الجمعة 19-04-2024 23:38:24 م : 10 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

إرادة التغيير وإدارته.. بين سنن الاجتماع والمهددات (3-3) مهددات إدارة التغيير

الثلاثاء 20 أغسطس-آب 2019 الساعة 11 مساءً / الاصلاح نت-خاص-عبدالعزيز العسالي
 

 


مفكرون عرب من العيار الثقيل يطلقون مصطلح الربيع الديمقراطي بدلا من الربيع العربي، ولديهم أدلة من التاريخ العالمي بدءًا من الثورة الفرنسية مرورا بربيع أوروبا خلال القرن الـ18 وإخفاقاته، وحروب أوروبا طيلة مئة عام، موضحين أن ربيع أوروبا انتصر في جوانب وتعثر في جوانب، أخفق رأسيا وانتصر أفقيا والعكس، معللين أن التاريخ ليس خطا مستقيما كما هو الحال مع الخرائط المكانية التي يكون أقرب الخطوط فيها الخط المستقيم، فالتاريخ علـى العكس، فالخط المستقيم هو أبعد الخطوط، ذلك أن فلسفة التاريخ تقول إن التاريخ حلزوني، أي أنه عمودي وأفقي في آن.

هذا الوصف التقريبي لمفهوم حركة التاريخ جعل الفيلسوف "هيغل" يطيل التأمل في حركة التاريخ، وتوصل إلى إطلاق وصف فلسفي عميق للتاريخ هو "مكر التاريخ".

والمقصود هنا أن المجتمع الذي يحتاج مئة عام في مجال التنمية السياسية والاجتماعية، فإن من يفهم هذه الحلزونية يمكنه اجتياز المدة خلال عقد واحد، وما كان يحتاج عقدا من الزمن، فقد يحصل خلال سنة.

هذا المكر التاريخي ليس خبط عشواء، وإنما قائم على سنن حاكمة، من وعاها جيدا يستطيع التعاطي معها وتوجيهها واقتناص فرصها وتوظيفها بفاعلية، والأمثلة كثيرة منها:

1- دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أخذت 23 عاما لا غير، وسط مجتمع أمي قبلي لا يعترف بنظام.

2- حركة حماس، تكونت وانطلقت خلال 20 عاما، بل وخرجت بتصنيع سلاح متواضع ثم طورته.

3- مثال سلبي من الواقع وهو دعم إيران لحماس، هذا الموقف مبدئيا هو سنة نجاح بلا شك، والنتيجة المأمولة إيرانيا هي الحصول على قبول عربي وإسلامي واسع تجاه إيران.

لكن انكشاف موقف إيران مع الطغاة ضد الربيع الديمقراطي العربي، وأد المبدأ الذي سعت إليه إيران، لأن المجتمع العربي وعى مقاصد الربيع العربي ووعى مقاصد الثورة المضادة وجلاوزتها، وهذا هو "مكر التاريخ"، فالتاريخ يظهر من خلال حلزونيته أنه في الأسفل، أو قد توارى، ولكنه في حقيقة الأمر هو في صعود.

مقاصدالربيع العربي.. واجبات الكتلة

الكتلة التاريخية يجب عليها ضرورة استحضار مقاصد الربيع العربي، وبلورتها ونشرها وتعميمها شعبيا كما هو الحال مع أهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر.

هذه المقاصد لخصها مفكر عربي بارز في أربعة مقاصد وهي:

1- إنتاج السلطة وإعادة توزيعها.

2- إنتاج الثروة وإعادة توزيعها.

3- إنتاج القيم الفكرية وفن صياغتها وتنزيلها وتوزيعها.

4- إنتاج القيم القانونية وفن تطبيقها.

فإذا أردنا تطبيق المقصد الأول، فإن شعوب الربيع العربي بحاجة ماسة إلى:

1- إخراج "نظرية بناء الدولة" يتم بلورتها انطلاقا من سنن الاجتماع في القرآن الكريم مع الاستفادة من العلوم الإنسانية لدى الآخرين، وتجريد القيم المستفادة مما يتصادم مع ثوابتنا.

2- السعي الجاد نحو التنمية السياسية والاجتماعية من زاويتين: الأولى، تدريب الكوادر المتخصصة. والثانية، بلورة أفكار التنمية السياسية والثقافية.

وهذا يعني صياغة المفاهيم بطريقة مبسطة بهدف تيسير فهمها لدى العقل المتعلم والعقل المتوسط ثقافة، كي تصبح ثقافة وطنية في المدارس والجامعات أولا، والمجتمع ثانيا.

أسس نظرية بناء الدولة

وعلى سبيل المثال تبسيط أسس نظرية بناء الدولة على الأسس التالية:

1- الكرامة الإنسانية

ذلك أن القرآن الكريم قد نص بوضوح على أن الكرامة الإنسانية منحة الله للإنسان،
وأن الله جعل الإنسان خليفة في الأرض، وسخر له ما في السموات وما في الأرض.

وعليه، فإنه على الكتلة التاريخية استلهام نصوص القرآن، وتحويلها مفاهيم من أفق ثقافة العصر ومفاهيمه، وتنزيلها على المجتمع كما في المثال التالي:

2- حرية الإنسان مقصد قرآني، كونها صورة من صور الكرامة الإنسانية.

3- وحتى يكتب النجاح لفاعلية الكرامة الإنسانية الواردة في مصادرنا المقدسة، فإنه من الضرورة قرع أسماع المجتمع بمفاهيم تحمل إجابات على هموم وتطلعات العصر، لأن لكل عصر همومه وتطلعاته، وهنا ستتحول كل المفاهيم إلى ثقافة مجتمعية راسخة.

مثال شيوعي أذكى

كان لينين يتحرك في أوساط شرائح المجتمع مبشرا بالشيوعية، فيسأله الناس: هل من الممكن تعريف الشيوعية؟ فكانت إجاباته تتناسب مع عقلية الشريحة، فمع الفلاحين: الشيوعية تعني إيصال المضخة والحراثة لكل فلاح.

ومع الشباب: الشيوعية تعني التعليم المجاني للشباب دون تمييز، وتشجيع المواهب.

مع العمال: الشيوعية تعني توفير فرص العمل، وتأهيل العمال، وتحديد ساعات العمل، والضمان الصحي لهم.

مع سكان الريف: الشيوعية هي إيصال الكهرباء إلى كل منزل، وطرق السيارات، وإيجاد مدارس خاصة بالبدو الرحل.

وهكذا استطاع لينين تفسير الشيوعية بالمفهوم المناسب لكل شريحة، ونجحت الثورة بطبيعة الحال.

4- عوامل ترسيخ مفهوم الكرامة الإنسانية

إذا أردنا ترسيخ مفهوم الكرامة الإنسانية وتحويلها إلى ثقافة، فاللازم علينا البحث عن وسائل أكثر فاعلية، ومن هذه الوسائل:

- القيام بتتبع الظواهر السلبية والخطيرة، وذلك بدءًا برصدها كيف نشأت، والعوامل التي ساعدت على انتشارها، ثم توضيح آثارها المدمرة لكرامة الإنسان، ثم وضع التصورات النظرية للمعالجة، وذلك من رحم المفاهيم المركزية في القرآن الكريم، وصولا إلى أفضل التطبيقات المتسقة مع النفس البشرية عقديا وتشريعيا وسلوكيا.

فمثلا، الإحسان مفهوم قرآني مركزي، "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، وهذا يعني أن الإحسان هو الإتقان، وهو الجودة، وهو الكمال، وهو النظام، وهو الارتقاء الروحي والفكري والحضاري. هذه معاني الإحسان في اللغة والاعتقاد والسلوك، وبالتالي، رفض التقزيم لهذا المفهوم القرآني الإنساني العظيم، حيث طاله التقزم في تراثنا الموروث، إنه الإنفاق للمال خارج فريضة الزكاة، والأسوأ هو ذلك القول إن هذا الإحسان ليس واجبا وإنما هو طوعي.

باختصار، إذا أردنا بناء نظرية الكرامة الإنسانية من خلال المفاهيم المركزية القرآنية، يجب أن نستحضر قاعدة "إيجاد المصالح أو تكميلها"، وقاعدة "دفع المفاسد أو تخفيفها"، ثم بلورة الشواهد من الأدلة الجزئية.

الجمال مفهوم قرآني مركزي

هذا المفهوم القرآني العظيم أستطيع القول إنه منعدم في المجال التربوي العربي الإسلامي، وأقرب مثال هو أن الرسم حرام.

وعلى افتراض وجود تفاعل نسبي لدى بعض الطلاب والمعلمين في هذا المجال، فإن أغلب المعلمين يتذمرون أمام الطلاب، فيشعر المعلم والطلاب أنهم بلا عقيدة أو أنهم مرتكبو كبائر.

وهناك مفاهيم مركزية كثيرة في القرآن لا مجال لها هنا.

بكلمة، يجب استحضار مقاصد الربيع العربي لدى الشباب الساعي إلى التغيير، والرامي إلى تغيير قواعد اللعبة، كي يتمكن من توجيه البوصلة في الأفضل والأعلى والأمثل والأكمل، وصولا إلى اجتراح أفضل الوسائل في حماية الكرامة الإنسانية، بعيدا عن التلفيقات التي من شأنها أن تكرس تحسين شروط العبودية.

لنقدم مثالا لاختيار أفضل الوسائل: الإدارة الديمقراطية في تنظيم وإدارة وحماية التنمية السياسية والاجتماعية، هنا يجب التأمل القائم على البحث المقاصدي انطلاقا من قاعدة جلب المصلحة ودفع المفسدة، وصولا إلى الإجابة المقاصدية على السؤال الافتراضي التالي:

هل الإسلام يأتي بالديمقراطية، أم الديمقراطية تأتي بالإسلام؟

لا شك ولا ريب أن الشورى في القرآن قد أعادت الحق السياسي إلى صاحب المصلحة الحقيقي وهي الأمة، لكن التراث قد أضر بهذا المبدأ المقدس الذي كرم الإنسان، نجد أنه قد تمت إزاحته من مكانه السامق العتيد (سنن الاجتماع الحاكمة)، إلى مجال لا علاقة لها به.

بل لا يوجد أدنى تشابه بينه وبين المجال الذي تم إسكانه فيه جوار جزئيات الوضوء كالمضمضة والاستنشاق والسواك.

لا شك أننا سنلاقي إشكالات في البداية، لكن إذا قدمنا خطابا مقنعا بأن وسيلة الديمقراطية أثبتت نجاحها في حماية كرامة الإنسان في المجتمعات الأوروبية وغيرها. قد يكون فن الإقناع بتقديم تساؤل مفاده: لماذا الغرب يحول بيننا وبين ممارسة الديمقراطية؟ بل يجهضها ويرسل الدعايات بأن العقل العربي غير قادر على ممارسة الديمقراطية.. هنا سيتفاعل العقل التغييري وسيقدم عشرات الإجابات لإقناع الجماهير.

الظواهر السلبية

سنشير هنا إلى عدد من الظواهر السلبية الخطيرة، والتي لها نتائج مدمرة لكرامة الإنسان والمتمثلة فيما يلي: الحروب، الاقتتال الشخصي على التوافه، انتشار الجوع، التشريد، لجوء إلى الغرب، أمراض متفشية، تهجير، نشر أوبئة بقصد، حمى الضنك، التيفوئيد، الكوليرا، فيروس الكبد، العوز المناعي (الإيدز)، تلخيص البحوث التي أثبتت أن هناك إياد وراء نشر الأوبئة لتحقيق مكاسب تجارية لشركات العلاج.

ومن الظواهر المدمرة: احتكار العلاج، واحتكار الأساسيات، الغش بأنواعه، مخدرات، عنصرية صادرة عن جهات مركزية عليا في الأوروأمريكية، وعنصرية تقوم بها جهات فرعية، صناعة إسلام فوبيا (داعش وماشابهها من التنظيمات المتطرفة)، اضطهاد للمرأة، محاربة الحركات الداعية إلى الحكم الرشيد والعدل، أزمات بيئية، تغول الدولة، مصادرة حق الشعوب، وتزوير إرادتها، انتشار الظلم بأنواعه، سقوط المقدس، ظاهرة الإلحاد.

هذه الظواهر وأمثالها لا بد من دراستها وتقديم الحلول لها انطلاقا من مفهموم الكرامة الإنسانية وصولا إلى تقليص هذه الظواهر مرحليا وصولا إلى إزالتها.

إننا نمتلك رصيدا قيميا مقدسا، وهذه القدسية تمثل أكبر عون في تحقيق مبدأ الكرامة الإنسانية.

المهددات.. ثالوث المعوقات (غزاة، طغاة، غلاة)

هذه المصطلحات مقتبسة من المفكر المغربي محمد الطلابي، وأحببنا إيرادها كما هي من باب التجديد للقارئ لا غير، ذلك أننا قد كتبنا حول هذا الثالوث اللعين ولكن بمصطلحات أخرى.

الغزاة

المقصود به الأطماع الخارجية القادمة من خارج حدودنا، والتي بدأت مبكرا فغرزت خنجر الصهيونية في قلب الوطن العربي ثم افتعال الفتن والحروب ودعم الطغيان، وخلق داعش والثورة المضادة (الربيع العربي نموذجا)، وهناك مئات الشواهد.

المهم هنا هو أن الكتلة المقترح إقامتها لا بد أن تعي هذا الثالوث الخبيث الذي وقف ضد الربيع العربي، وبالتالي تعمل على صياغة أولوياتها في ما لا يتصادم مع الغزاة، ولا مانع من دراسة موضوع الشراكة، اربح ويربح الآخرون.

بلورة خطاب يطمئن الجيران على المستوى الإقليمي مفاده أن الربيع العربي هو شأن وطني خاص، وأن من مبادئ الربيع العربي الرفض القاطع لأي تدخل في شؤون الغير جيران أو أشقاء أو أصدقاء.

الطغاة

هذا المكون الثاني للثورة المضادة، والمطلوب هنا من الكتلة تحديد أولوياتها ووسائل تنفيذها متمثلة في منظمات المجتمع المدني، وقد أشرنا في الحلقتين السابقتين إلى وظائف ومهام أخرى للكتلة، والهدف هنا عدم استفزاز الطغاة المحروسين بالغزاة.

باختصار، لا بد من خطة لثلاثة عقود أو خمسة أو عشرة.

الغلاة

المقصود بالغلاة هنا فريقا التطرف العلماني والتطرف الديني، هذا التطرف بين فريقي قتل الثقافة والفكر والعقل، فهذا يطلق مصطلح الجمود على المتطرفين دينيا، والأخير يصف الأول بأنه عدو الدين، ولكن التاريخ هتك الأقنعة فانكشف فريقا النخبة أنهما يشربان من مستنقع الغزاة والطغاة، وذلك بموقفهم المخزي من حقوق الإنسان.. لقد وقفا في صف الطغاة والغزاة.. اجتمع النقيضان المتطرفان في حضن المستبد ضد الربيع العربي.

التصالح هو الحل

إن الدمار الحاصل في بلدان الربيع العربي سببه ذلكم الثالوث السيئ الذكر.

غير أن المتأمل في سنن الاجتماع الحاكمة سيجد أن التطرف إلى زوال، وأن الواقع المأساوي التدميري سينتقل بنا إلى الوسطية.. هكذا هي سنة الاجتماع الحاكمة حتمية النتائج، وعليه، فالواجب علينا الإقبال على التصالح فيما بيننا.

تصالح إسلامي إسلامي، وإسلامي علماني، وليبرالي ماركسي، وتصالح طائفي، وجهوي، ومذهبي، وليكن شعارنا لكل مذهبه والوطن يجمعنا، وبالتالي نكون قد عملنا على سد هذه الثقوب التي يدخل الطغاة والغزاة من خلالها إلينا فيمزقوا نسيجنا المجتمعي.. فلنقطع الطريق.

ولن يكتب النجاح لهذا التصالح إلا باعتماد منهجية القرآن في الكرامة الإنسانية، وإعادة الاعتبار للعقل، وعدم اجترار التراث الذي استخدمه الطغاة في توظيف الغلاة.

ولا ننسى أن إعادة الاعتبار للعقل هو أعظم مظاهر التكريم الإلهي للإنسان، وهنا أقول: لا خوف من حرية التفكير، بل إن حرية التفكير ستكون هي أكبر عاصم بل حاجزا منيعا ضد الإلحاد.

ڼعم، التصالح بآلامه أفضل ألف مرة من الحروب العبثية.

لنا وقفات عدة مع الحروب العبثية.. محركاتها.. نتائجها.. وآثارها..
إلى اللقاء..