السبت 04-05-2024 17:57:34 م : 25 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

الوجع اليمني.. فساد الانتماء الوطني.. جذور المشكلة (1-3)

الخميس 11 يوليو-تموز 2019 الساعة 10 صباحاً / الإصلاح نت - خاص- عبد العزيز العسالي

  

 

الشعب اليمني عبر تاريخه الطويل كان ولا زال وسيظل رافعا راية انتمائه لوطنه، مدافعا عنها ومستميتا لأجلها، مقدما آلاف الضحايا، وأبرز برهان ما نشهده اليوم، آلاف الشهداء وآلاف الجرحى قدمهم شعبنا المعطاء الذي امتطى أخمص قدميه منطلقا في جبهات الشرف الوطني، سعيا لاستعادة الشرعية السياسية ودحر مليشيا الانقلاب العفاحوثية.

وقبل ذلك، نزجي التحية والتقدير والعرفان وبكل إجلال إلى شعبنا اليمني العظيم المكافح في سبيل عزته تحت راية الجمهورية والوحدة، معلنا بوعي تام وبكل عزة وشموخ وكبرياء عن انتمائه واعتزازه بانتمائه لوطنه.

 

فساد الانتماء شريحته محدودة

فساد الانتماء الوطني الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو في حقيقة الأمر حديث عن حالة استثنائية ظهرت لدى شريحة محدودة العدد، وهذا يحصل في كل المجتمعات.

الهدف من الحديث في هذا الصدد هو لفت النظر إلى قضايا عدة أهمها:

أ- طغيان الفساد السياسي وفساد الانتماء الوطني على سطح الواقع اليمني المعيش حتى كاد يكون هو الأصل.

ب- فساد الانتماء الوطني طال أمده فاضطربت الرؤية لدى البعض فأصيب بعمى الألوان جراء دخان الفساد القاتم اللعين فأطلقوا تصريحاتهم بأن الشعب اليمني بلا قيم وطنية ولا قيم إنسانية ولا حضارية ولا وطنية، وهذا تعميم جائر لأن جبهات الشرف الوطني واستعادة الشرعية خير شاهد.

ج- التنبيه والتحذير من تكرار عودة ذلك الوضع الشاذ، بل والسعي بكل السبل والوسائل لاجتثاثه أولا ثم للحيلولة دون عودة الأسباب التي أنتجت هذا الشذوذ المدمر، ذلك أن فساد الانتماء الوطني لم يأت اعتباطا وإنما توكأ على سنن اجتماعية طال عليها الأمد فضربت جذورها، موظِّفة العوامل الداخلية والخارجية، مجندةً كل وسائل الدولة بصورة دائبة في سبيل إفساد الانتماء الوطني والتمكين للفساد السياسي والاستحواذ على مقدرات الأمة.

وقفت ثلة من العقلاء قبيل الانقلاب المليشاوي العفاشحوثي متسائلين: لم هذا الاستلاب للقيم الوطنية؟ ولكن هيهات، ذلك أن طبيعة الوعي المجتمعي لا يلتفت إلا بعد حدوث المشكلة، بل بعد انتهائها، إضافة إلى أن الطاحونة الإعلامية للفجور السياسي استطاعت إثارة الغبش في الرؤية لدى الجمهور.

وقع الانقلاب فانضمّتْ ثلةٌ أخرى من العقلاء متسائلين: ما الذي يحصل؟ هل يعقل أن الملكية دخلت صنعاء على صهوة دبابة الجمهورية؟ هل يعقل أن الحرس الجمهوري والأمن المركزي ساعد على ذلك؟

سمعنا عن جرائم الذبح الجماعي التي طالت ثكنات رفاق السلاح، هل كان ذلك حقيقة؟ وبتلك الأعداد المهولة؟ ما الهدف من تبديل "الميري" (الزي العسكري) بالزي المليشاوي؟ وما الهدف من اقتحام عواصم المحافظات؟

أليست كل القوى الوطنية وقعت اتفاق سلم وشراكة؟ كيف التقت لحية ماركس مع الشريحة المتطرفة جدا والمنتمية إلى منظمات إرهابيه باسم الحزام الأمني؟ أين المثقفون؟ ما هذا الصمت؟ كيف نفهم أن علي شائع هادي يقول إنه مناضل أممي وابنه شلال يفتخر بأنه مناضل قروي؟

كانت هنالك قامات وطنية في نظر الشعب كيف تحولت إلى انقلابية؟ ما الذي جعل الأكاديميين يحملون الكلاشينكوف زاحفين على بطونهم ليلعقوا أقدام طفل "مشرف" تحدوهم أمنيات الحج والطواف عند الكهف وتقبيل الأقدام؟

هكذا توالت عشرات التساؤلات، واتسعت شريحة المتسائلين: ما الذي يدور؟

وما السبب وراء ما حصل وما يحصل؟

 تساؤلات بعضها قيل قبل الانقلاب وبعضها بعده، لكن تم الاحتفاظ بها على أمل حصول مواقف إيجابية تجسد الانتماء الوطني في وجه المليشيا الانقلابية.

لكن الشريحة المنغمسة في فساد انتمائها الوطني ظلت مستمرأةً ما يحصل من قتل للأبرياء وتدمير للنسيج المجتمعي ومقدرات الأمة إنسانيا وحضاريا، وكأنَّ الشعب عدوها اللدود.

ازداد الموقف قتامة والرؤية عتامة واستجدت إكراهات مصحوبة ببصيص أمل، لكن غاب التفكير ونُسيت التساؤلات.

 

عودة الأسئلة إلى الصدارة

طال أمد الحرب وتكشفت مواقف مشينة هنا وهناك معتبرة الحرب مغنماً، وتبدى حجم الهلع عند البعض ولهثه خلف المادة التي أنسته وطنه وناسه.

هنا عادت الأسئلة إلى الصدارة، والواقع دعمها بمواقف أشد ما تكون وضوحاً شهد بسقوط مدوٍّ في الانتماء الوطني طال الصف الوطني وأولئك

الصامتين شعبيا والمؤازرين للمليشيا الإرهابية وبعض المنتسبين إلى صف الشرعية، وبعض شخصيات حزبية وقامات ثقافية.

كان هذا السقوط هو السبب المباشر في العودة إلى ملف الأسئلة الآنفة، وبعد إجالة النظر طويلا تبلور المفهوم جيدا، وظهر بوضوح أن مشكلتنا وعلتنا ووجعنا في اليمن هي فساد الانتماء الوطني.

لعل الجميع يتفق معي حول هذا الاعتلال ويتفق معي حول أبرز جذوره، وقد يخالفني في الأسباب والعوامل وهذ أمر طبيعي.

باختصار، لا يهمني بعد ذلك إن حالفني الصواب أو خالفني، فحسبي أني فتحت نافذة تنطلق من خلالها ذرات الضوء تجاه العلة التي دوخت شعبنا طيلة أربعة عقود ولا زالت.

إذن، متى بدأ هذا الوجع؟ ولم؟ وكيف استفحل وصولا إلى هذا التدمير؟ توضيح ذلك في المحاور التالية:   

1ــ جذور الوجع.

2ــ مقاتل الانتماء الوطني.

3ــ الآثار التدميرية.

4ــ إرادة التغيير وإدارته.

الأرضية الأولى لجذور الوجع

يقول عبد الله البردوني:

يا رفيقي هذه ليلتنا

عاقر سكرى بآثام السفاح

هذا البيت الشعري كثيف العبارة كثيف الدلالة قوي الظلال، ولا غرابة فأستاذنا البردوني، رحمه الله، فارس هذا الميدان بشهادة فحول الأدب.

ليلتنا يقصد بها المرحلة الاستثنائية التي نحن بصدد تشخيصها، هي ليلة عاقر لا أمل في ظهور شيء جديد، أليس الجديد يأتي من إنجاب؟

سكرى، هل هذا السكران لا يفيق؟ لا، الأمر هنا مختلف تماما لأن المادة ليست خمراً، إنه سكر من نوع آخر (سكر معنوي).. إنه انحراف فطري متصل بجانب الشخصية (شخصية إجرامية سيكوباتية) مصادمة ومعادية للمجتمع.

العلة متصلة بالمحتوى الملوث جدا في اللاوعي لديها، باختصار هو تلويث قذر طال القيم فأفسدها وتعدى هذا الفساد إلى من حولها بقوة السلطة.

أليست التوبة تمحو الآثام؟ ليس هنا، لأن الإثم هنا لم يكن وليد تصرف إيجابي فحصل خطأ غير مقصود، وإنما هي آثام فظيعة لكثرتها أولا، ولأنها من سفاح ثانيا.

آثام كثيرة، مصدرها غير شرعي (سِفَاح)، وهذه تنتج آثاما وتعيد إنتاج ذاتها من خلال نفوس ساقطة تتلذذ بلعق أحذية الجلاد المصادم للشعب.

من جهة أخرى ليتها عاقر وصاحية، ليتها عاقر وسكرى بخمرة، ربما تفيق لحظات، ليتها عاقر وسكرى بإثم واحد وإن كان كبيرا، لكنها عاقر سكرى بآثام لا حصر لها، وفوق ذلك أنها آثام سِفاح: فكريا، سياسيا، ثقافيا، اجتماعيا، تربويا، اقتصاديا، قيميا، وإنسانيا.

عاقر لا تنجب إيجابيات، سكرى لا تعي من يخصبها بطريق السفاح ويا ليته سفاح فقط، إنما سفاح ينجب ثقافة وفكرا من نفس البذرة.

ما الذي توقعته أيها الفيلسوف العملاق؟

قررت أن أكبر عقاب لليمن هو بقاء القوة الجاهلة أربع سنوات، وتوقعت مخطئا أن النحس الذي حاق باليمن سينتهي ولن يعود فلننتظر دورة قادمة، لكن طالع اليمن كان منحوسا.

ها هي تعود في يوليو 1982 مرة أخرى، ويومئذ قلت قصيدتي التي تنضح مرارات وعنوانها "ليلةٌ من طراز هذا الزمان".. سنقتصر على الشاهد الأقوى:

أتت منحوسة المسرى

إلى ذي الطالع المنحوس

وباتت ضيفتي وحدي

وبتُّ رئيسها المرؤوس

لقد أدرك الشاعر خطورة الموقف وجذور المشكلة، فكان هو رئيسها كونه العالم بحقيقتها، ومرؤوسا لأنه وحده كمثقف يشعر بخطورة الموقف، ولأن حدوده هي الكلمة فهو مرؤوس.

لقد عيرته قائلة:

أبوك الفارس الملغى

وأنت الفارس المفروس

برغمي ترتدي وجهي

تدعي أن الشعب انتخبها، والحقيقة هي أن الذي أعادها أسباب عدة:

 لها عشرين حافورا

وأنف يشبه الدبوس

مال، إعلام، جيش، أمن، المشيخة، التجار، توظيف الدين، مخابرات، والبعد الإقليمي والدولي.

أنف صغير مخابرات تتشمم أضيق الشقوق، كوحش ما له وصف، ولا رسم على القاموس.

الحقيقة أن الشاعر هنا لم يجد لغة تسعفه في تصوير تلك الليلة الشوهاء فجاء وصفه من خارج اللغة.

وماذا عن البعد الخارجي؟

وبين قَوامِها والظل

شيء ثالث مدسوس

ما هو المدسوس؟ هذا مؤشر ينبئ بدمار لا يرحم، والدليل هو:

بأيديها توابيت

وخلف قذالها فانوس

انحراف في كل مواقفها وتصرفاتها، المستقبل نعوش وجنائز والسراج خلف الظهر.. إنها لا تنوي خيرا أبدا.

وماذا عن الرجل المناسب هل هو في مكانه؟

وعِقدٌ فوق فخذيها

وجيدٌ للقفا معكوس

صدرها مشلول ملتوٍ إلى خلف ظهرها، ليسهل امتصاص بيت المال

من الخلف، والفانوس يساعد على الشفط، والثديان ملتصقان كالجورب المغموس من شدة الشفط.

تمارس أسوا صور الدجل القذر:

بفيها سورة الأعلى

وتحت قميصها باخوس

الباخوس: جرة الخمر بلغة اليونان.

سورة الأعلى لخداع الشعب بأنها على جادة الشريعة، وحقيقتها هو العكس، جرة الخمر تحت قميصها.

سكر وآثام سفاحية كثيرة، وأنجم عسكرية على كتفها تشير أن الظلام والأنجم العسكرية متعاشقان، وسيظل الظلام والجهل والإفساد ما دامت النياشين العسكرية هي الحاكمة.

كأنّ الأنجم الكسلى

حصىً في لحمها مغروس

الحقيقة احتار الشاعر فتساءل: من هو الأصيل ومن الذي سيسيطر؟ أصبح الشعب لا يعلم.

فمن منا على الثاني

تطفل أيٌّنا المهووس؟

اختلط الأمر وطغى عمى الألوان، نظراً لاستمرار الفساد، دب اليأس فقال البعض إن الشعب كله فاسد وإن الأصل هو الفساد.

تلك مقتطفات من قصيدة البردوني، الهدف من إيرادها

إعطاء القارئ صورة عن الفوضى الخلاقة التي أوصلت القوة الجاهلة وساعدتها على قتل الانتماء الوطني.

 

جذور المشكلة

الوجع اليمني تتمثل جذوره في المظاهر التالية:

1ــ الأمية الفكرية والثقافية.

2ــ العوامل الخارجية المتمثلة في الحرب الباردة بين الرأسمالية الأوروأمريكية والاشتراكية السوفيتية.

هذان القطبان تولد عنهما استقطاب للدول النامية ومنها اليمن، فكان الشطر الجنوبي مع السوفييت والشمال مع الرأسمالية، ودارت حرب بين الشطرين من جهة وداخل الشطر الشمالي (المعارضة الماركسية ضد السلطة) من جهة ثانية.

هذا الاستقطاب الخارجي الدولي أدى إلى صراع سياسي عسكري داخل اليمن فأثمر الجذر التالي:

3ــ الفوضى الخلاقة، وهي اضطراب وعدم استقرار في الداخل اليمني فأنتج الجذر التالي:

 

4ــ صعود القوة الجاهلة التي تشاءم منها بعض العقلاء لأنها في الحقيقة كانت هي المستنقع الذي تنبعث منه جراثيم قاتلة أدت إلى إفساد الانتماء الوطني.

فما هي مقاتل الانتماء الوطني؟ هذا هو مضمون الحلقة التالية.. إلى اللقاء.