الخميس 18-04-2024 11:05:37 ص : 9 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

القرآن والحضارة.. قراءة في آليات إنتاج الحضارة (2-3)

الثلاثاء 21 يناير-كانون الثاني 2020 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت – خاص / أ. عبد العزيز العسالى

 

الإنسان الصالح

الحلقة الأولى كانت حول الآلية الأولى لإنتا ج الحضارة.. وهي الجانب النظري للقيم الحضارية في القرآن.

في هذه الحلقة سنتحدث عن الآلية الثانية لإنتاج الحضارة وهي الإنسان الصالح.

فمن هو الإنسان الصالح في منظور القرآن؟ بصيغة أخرى.. ما هي مكونات الإنسان الصالح في تعاليم وتشريعات القرآن؟

الجواب:
- عرفنا في الحلقة الأولى مكانة الإنسان بين المخلوقات.. ووقفنا على مظاهر التكريم السماوي للإنسان.. وكانت الخلاصة أن هذا الإنسان هو أقوى المخلوقات وأنه قادر على إنتاج أدوات إنتاج الحضارة بكرامة ميزه الله بها وعجزت الملائكة عنها فقالت: (سبحانك لا علم لنا..).

فالقيمة التي أودعها الله في الإنسان هي قيمة العلم.. (وعلم آدم الأسماء كلها..)، وعليه، لسنا بحاجة لخوض معركة كيفية تعليم الله للإنسان.. أودع فيه.. ألهمه.. هيأهُ.. المهم هو أننا اليوم نشاهد مدى تأثير العلم إنسانا.. وقيما.. وحضارة..

إذَنْ، أول قيمة هي قيمة العلم.. وهي قيمة ذات بعدين عظيمين: البعد الأول يتمثل في تكوين الشخصية علميا،
فكريا، منهجيا، تأمليا، قياسيا.. سواء الكل على الجزء.. أو قياس الغائب على الشاهد.

البعد الثاني يتمثل في إنتاج آليات الحضارة.. والسؤال المهم هنا هو: ما موقف القرآن من العلم؟

الحقيقة أنني وبعد إجالة النظر في القرآن أعترف بعحزي تماما عن استعراض آي القرآن المتصلة بموقف القرآن من العلم.. ولكن ما يمكنني تقديمه للقارئ هو تقديم عدد من الجُمل.. وذلك على النحو التالي:
1- اشتمل النسق القرآني على 750 كلمة (علم) ومشتقاتها وما يتصل بها.. من قراءة وفكر ونظر وتدبر وتفقه... إلخ.

2- توزعت آيات العلم الآنفة الذكر على خمسة محاور هي:
أ- الإنسان.
ب- النبات.
ج- الجغرافيا.
د- الفلك.
ه- التاريخ.. والعِمران.. وعلم النفس.. تحت كل فرع فروع متعددة.

أحيل القارئ على كتاب المعجم المفهرس لآي القرآن للمستشرق الفرنسي جول لابوم.

3- لسنا هنا نفتخر فقط.. ولكن ما نود قوله هو: لقد انطلقت الحضارة الإسلامية من هذا العطاء القرآني الزاخر.. وظلت تعطي خلال قرون خمسة في الجانب الفلسفي.. وعشرة قرون في الجانب المادي في غاية الإشراق.. في الوقت الذي كانت أوروبا ثاوية في أعماق وهاد عصور الظلام، حد تسميتهم.

الخلاصة: يوم أن انطلق العقل من المنظور القرآني للحضارة، أعطى في كل مجالات الحياة وفقا لسياقه التاريخي فلسفة وقيما وتشريعا وتقنينا واجتماعا وصناعات.

من الأشياء اللافتة للنظر بحق.. وأحسبها معلومة مذهلة بالنسبة لي وهي ذكر لسان الدين بن الخطيب في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، أن العرب كانوا في أواخر القرن السادس الهجري في غرناطة قد اكتشفوا الطباعة على اللوح الثلجي.. أي لوح الرصاص.

- ابن طفيل الفيلسوف المغربي.. كان قد نظم علم الطب في 7700 شعرا بدءًا من رأس الإنسان وانتهاء بأظافر القدمين.

- الأكثر دهشة أنه ذكر مرض "السُّكٍَري" وشخّص أعراضه وآثاره.. ومن أبرز آثاره أن كثيرا من مرضى السكري يعانون البرد دوما.. وهذه حقيقة ملموسة لا شك فيها.

4- القرآن والعقل:

من النكبات التي ألحقت أشد الأضرار بالعقل المسلم اجترار الصراع الموروث في تراثنا حول العقل.. هذا الصراع الرمادي كان للاستبداد والفردية والعنصرية والسلالية المتصلة بمنصب الحكم: الدور الأبرز.. وكان الدور المكمّل للثقافة الفارسية التي روضت الثقافة الإسلامية ترويضا عجيبا فانحرف مسارها.. وهذا جعل كثيرا من المفكرين اليوم يعيدون النظر في المقولة الشائعة أن التاريخ والثقافة يصنعهما المنتصر.. وقد يكون تزوير وقلب حقائق التأريخ السياسي البحت ممكنا صناعته بخلاف الثقافة.

باختصار:
- لا يوجد نص في القرآن ناصب العقل العَداء..
- القرآن سفّه الظن والخرافة والهواء والسحر والشعوذة.

العقل وأسئلته المشاغبة:
القرآن استعرض السؤال المشاغب المتمثل في الشك الإبراهيمي.. (أرني كيف تحيي الموتى).. ولم يعقب عليه بتثريب أو تأنيب.. وسؤال موسى (أرني أنظر إليك).. بالمقابل كان الموقف مع النبي نوح (إن ابني من أهلي...) إلخ الآية.. جاء الرد فيه تأديب قوي (إني أعظك أن تكون من الجاهلين).. سبحانك يا خالق العقل.

- يستطيع العاقل أن يصل إلى استنتاج مفاده: لا يوجد في القرآن أي دليل يرفض العقل بل العكس هو أن القرآن ترك للعقل أن يطرح أسئلة الشك وأكثر منه.

بكلمتين: الإنسان.. العقل.. العلم.. هم الآليات الأولى في إنتاج الحضارة.

5- مركزية التوحيد: المقصود بمركزية التوحيد هو أن أول مجالات العلم توحيد الله عز وجل.. المتمثل في الإقرار له بالوحدانية وأنه الأحد الصمد له الكبرياء في السماوات والأرض لا لسواه من الخلق.

6- مركزية التوحيد لها أبعاد عدة: عقلية.. وجدانية.. سلوكية.. إنسانية.. اجتماعية.. حضارية.

بصيغة أكثر تبسيطا، الإنسان المؤمن الخاضع لمركزية التوحيد عقيدة ومنهج حياة
يكون قد فاز بمصلحته في الدنيا والآخرة.

الإنسان غير المستسلم لعقيدة التوحيد لا بد أن يلتزم البعد الحضاري الإنساني الدنيوي.. أي يعمل في عمارة الأرض وفق المنهج الرباني المتمثل في: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).. (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).

التزموا أخلاقيات العلم.. ولا يستخفنكم الغرور بالعلم.. (فلما جاءتهم رسلنا بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا يستهزؤون).

7- احترام إنسانية الإنسان: هذه أولى أخلاقيات الحضارة وهي المحرك الأول.. وإن شئت فقل هي الأداة الأبرز للإنتاج الحضاري.

8- الإرادة.. الاختيار.. المساواة: هذه المنظومة القيمية المتكاملة هي أول الخطوات نحو احترام إنسانية الإنسان المكرم مطلقا بنص القرآن.. (ولقد كرمنا بني آدم..) هذا تكريم عام..
الإرادة والاختيار.. (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)..

المساواة: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة..).. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من نفس واحدة..).

وعليه، بما أن الإنسان مكرم.. وبما أن جميع بني الإنسان مخلوقين من نفس واحدة (متساوون).. وبما أن الخالق العليم هو الذي كرم الإنسان بحرية الإرادة والاختيار، ولكي يكون هذا الإنسان أداة إنتاج حضاري تخدم بني جنسه، فليكن معلوما لدى الإنسانية جمعاء أن هذه القيم كلها هي من لوازم "مركزية التوحيد" وأبعادها إنسانيا وحضاريا.. هذا من جهة.. ومن جهة ثانية.. إن هذه الأبعاد يترتب عليها أبعاد إنسانية أخرى متمثلة في:
أ- حق العيش الكريم.
ب- العناية به في كل جوانب حياته.
ج- احترام كرامته وسائر حقوقه.
د- حق التعايش.
هـ- العدل.. هذه القيمة هي الأداة المثلى في حماية حقوق الإنسان مطلقا.

9- هذه القيم الحضارية ليست من قول النبي صلى الله عليه وسلم.. وإنما هي نصوص في القرآن الخالد حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. وعندما نقول إنها نصوص سماوية.. فإن المقصود أن قيمة الإنسان وكرامته تتمتع بضمانات مقدسة ليست منحة من أحد.

10- بعد إيراد ما سبق من القيم والتي لم نذكرها يمكننا تسمية تلكم القيم بالقيم الحضارية في القرآن.. أو نسميها السنن الحاكمة للكون والنفس والاجتماع.

11- إن عمارة الأرض يشترك فيها كل بني الإنسان.. كل بحسب مواهبه بغض النظر عن جنسه وعرقه ولونه ودينه ونوعه.. وهذا ما حصل في الحضارة الإسلامية والحضارة المعاصرة.

12- الأخلاق.. الأخلاق هنا باختصار شديد هي عدم إيذاء الغير إنسانا أو حيوانا أو بيئة.

وإني إذ أكتب هذا الموضوع وأسمع خبرا مقززا جدا أن حكومة أستراليا تطارد عشرة آلاف جمل تقتلهم في الغابات لأنهم أفسدوا البيئة أو بدعوى أخرى.. هكذا الإجرام .. لكن غازات المصانع لا تفسد البيئة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية هي أننا عندما نتحدث عن الأخلاق ودورها في بناء الحضارة من المنظور القرآني.. نود القول إن منظومة الأخلاق في القرآن بمشتقاتها المعنوية وأصولها بلغت مفرداتها 1337 مفردة.. وهذا يعني لو تم توزيعها على أوراق المصحف سيكون المتوسط الحسابي نصيب كل صفحة 3 مفردات.

من جهة ثالثة.. يلزم أن تكون الأخلاق متصلة بجذور المقدس، ذلك أن الأخلاق إذا تجذرت في العقيدة كان حاملها أكثر رسوخا وأكثر التزاما.. وهنا نصل إلى نقطة مفصلية وهي أن روح الحضارة الإسلامية هو الإيمان.

نلتقي بعونه سبحانه في الحلقة الثالثة ومحورها "الآخر في المنظور القرآني".