجمال، آاه كم نحن فقراء في جانب الجمال.

أخي القارئ يمكنك تسريح طرفك في أرجاء أمة الإسلام، هل سترى "خلق الإحسان"
بهذه الأبعاد السلوكية والحضارية الراقية؟ 

من زاوية أخرى، لو أن أحدنا وقع إزاء خَيار بين إبرة علاج صناعة عربية، وأخرى صناعة أوروبية، فماذا سيختار؟ ولم؟ 
  
4- السلطة الأخلاقية: 

هذه القيمة تستند إلى أعظم كلية قيمية دينية تشريعية تمثل صمام أمان المجتمع، إنها كلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذه الكلية تندرج تحتها حزمة من القيم التنموية، أبرزها حب الوطن، وحفظ المجتمع في شتى المجالات، ومحاصرة الجريمة أيا كانت، وتنمية ثقافة محاكمة الخطأ وتقويم الانحراف، وحب السلام،
وتفعيل خلق أداء الحقوق، وقدسية المواطنة من خلال مقاصد القرآن الذي أعطى قداسة مرموقة للديار. 

النتيجة الأولى هي ترسيخ السلام مجتمعيا، والنتيجة الثانية استقرار وتنمية، والأخيرة هي وليد شرعي لسابقتها. 

5- الوسطية: 
هذه قيمة فكرية عملية إجرائية إدارية ذات شأن عظيم.

كما أن الوسطية هي مقصد قرآني، كونها متصلة بمبدأ "التوازن"، والتوازن مقصد قرآني سنني كوني اجتماعي نفسي، وهو ذو صلة قوية جدا مع التأصيل الفقهي وترسيخ المفاهيم الثقافية المعتدلة البعيدة عن الشطط والتشدد والتكفير.

"والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط"... إلخ. 

هذا التوازن يتولد عنه حماية البيئة وتحضر معه قيمة عظمى هي أخلاق العلم، فهل أخلاق العلم موجودة عند الحضارة المادية صناع كورونا؟

 6- الظهير الاجتماعي: 
المقصود بالظهير هو "الذراع الحامل" للمبادئ وحاميها، هذا التكتل يستند على نصوص قرآنية مقاصدية أهمها:

"ولتكن منكم أمة ".
"فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية".
هذا الظهير يجب ضرورة أن يكون له عمق شعبي نقابي حكومي قانوني اقتصادي، ومجتمع مدني، ومن كل الأطياف يمكن تسميته "جماعة ضغط".

7- خلق الإنجاز: 
هذا خلق إسلامي من صميم القرآن.
" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره".
كما أنه خلق من صميم مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، "لو قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".
"ولو بشق تمرة".
"وتبسمك في وجه أخيك صدقة".
وكم تكررت أقواله صلى الله عليه وسلم في ما معناه: من فعل كذا كان له كذا من الأجر.

خلق الإنجاز هو خلق إسلامي 100% وبالتالي يختلف تماما عن ثقافة الغرب التي لا تلتفت إلّا إلى النتائج النهائية، وهذه ثقافة محبِطة بلا ريب.

8- رسم برنامج تثقيفي: 

هذا هدف تنموي عابر للأجيال، والغرض منه إنتاج أجيال تتسلم الراية الثقافية في تنمية المجتمع وحمايته من تغول السلطات، على أن يكون البرنامج التنموي يشتمل على المنظومة الخلقية الكليات والفروع والأهداف والغايات. 

ما دفعني إلى تبني هذا الخلق هو أنني تأملت شاهدا ماثلا للعيان، إنها ماليزيا التي صنعها مهاتير محمد طيلة 22 عاما،
وما إن خرج من الحكومة حتى تربعت هوامير الفساد لتعيد ماليزيا إلى الوراء، وعاد مهاتير ليتلافى الموقف. 

السؤال: أين الظهير الاجتماعي؟ أين "أولو بقية"؟ السؤال الأهم: هل سيخرج مهاتير من الحكم نظرا لشيخوخته ولم يأخذ الدرس؟
قد تكون هنالك خصوصيات لماليزيا لكن نحن لم ولن ننعتق من سلطة الفرد ما لم نفكر جيدا وننجز برنامجا خلقيا ثقافيا يشتمل على أفضل الوسائل الذهبية لتنمية المجتمع. 

9- يجب ربط المنظومة الخلقية بكلياتها وأهدافها ووسائلها بجذور عقيدة التوحيد بشعب الإيمان، بحيث تتحول عقيدة الإيمان إلى عقيدة منتجة للتنمية، لأن موروثنا التزكوي الخلقي للأسف فصل منظومة الأخلاق عن جذور الإيمان.

صحيح أن أبا حامد الغزالي حاول في كتابه "إحياء علوم الدين" إعادة ربط الأخلاق بالإيمان، لكن العقل الخُلقي المسلم كان قد رزح تحت طائلة التشوهات المتراكمة داخل الموروث، فكانت النتيجة هي الخلاص الفردي، ونحن هنا نريد خلاصا للمجموع.