الخميس 25-04-2024 08:46:50 ص : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

القرآن والحضارة.. قراءة في آليات إنتاج الحضارة (1-3)

الإثنين 13 يناير-كانون الثاني 2020 الساعة 11 مساءً / الاصلاح نت – خاص - عبد العزيز العسالي

 

 

مدخل:

أولا، تحديد المفاهيم وتقريبها، فنقول: مفهوم الحضارة له عدة أبعاد أهمها:

1- البعد النظري: وهو المتمثل في الجانب القيمي والفكري والثقافي، ويتفرع عنه:

2- البعد الإنساني والاجتماعي، ويتفرع عنه:

3- البعد السلوكي، وينضوي تحته البعد القانوني.

4- البعد المادي: ويتمثل في جانب البناء والتخطيط والتصنيع، وما يتصل بهذا الجانب.

 

السؤال هو: ما هو موقف القرآن الكريم من الحضارة بأبعادها المركزية الآنفة الذكر؟ هذا السؤال يوصلنا إلى سؤال أهم وهو سؤال معرفي متعلق بالغاية من وجود الإنسان في الحياة، حيث يقول السؤال: ما هو الهدف والغاية من وجود الإنسان في هذا الكوكب؟

الجواب: من يتأمل في مقاصد القرآن يجد أن الأهداف والغايات تراتبية، أي كل هدف أو غاية هو وسيلة لإقامة غاية أخرى.. هذا من جهة.. ومن جهة ثانية إذا نظرنا إلى تلك الأهداف والغايات من زاوية سُننية سنجد أنها تكاملية.. هذا التكامل وغيره من التفاصيل هو ما سنوضحه قدر الإمكان في ثلاث حلقات..

 

الحلقة الأولى: أدوات إنتاج الحضارة في القرآن

 

أولا- البعد الفكري القيمي:

قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).. إلى قوله: (إني أعلم ما لا تعلمون) (البقرة : 30).

(هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) (هود : 61).

(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).

 

(ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد : 25).

 

وقفات مع الآي:

بعيدا عن التعمق والتكلف نقول:

أولا- الآيات الواردة أعلاه دلالاتها في غاية الوضوح يمكننا إجمالها في القول:

- إن الغاية الأولى من خلق الإنسان هي استخلافه في الأرض.

 - عمارة الأرض وفق منهج الخلاق العليم.

- الخلاق العليم وضع منهجا يتمثل في:

أ/ الكون المنظور والمقصود هنا هو سنن الله الكونية.

ب/ الكتاب المسطور والمقصود هو التشريع المنزَّلُ.

ج/ التشريع المنزَّل يتمثل في القيم العقدية التي تعني اعتقادا في الضمير والوجدان.

د/ القيم السلوكية تتعدد مظاهرها والمصطلح الجامع لها هو الأخلاق؛ ذلك أن القيم العقدية هي بمثابة الدينمو المولد للقيم السلوكية الأخلاقية.

و/ الشعائر التعبدية هي هدف وهي في ذات الوقت وسيلة لتحقيق غاية التقوى.

ز/ التقوى هي سلوك عملي مفهومه الكف عن الفساد والإفساد المضر بالإنسان والحرث والبيئة.

ح/ العدل غاية سننية أي وسيلة لمنع الفساد.

تلكم هي أبعاد دلالية مستخلصة من الآيات أعلاه.

ثانيا- كرامة الإنسان أساس الحضارات في القرآن:

(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (الإسراء : 70).

هذا النص القرآني كثيف المعاني تضمن دلالاتٍ وأبعاداً سينبثق عنها عددٌ من مظاهر التكريم.. وهذه المظاهر تتضمن آليات (قيمية سننية) فكرية لإنتاج الحضارة.. هذه الآليّات الفكرية كفيلة بإنتاج أدوات الحضارة.. وعليه، ما هي مظاهر التكريم والتفضيل في الإنسان؟

 

تتمثل مظاهر التكريم في:

1- النفخة العُلْوية.. (ونفخت فيه من روحي..).

2- سجود الملائكة.. (فقعوا له ساجدين).

3- العلم.. (وعلّم آدم الأسماء كلها..).

4- الإرادة والاختيار (وهديناه النجدين)، والآيات كثيرة جدا حول المظهر الأخير؛ كونه المحكَّ العملي لكرامة الإنسان.

 

ثالثا- الدلات والأبعاد:

1- نطقت نصوص القرآن أن كرامة الإنسان هي الأساس الأول، وإن شئت فقل هي الأرضية التي ترتكز عليها بقية الأسس لقيام حضارة إنسانية؛ ذلك أننا إذا أهملنا هذا الأساس (كرامة الإنسان) لن نستطيع وضع نظام متسق لكل القيم الحضارية وإنما ستكون القيم منتثرة أشبه بإكليل تناثرت أوراقه.

2- هذا الأُسُّ التكريمي نلحظه بِدْءًا من الحوار بين العليم الحكيم والملائكة.. (إني جاعل في الأرض خليفة).. (إني أعلم ما لا تعلمون).. (وعلم آدم الأسماء كلها).. (انبؤوني بأسماء هؤلاء).. (لا علم لنا).. (يا آدم انبئهم بأسمائهم).. (ألم أقل أني أعلم غيب السماوات والأرض).

الحقيقة: يخامرني إحساس قوي قادم من ظلال المعاني مفاده أن الإنسان أقوى المخلوقات على الإطلاق في عمارة الأرض.. بدليل أن الملائكة قالت (لا علم لنا).. وأن الجن ليسوا بحاجة لعمارة الأرض.

3- العقل أساس العلم.. وهذه بدهية مسلّمة.. لكن الملفت للنظر هو أسئلة العقل.. أسئلة مشاغِبة لا تنتهي.. ومن هذه الأسئلة العقلية المشاغبة.. أسئلة صادرة عن أفضل الخلق - خليل الرحمن إبراهيم: أرني كيف تحيي الموتى؟ وكليم الله: أرني أنظر إليك.. هذه الأسئلة لم يقابلها الخلاق العليم بالقمع والكبت.

4- حتى لا نطيل يمكننا القول: بما أن الإنسان مكرم عاقل ذو إرادة واختيار.. فإن من حقه أن يعيش كريما.. أن يعيش حرا.. أن يفكر.. أن يضيف شيئا إلى الحياة.. هذه الإضافة تقتضي التعلم.. التعلم يقتضي البحث.. هنا يتحقق في الإنسان (ليبلوكم أيكم أحسن عملا).

5- النتيجة هي:

- قيمة الإنسان (ما يُحسِنُهُ).

- إحسان العمل.. يقتضي أمرين: الأول، يتمثل في حسن التعامل مع السنن الكونية الحاكمة للنفس والاجتماع والكون. والثاني، العمل الصالح.. (الذين آمنوا وعملوا الصالحات).

- إحسان العمل غاية جديدة توصلنا إلى قيام الحضارة.

رابعا- بضدها تتميز الأشياءُ:

تلك هي إطلالة سريعة تناولنا فيها الجانب النظري لأساس الحضارة في القرآن وأدوات إنتاجها.

ثم إني أستسمح القارئ عذرا أن أشير إلى الخطوات الأولى للحضارة الأوروبية المعاصرة.

فكما هو معلوم عن عصور الانحطاط التي جثمت على العقل الأوروبي قرابة 1300 عام، حيث كانت قيمة الإنسان هي السلالة.. قل لي ابن من أنت أقول لك ما هي قيمتك؟ يعني لو بلغ الإنسان درجات علمية عليا لا قيمة له.. فالقيمة المطلقة لابن الملك أو إن كان بابا أوقُسيسا فقط!

وفي عام 1437م تقريبا ظهر كاتب يصرخ قائلا: "الإنسان مكرم".. وهنا بدأ الحراك الفكري واستمر حتى اتسع في القرن الـ17م، ثم انطلقت الفكرة في الثورات العلمية وأصبحت النظرة إلى الإنسان من منظور العلم لا غير.. أترك المقارنة والاستنتاج للقارئ.