الأحد 05-05-2024 10:40:15 ص : 26 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

نسيان الحظ عند المسلمين.. حصائد النسيان ومعالم الخلاص (3 - 3)

الأحد 07 يوليو-تموز 2019 الساعة 10 مساءً / الإصلاح نت - خاص- عبد العزيز العسالي

 

من الأمور البدهية هي أن عموم المسلمين لم ينقضوا ميثاقهم المتمثل في عقيدة التوحيد، لكن إغفال الأبعاد الإنسانية والقيم الحضارية الملازمة لعقيدة التوحيد أحدثته دهاليز السياسة وفقهاء البلاط في التاريخ المبكر.

 

أشرنا في الحلقة الثانية إلى
أن فريقا آخر من الفقهاء قدم تأويلات احتمالية لما يراه صوابا بطريقة دبلوماسية مستهدفا وعي المجتمع ولسان حاله يقول: ليس ما قاله أهل البلاط هو كل شيء وإنما هناك أقوال أخرى تخالف تعسفات دهاليز السياسة التي كرست مفاهيم لخدمة السياسة.

الرأي الفقهي المناوئ كان يحدوه الأمل وشعاره أن سنن الله تتغير، يعني أنه لا شيء سيظل كما هو، بل سيأتي وضع ينسف ما فرضته السلطات من تناسٍ متعمد للأبعاد الإنسانية والقيم الحضارية المتجذرة في عمق عقيدة التوحيد.

غير أن هذا الأمل المبني على سنن الاجتماع، رغم وجاهته، لكنه نسي أن سنن الاجتماع خاضعة للتعاطي وليست قضاء إلهياً مبرماً.

إذن ظلت السياسة كما هي، وبمرور الزمن تم توظيف الرأي المخالف بطرق تعسفية تبرئ ساحة الفقهاء بأنهم كانوا مع الخليفة.

في هذه الحلقة سنتحدث في محورين: الأول، حصائد النسيان. والثاني، معالم الخلاص.

 

أولا: حصائد نسيان الحظ

في الحلقة الثانية استعرضنا مظاهر النسيان، وذيلنا أغلب تلك المظاهر بأنها دلائل على النسيان وأنها عقوبات في آن واحد، تراكمات فكرية وتشريعية طال عليها الأمد فغاب التذكر وضاع العزم.

وللتذكير، سنستعرض سريعا حصائد النسيان ليتسنى للقارئ الربط الفكري، وبالتالي يتسنى له معرفة المقصد بوضوح، فنقول حصائد النسيان هي:

1ــ غياب المساواة: وهذا يعني غياب العدل، هذا الغياب أنتج عقوبة أخرى هي:
2ــ صنمية الحاكم والوثنية السياسية.
3ــ إضفاء القداسة على شخص الحاكم وعلى مكانته لأنه صاحب الحق الإلهي في الحكم.
4ــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطالبة بتحقيق العدل هو ميتة جاهلية.
5ــ جواز الخروج بالسيف والقتل وسفك الدماء.
6ــ عبادة الموروث الفكري (التراث) والذي رسخ منهجا يخدم نسيان الحظ وإضاعة العدل.
7ــ عقوبة العقوبات إغراء العداوة والبغضاء.

وهذا يعني أن الحروب والانقلابات في الأقاليم ضد الدولة المركزية كانت سيدة الموقف في غالب عقود التاريخ الإسلامي حتى اللحظة.

8ــ أسوأ مما سبق: استباحة قتل الشعب مهما كان مسالما في مطالبته بالعدل والشورى.

باختصار، الانقلابات في الوطن العربي والتي قاربت 70 انقلابا هي تجسيد لحقيقة نسيان الحظ المتمثل في غياب العدل والشورى.

 

ثانياً: معالم الخلاص

1ــ الإنسان أولا: والمقصود هنا هو أن الشريعة جاءت لمصلحة الإنسان دنيا وآخرة، وأن الذي سيقتصر على أن يأخذ من شريعة الإسلام القيم الدنيوية كالحرية والعدل والمساواة والسلام، والقيم الحضارية الإنسانية كالقبول بالآخر والتعددية فله ذلك، لأنه لا إكراه في الدين. وهذا ما حصل في مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعكسته وثيقة المدينة بوضوح.

وعليه، نحن المسلمين بحاجة ماسة لإعادة ربط المبادئ التالية وتجذيرها في عقيدة التوحيد، وهذه المبادئ هي: الحرية، والمساواة، والعدل.

2ــ رفض التقديس لأي كان باستثناء ما قدسته النصوص الصريحة في الشرع الحنيف ومنها إنسانية الإنسان (حريته وكرامته).

3ــ بلورة تشريعات إسلامية فقهية تصب في ذات الاتجاه، أي نجعل الفقه إنسانيا، انطلاقا من أمهات القيم الحضارية: الحرية، والعدل، والمساواة.

ذلك أن ربط أمهات القيم بجذور العقيدة يعطيها بعدا قداسيا لا يجوز المساس به أبدا بأي حال، إلا في الحالات التي استثناها الشرع المقدس.

4ــ إعادة تموضع وتسكين لمبدأ الشورى بين سلم السنن والقيم الحضارية (التدين الجماعي)، المتمثل في إعادة تمليك الأمة حقها الإلهي في الشرعية السياسية كي تصل إلى العدل.

على أن يتم بلورة الإجراءات العملية في تطبيق هذا المبدأ من أفق ثقافة العصر وهي الإدارة الديمقراطية، جمعاً بين الأصل المقدس وبين الثقافة المعاصرة في حصار الاستبداد وتغول الفجور السياسي وتقليم أظافر الظلم وصولا لإحلال العدل.

5ــ تفعيل منهج الفقه المقاصدي في حياتنا السياسية والاجتماعية، وتبسيط فقه المقاصد حتى يصبح ثقافة عامة لدى الأمة (جلب مصلحة، ودفع مفسدة).

6ــ التربية والتكوين الفقهي على "صغار العلم"، أي وضوح فقه المقاصد، حسب كلام الفقيه الشاطبي رحمه الله، وأيده فقهاء معاصرون كبار، بل إن هذا الفقه هو فقه الصحابة رضي الله عنهم.

على أن يبدأ التعليم والتدريب على المقاصد الواضحة من السَّنة الأولى جامعة أو بالمراكز الشرعية، وينتهي الموقف في السنة الأخيره بتعليم "كبار العلم"، أي جزئياته ودقائقه، فهذه الدقائق هي أمور كبار على العقل المبتدئ لكن يسهل فهمها في المستويات الدراسية العليا.

7ــ فهم المحكم والمتشابه مقاصديا: المحكم والمتشابه في القواعد الأصولية لا يقدم فائدة ذات جدوى في تكوين العقل الفقهي. لكن لو تعاملنا مع المحكم والمتشابه من زاوية المنهج المقاصدي، فإن هذا يعني ثراءً فقهيا وحيوية تنعكس على مستجدات واقع الحياة.

فالمحكم مقاصديا هو كليات الشرع، والمتشابه هو النصوص الجزئية التي إذا قمنا بتطبيقها واقعيا سنجد أنها تهدم مقاصد الشرع (حديث الغدير نموذجا)، والأئمة من قريش وغيرها، فهذه الروايات مهما صحت سندا فإن الصحابة لم يعرفوها أولا، وهي
مصادمة لمقاصد الشريعة ثانيا، وفتح لباب القتل ثالثا (الانقلاب الحوثي نموذجا)، أليست هذه الحرب الفاجرة المدمرة لليمن هي بسبب هذه الروايات؟

8ــ تربية العقلية الناقدة: يجب إعطاء هذا المفهوم أولوية إلى جانب المنهج المقاصدي وتدريب عقول الشباب على ممارسة النقد للأفكار والتقييم، وهنا سنكون قد وضعنا القدم على أولى درجات المعراج الإنساني الحضاري.

9ــ العناية بالمرأة وتشجيعها على اقتحام مجال الاجتهاد الفقهي وبحث قضاياها مقاصديا (جلب مصلحة، ودفع مفسدة).

10ــ وليس أخيرا: تزويد عقلية التجديد الفقهي بمواد علوم إنسانية ذات صلة ببناء وتكوين الفقيه المتجدد، ومن ذلك علم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتاريخ وبعض قضايا الطب والقانون، والمقصود هنا فتح تخصصات فقهية جزئية وفهمها في ضوء علاقتها بالعلوم الإنسانية حتى يستطيع الفقيه إصدار الفتوى عن معرفة وثقة وليس تقليدا لذوي التخصصات الإنسانية الأخرى.

باختصار، نحن بحاجة لإعادة النظر في القول الشائع "الاجتهاد الجماعي"، المتمثل في وجود تخصصات أخرى بجوار الفقيه يشاورهم ثم يصدر الفتوى.

فهذا القول انكشف عواره، ذلك أن الفقيه كيف سيقتنع بأقوال الآخرين أولا؟ وثانيا، ليس كل المتخصصين لديهم قدرات في بلورة القضايا، والحل هو التكوين الفقهي من البداية حتى يكون الفقيه مالك أمر الكلمة بحثا ومعرفة وقرارا.

تلك أهم معالم الخلاص يجب إعمالها إذا كنا نريد عقلا فقهيا ناضجا يمتلك الرؤية ثم قرار الفتوى.
والله الموفق والمعين.

كلمات دالّة

#المسلمين