الأربعاء 17-04-2024 02:56:53 ص : 8 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

بناء الدولة الحديثة.. أسس، قيم، أهداف، غايات (الحلقة الأولى: الأسس الفكرية)

الأحد 07 إبريل-نيسان 2019 الساعة 12 صباحاً / الإصلاح نت - أ. عبد العزيز العسالي

 

 

المشكلة الكبرى عبر التاريخ:

- في كتابه الرائع "طبائع الاستبداد"، قال الكواكبي رحمه الله: "قضية الحكم هي أكبر مشكلة عبر التاريخ"، (ص 166).

ــ كلام الكواكبي الآنف لم يأتِ من فراغ وإنما هو نتيجة تتبعٍ عقليٍ حصيف استقرأ قضية الحكم عبر التاريخ ثم أصدر حكمه عن وعي وقد أصاب.

 

الأسئلة التاريخية:

هذه المشكلة الكبرى تولد عنها أسئلة وظلت حاضرة في تاريخ الفكر البشري المتصل بالاجتماع السياسي.

- لقد حاول الفلاسفة الإجابة على الأسئلة التاريخية كأفلاطون وأورسطو وهوبز وروسو... إلخ.

 ــ يمكننا استعراض الأسئلة التاريخية إجمالا وإيجازا، وصيغتها كالتالي:

أ- هل وجود السلطة ضروري؟

ب- إذا قلنا بالإيجاب فما هو الطريق الشرعي والأسلم لإقامة السلطات؟

ج- كيف يمكن الوصول إلى العدالة السياسية المنصفة؟

د- هل وجود السلطة يعني انقسام الناس إلى آمر ومطيع؟

هـ- ما طبيعة منصب الحكم؟ هل هو هبةٌ سماوية أم ملك شخصي وراثي؟ أم وكالة مشروطة؟

و- ما هي الطريقة الناجحة لحمل الناس على التزام القانون وطاعة السلطة؟

ز- ما حدود هذه الطاعة؟

ح- ما هي الضمانات الكفيلة بتقليم أظافر السلطات وتحول دون تغولها وانفرادها بالقرار؟

هذه هي مجمل الأسئلة التاريخية حول مشكلة الحكم.

 

 انقسام الفكر السياسي:

ــ انقسم الفكر السياسي في النظر إلى طبيعة النفس البشرية، هل هي شريرة أم خيِّرة؟

ــ انعكس هذا الانقسام على نظرية السلطة، فالذي نظر إلى النفس البشرية على أنها شريرة طالبت نظريتُه بقيام سلطة مستبدة كي تقمع الوحش القابع داخل الإنسان.

القسم الثاني: هذا القسم من الفكر السياسي نظر إلى النفس البشرية أنها "خيِّرة"، وأن الشر طارئ عليها وأنه يمكن تهذيبها وتخفيف الشر فيها، فجاءت نظريته كالتالي:

 

أولا: مقدمات نظرية

ــ أصحاب هذه النظرية انطلقوا من مقدمات نظرية هي:

أ- تكريم الإنسان، ومصدره النفخة الإلهية: {ونفخت فيه من روحي}.

ب- استخلاف الإنسان.

ج- هدم الوثنية السياسية.

د- سيادة الأمة.

هـ- إهدار التراتبية الاجتماعية.

و- ترسيخ هيبة الأمة.

ز- تعقيد مصدر القرار.

 

ثانيا: الحقوق الفطرية

ــ إذا تأملنا هذه المقدمات سنجد أنها قد اشتملت على نوعين من الحقوق:

 النوع الأول هو الحقوق الفطرية وهي التي لا يجوز التنازل عنها بحال مثل: حق الحرية، وحق الحياة، وحق الكرامة الإنسانية.

النوع الثاني من الحقوق، هو الحق الوضعي الأرضي الإجرائي المتمثل في العقد الاجتماعي ومصدره سيادة الأمة.

وهذا ما أخذ به إعلان الثورة الأمريكية، وهذا الإعلان قد اقترب من الصواب إلى حد كبير.

 

ثالثا: أسس بناء الدولة الحديثة

ــ اختلف فلاسفة الاجتماع السياسي حول أسس بناء الدولة الحديثة، لكن عند إمعان النظر في دساتير الثورات الكبرى (بريطانيا، أمريكا، فرنسا) سنجد أن الخلاف ليس جوهريا وربما كان الخلاف من باب البصمة والتميز والابتعاد عن التقليد.

 

فمثلا، النظرية السياسية البريطانية هي "البرلمان"، فهو الحاسم في القرارات السيادية.

النظرية السياسية الأمريكية هي "الدستور" هو الفيصل.

النظرية السياسية الفرنسية هي "الشعب"، فالشعب هو الحاسم.

باختصار، الشعب هو مصدر

"الشرعية السياسية" المتمثلة في الدستور والبرلمان والسلطة التنفيذية، ذلك أن هذه النظريات كلها متلازمة فلا دستور بدون أمة ولا برلمان، ولا وجود لأمة في غياب الدستور والبرلمان.

 

رابعا: مقاصد القرآن تضع أساس بناء الدولة

الشورى أم الأسس.

ــ من المعلوم أن تشريعات القرآن مرت بمرحلتين هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية.

 

ــ ومن المعلوم أن فرائض الإسلام من صلاة وصيام وزكاة تكرر ذكرها في القرآن، ولكن بصورة إجمالية في العهد المكي، ثم كان التفصيل في العهد المدني كالتالي:

1ــ القرآن في العهد المكي تحدث عن أساس الحكم، حيث أنزلت سورة اسمها سورة الشورى.

2ــ النص القرآني حدد مكانة مبدأ الشورى بين فريضتين في هذه السورة. قال تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}، (الشورى، الآية 38).

3ـ القرآن نص على الشورى في العهد المدني: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}.

4ــ النص على مبدأ الشورى ورد في العهدين المكي والمدني دونما تفصيل، والملاحظ هو وحدة الجذر اللغوي "الشورى" و"الأمر"، {أمرهم شورى بينهم}... إلخ. في السورة المكية، و{شاورهم في الأمر}، في السورة المدنية.

 

استنتاج:

1ــ الشورى أم الأسس

 النظريات السياسية الوضعية على اختلاف صيغها جعلت أساس بناء الدولة هو الشعب، فالشعب حاضر في هذه النظريات إما بالنص أو بالتلازم.

2ــ مقاصد القرآن في التشريع المكي والمدني جعلت أساس بناء الدولة "الشورى"، والشورى -بداهة- مصدرها الأمة.

3ــ حددت مقاصد القرآن مجال مبدأ الشورى (أمر الأمة) أي مصالحها الدنيوية وهو الحكم وبقية الأمور في فلك الحكم.

فما هو أمر الأمة وما هي مصالحها؟ عرفنا في المهاد التاريخي أعلاه أن:

ــ المشكلة الكبرى هي قضية الحكم.

ــ أن الأسئلة التاريخية التي شغلت فلاسفة الاجتماع كان من بينها: ما هي الطريقة الأسلم في تحقيق العدل؟

هنا نجد أن القرآن قد حدد الغاية من الرسالات السماوية قائلا: {ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، (الحديد، جزء من الآية 25).

هذه الآية حددت بدلالتها القاطعة أن الهدف والغاية من الرسالات السماوية عبر التاريخ هي معالجة المشكلة الكبرى المتمثلة في الحكم، وأن العلاج هو:

ــ إعادة أمر الحكم المتمثل في الشرعية السياسية إلى صاحب المصلحة الحقيقية وهي الأمة، {وأمرهم شورى بينهم}.

ــ أن أفضل طريقة لإقامة العدل هي تمليك الأمة ناصية "الشرعية السياسية".

ــ يمتاز التشريع الإسلامي بالبعد القداسي لمبدأ الشورى، وهذا أعطى مبدأ الشورى مكانة وضمانة لا توازيهما أي ضمانة على الإطلاق.

 ــ أهم ثمارها الإيجابية هو انسجام المجتمع مع المبدأ كونه دين مقدس، وفي ذات الوقت تكون هذه المكانة والضمانة من أبرز عوامل ترسيخ القانون داخل المجتمع طاعة واحتراما.

ــ التنازل عن حق الحياة وحق الحرية وحق الكرامة في التشريع الإسلامي لا يجوز بأي حال، لأنه تنازل عن حق ديني.

 ــ التشريع الوضعي رغم احتفائه البالغ بالحرية والكرامة... إلخ، إلا أنه لم ينص عليها في الدساتير وإنما نص عليها في الإعلانات الأولية للثورات كمقدمات نظرية للثورة وشتان.

ــ بما أن التطبيق العملي لمبدأ الشورى في موروثنا الفكري لم يتعد أربع دورات أيام الخلافة الراشدة، فهذا جعل موروثنا الثقافي التطبيقي في هذا الجانب قليل.

ــ نظرية الحكم الوضعية امتلكت تجارب ثقافية عديدة ومختلفة وهو تراكم جدير بالانفتاح عليه.

ــ يمكننا الجمع بين قدسية مبدأ الشورى كمبدأ ديني لا يجوز مخالفته وبين التجارب الوضعية الديمقراطية في الأخذ بها كآليّة في إدارة التطبيق العملي للشورى كونها وسيلة ثبت نجاحها في شعوب مختلفة طيلة عقود.

 

خامسا: الأساس الثاني

الحرية

إذا تأملنا مفهوم النفخة الإلهيه في الإنسان سنجد أنها:

1ــ أن النفخة هي أساس التكريم.

 2ــ أن النفخة جعلت الإنسان حرا مختارا وذا إرادة.

3ــ سنجد أن أبرز مظاهر الحرية هو الاختيار .

4ــ يلتقي التشريع الوضعي مع التشريع السماوي على مفهوم مفاده: تنتهي حريتك عند المساس بحرية وحقوق الآخرين، ومن هنا جاء الأساس التالي:

 

سادسا: الأساس الثالث

العدل

هذا الأساس هو أهم الأسس في بناء الدولة.

ــ وظيفته حماية كرامة الإنسان فردا ومجتمعا، وحمايةالحريات والحقوق.

 ــ رتب التشريع السماوي عقوبات صارمة إزاء تغول الإنسان وتوحشه تجاه حريات وحقوق الآخرين سواء كان المتغول داخل السلطة أو خارجها.

 

سابعا: الأساس الرابع

المساواة

ــ هذا الأساس هو الوجه الثاني للحرية، فلا يذكر مبدأ الحرية إلا ويذكر معه مبدأ المساواة، ذلك أنه لا معنى للحرية بدون مساواة أمام القانون.

 

وقد نص القرآن على مبدأ المساواة بعبارات مكثفة، حيث جعل التمايز والتفاخر الطبقي والسلالي والعنصري صورة من صور الشرك المناقض للتوحيد.

قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.

 

بكلمة واحدة:

ــ العظمة والكبرياء لله.

ــ كل من هم تحت عرش الله هم متساوون.

ــ التنازل عن مبدأ المساواة يتنافى مع عقيدة التوحيد.

ــ كرامة المتقين المؤمنين كرامة أخروية بحتة.

 

** خلاصة الخلاصات:

الشورى هي أم القيم السياسية كونها الأساس الأول وبقية الأسس والقيم هي لوازم لهذا الأساس.

** من حق الأمة أن تبتكر الضمانات والضوابط من أفق ثقافة العصر حماية لحقوقها ومصالحها من التغول الفردي المتسلط أيا كان.

ــ تلكم هي أسس بناء الدولة الحديثة.

فما هي القيم السياسية؟ هذا هو موضوع الحلقة الثانية بمشيئة الله.