الخميس 28-03-2024 22:01:33 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

المثقف الاستثنائي في المنظور القرآني.. آفاق، معالم، تجارب تاريخية

الثلاثاء 28 يناير-كانون الثاني 2020 الساعة 06 مساءً / الاصلاح نت-خاص- عبد العزيز العسالي

  

مفكرون كبار صرحوا بأن الربيع الديمقراطي العربي سينتصر، مؤكدين أن كلامهم هذا ليس تفاؤلا.. وإنما نظر علمي 100%ً، موضحين أن الثورة المضادة قد أعاقت الربيع الديمقراطي العربي ولا شك.

لكن الثورة المضادة تكشف وجهها البشع.. فانتهكت أستار.. وسقطت أقنعة، فشاهد المجتمع نوائح السلفيتين الليبرالية والدينية حاملتين بيادة العسكر، وشاهد عناصر التطرف الديني تمتطي دبابة الماركسية ضد مطالب الشعب.

وشاهد الملكية السلالية تقتحم القصر الجمهوري بمدرعات الجمهورية، وشاهد غوغاء الشارع مغلفة بمطالب آنية وحقيقتها الوقوف ضد إرادة الشعب.. وهناك صور دامية إجرامية كثيرة وكثيرة سجلها التاريخ.

غير أن ماسبق ذكره لا شك ولا ريب أنه قد أضاف رصيدا ثقافيا تراكميا في طريق الإصلاح والتغيير.. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى.. فإن هدف الربيع الديمقراطي المتمثل في "صوت الحرية، ورفض التخلف، والتبعية الذيلية للغير"، لا زال قويا ومدويا.. بل ومرعبا للثورة المضادة ومن في فلكها.

هذا الصوت بحد ذاته كفيل بميلاد حراك ثوري تغييري أعمق تفكيرا وأكثر عقلانية.. وأجود تخطيطا وتعاطيا مستنيرا مع السنن الحاكمة للاجتماع.. وكفيل بصناعة وإبداع خطاب أكثر بلاغة في العقل والوجدان الجماهيري.. يتمخض عنه حراكا تغييريا أكثر فاعلية بعيدا عن الضوضاء.. هذا النمط التغييري الآنف هو الذي سيصنع الحياة.

المثقف الاستثنائي:

صناعة الحياة وفقا للمنهج الآنف سيقوم به المثقف الاستثنائي، وعليه، يمكننا تقريب الفكرة عبر الأسئلة التالية:

من هو المثقف الاستثنائي؟ ما هي مميزات المثقف؟ هل يمكننا العثور على صفة المثقف الاستثنائي بين مقاصد القرآن؟ ما هي آفاق ومعالم المنهج القرآني في هذا الصدد؟ هل من تجارب تاريخية؟

الجواب:
أولا- تعريف المثقف الاستثنائي: سنجترح تعريفا قريبا للفهم، مستندين إلى المنظورالقرآني فنقول:

1- المثقف الاستثنائي هو الذي ينطلق من سلطة أخلاقية نحو التغيير والإصلاح.

2- اخترنا هذا التعريف عن قصد تبسيطا وجمعا بين التعريف والمميزات.

3- هذا التعريف يستند إلى المقصد القرآني والمتمثل في الآيات التالية: قال تعالى: (فلولا كان من القرون أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين) (هود 116).

وجه الدلالة في الجملة (أولوا بقية) اختيار الخبير العليم للجملة (أولوا بقية) في إطار سياق مقطع قرآني يهدي للتي هي أقوم.. تضمن منهجا متكاملا في مجال السنن الحاكمة للاجتماع والتعاطي معها إيجابا، مشيرا بوضوح إلى ما سميناه بالمثقف الاستثنائي، والسلطة الأخلاقية لدى هذا المثقف.

4- سيتضح المعنى أكثر للقارئ من خلال النظام القرآني في استعمال جملة "أولوا بقية".

أ- ورد مفرد "بقية" بالتاء المربوطة في سورة هود وهي مكية، الآية 116، التي اوردناها آنفا.. (أولوا بقيةٍ).

ب- ورد مفرد "بقية" بالتاء المربوطة أيضا في سورة البقرة وهي مدنية في سياق الحديث عن قيادة طالوت لمعركة التحرير: (إن آية ملكه عليكم أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم).. (وبقيةٌ مما ترك آل موسى وآل هارون) الآية.

ج- ورد مفرد "بقيَّتُ" في سورة هود أيضاً في الآية 86، ولكن بتاء مفتوحة.. (بقيتُ الله خير لكم).

5- لا أريد الخوض حول دلالة التاء المفتوحة، فهذا مجاله فلسفة اللغة ونحن في صدد مقاصد سياقية دلالاتها واضحة.

6- نعود إلى سياق الآية 116، سورة هود.

- (فلولا كان من القرون أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين).

- (أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون).

- (بقيت الله خير لكم).

تضمنت الآية 116 دلالتين بارزتين: الأولى، ضرورة وجود عدد غير قليل من المصلحين، وإن شئت سمها "نخبة" أو "تيار" أو "دولة"، بالمعنى الحديث الأعمق لمدلول الدولة المعاصرة.

الدلالة الثانية، السلطة الأخلاقية، هذه السلطة الأخلاقية تضمنها مفرد "بقية" أي حملة بقايا سلطة قيمية مثلى متوارثة عن الكتب السماوية.

7- الآية 86 من سورة هود (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين).. فهي أكثر وضوحا، ذلك أن الوازع القيمي القادم من قيمة الإيمان الراسخ في الوجدان والعقل والضمير واللاوعي.. يجعل صاحبه مستحضرا مخاطر الفساد في الأرض وآثاره.. من خلال استحضار سنن الله الحاكمة.. هذا الاستحضار هو ما أطلقنا عليه مصطلح "السلطة الأخلاقية".

أولوا بقية ممن أنجينا.. الإرث القيمي.. فيه بقية مما ترك آل... إلخ. لا ريب أنها القيم الحية، وإلا فالتوراة موجودة في بيوتهم.

"بقيت الله"... إلخ، تعني قيم الإيمان بوضوح.. والتي تحول دون تغول الجشع في النفوس المتمثل في تطفيف المكيال وبخس الميزان.. إنه الظلم المتفشي والذي يحتاج إلى "أولوا بقية".. إنها النخبة.. إنها الذراع الحامل للمبادئ الحامية للأهداف والحامية للغايات المتمثلة في ترسيخ السلام والاستقرار المجتمعي.. نخبة تدفعها سلطة أخلاقية متجذرة في أعماق العقيدة الإيمانية.. بقيت الله.. إن كنتم مؤمنين.

8- لماذا مثقف استثنائي؟

هذا النوع، الاستثنائي، من المثقفين المصلحين، هو المطلوب.. وهو صمام أمان التغيير الفاعل والمستمر.. والهادئ.. لا محالة من تكوين وصناعة هذا المثقف الاستثنائي، ذلك أن واقعنا الموار بالضحالة الثقافية والتي أقضت مضاجع المجتمع طيلة قرن وخمس القرن، وبين عشية وضحاها انهتكت الأستار وتساقطت الأقنعة، فافتضح الدخلاء على الثقافة، وحملة التدين المغشوش.. المتمرغ في أوحال السلالية والعنصرية والتسيد الإبليسي.. ومستنقعات الاستبداد.. وهذه أبلغ الدروس المستفادة من الثورة المضادة.. هكذا التقت الأكاذيب في خط المواجهه ضد كرامة الإنسان وحريته وحقوقه.

ثانيا- آفاق ومعالم:

دلت الآيات على آفاق أو معالم في غاية الأهمية تتمثل في:

1- كثرة المثقفين الاستثنائيين:

فلولا كان من القرون أولوا بقية ينهون عن الفساد (إلا قليلا) ممن أنجينا.. فالقليل لا يجدي بنص القرآن.

2- السلطة الأخلاقية ضرورية:

فالانطلاق المستند إلى القيم الإيمانية هيهات أن يبيع أو يشتري.. بل هيهات أن يتوانى أو يتكاسل.

3- التعاطي مع السنن الحاكمة:

بما أن لكل مجتمع همومه وتطلعاته، فإنه من الضرورة بمكان التعاطي مع السنن من آفاق قيم القرآن ومقاصده وهداياته وتصويباته المتسقة مع الزمان والمكان.

4- توارث الأجيال:

أولوا بقية ممن أنجينا.. مما ترك آل موسى... إلخ.. وهذا يعني ضرورة وجود محاضن "التربية والتدريب" على البحوث والدراسات.. مع رسم برنامج تثقيفي للمجتمع كونه الحاضن.. والأرضية التي تنغرس فيها القيم وتنمو وتتآزر وتستغلظ وتستوي على سوقها.. فتثمر "مثقفا استثنائيا".

5- التدرج في التغيير:

لن ينجح التدرج في سلم التغيير ما لم يكن هناك خطاب سنني يمسك بدفة الوجدان الجماهيري بحنكة وذكاء.. خطاب يستطيع من خلاله إقناع الجمهور بسلامة هذا المنهج.

وما لم يوجد هذا الخطاب المتنوع في أساليبه فإن الإجرام الداخلي والخارجي كفيلان بإنتاج الغوغاء المغلفة بمطالب أيا كانت، لكن الإجرام المعتق كفيل بتوظيفها ضد مطالب الشعب.

ثالثا- نماذج تاريخية:

حفل تاريخنا الإسلامي بنماذج من المثقفين الاستثنائيين.. وكلٌّ قدم معالجات استجابة لهموم وتطلعات واقعه.. فانطلقت المعالجات من زوايا مناسبة للواقع، مستخدمة الوسائل والسنن الكفيلة بنجاح التغيير المناسب للسياق زمانا ومكانا، علما بأن أولئك المثقفين الاستثنائيين لاقوا معوقات مختلفة أبرزها معوقات سياسية.. وتدين معشوش.. وخرافات.. وعمالات.. ونفاق.. وتدين مغلف بمصالح شخصية بحتة.. وانقلابات طائفية وعدو خارجي.. وأحيانا كانت تجتمع كلها.. عصر ابن تيمية نموذجا لاجتماع كل المعوقات.

باختصار، المعوقات المتشابكة حد التعقيد في عصر ابن تيمية رحمه الله.. انعكست الفتاوى التيمية تنزيلا على واقع موار بالمتناقضات.. وهذا جعل الكثير يطعن في ابن تيمية بأنه متناقض.

وعليه، النماذج التاريخية كثيرة.. والإصلاحات فيها تقف عند جانب محدد، لكننا سنقدم ثلاثة نماذج أزعم أن فيها شمولا بعض الشيء بحسب سياقها التاريخي، وكان البعد الخارجي حاضرا.

1- إمام الحرمين: إنه الفقيه الشافعي أبو المعالي عبد الملك الجويني المتوفي 448 هجرية.. رسم منهجا سياسيا مرتكزا على الفكر المقاصدي جمع بين النظرية والتطبيق ووقف إلى جانب السلطان السلجوقي نظام الملك ودفعه إلى الإطاحة بدولة المفسدين البويهيين.. ومن يطالع كتابه "غياث الأمم في الْتياث الظُّلم".. سيجد التأصيل النظري المقاصدي الذي جعل الانقلاب واجب ضد دولة الفساد.. ثم واصل تنظيره للإطاحة بالخليفة العباسي الحاضر الغائب العاجز عن فعل شيء.

لقد لاقى أقوى معوق وهو التدين التقليدي العاكف على عبادة نصوص السلالة القرشية في الإمامة.. خصوم هذا الفقيه حتى اللحظة سياسيا وفقهيا.. شيعة وسنة، لأنه أوجد منهجا سياسيا مرنا وحيويا.

ما يلفت النظر بقوة هو الحضور الحيوي للمنهج المقاصدي عند إمام الحرمين.. وقد تمثل في الفتوى التالية وذلك عند ورود أخبار مفادها أن السلطان - رئيس الوزراء نظام الملك السلجوقي أراد تأدية فريضة الحج ولكن الأوضاع لم تستقر بعد.. فكتب الفقيه الجويني إليه: "شاع في بلاد الإسلام تسوُّف صدر الأنام لأداء فريضة الحج في هذا العام.. فإن كان في هذا انقطاع عن الخليقة فهو حرام على الحقيقة".. هذا هو المنهج الحيوي المقاصدي المواكب لأحوال الأمة هبوطا وارتقاءً.

2- أبو حامد الغزالي: هو تلميذ الجويني وقد مشي على نفس الخُطى وأضاف إقامة مدرسة متكاملة بلغة اليوم: أساسية.. متوسطة.. جامعة.. وأخرج جيلا مسح الطاولة من ثقافة التشيع.. لكن السلطان نظام الملك أوقف الإنفاق على المدرسة بعد 20 عاما تقريبا ربما ظن أن التشيع الباطني انتهى.. ولم تمر سوى أيام حتى هاجمه أحد الباطنية فقتله وقُتل.

3- عبد القادر الجيلاني:

استفاد من السبب وراء إغلاق مدرسة الغزالي.. فأقام مدرسة ولكن مستعينة بعطاءات الوقف.. ورفع شعار
"لكل مذهبه وعدونا في القدس"، يقصد الصليبيين.. نجحت الفكرة والشعار فاتحدت الوجهة وتأخر استكمال البناء، حيث قامت 400 مدرسة في أقاليم الدولة الإسلامية منبثقة عن مدرسة الجيلاني.. وجاء صلاح الدين فحرر القدس بواسطة هذا الجيل.

أحسب أن هذه النماذج فيها إضاءات حول المثقف الاستثنائي الذي سعى إلى التغيير والإصلاح تنظيرا ووسائل.

كلمات دالّة

#اليمن