الجمعة 29-03-2024 10:48:04 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

قتل وحصار وغلاء.. المليشيا الحوثية حولت حياة المدنيين في تعز إلى جحيم

السبت 30 مارس - آذار 2019 الساعة 10 مساءً / الاصلاح نت- خاص/ زهور اليمني

 

عند حلول المساء، وهي الدقائق الأخيرة التي عادة يمكن للناس بالتواجد فيها خارج المنزل، تصبح الشوارع شبه خالية، وتغلق أكثر المحلات أبوابها، ويعود الجميع أدراجهم، لتغرق مدينة تعز في ظلام دامس، وقلق من عدم الاستقرار وعدم الأمان.

لم يعد هناك شيء في تعز يمت لعصر الدولة بصلة، الإنسان كان المستهدف الأول من الدمار، حيث اختفت من المدينة المؤسسات الخدمية وتدمرت قدراتها، فالمياه متوقفة، والكهرباء منعدمة، والصرف الصحي يعاني الكثير.

لا تجد شجرا أو حجرا، ناهيك عن البشر، إلا ومسه شيء من الدمار، وأعتقد أنه لم يسجل التاريخ الحديث دمارا كدمار هذه المدينة.

أم يوسف تتحدث عن جزء من معاناة سكان هذه المحافظة، وهو انعدام الماء الصحي الصالح للشرب، حيث تقول: "الماء يباع في السوق السوداء لندرته وانعدامه في كثير من الأحياء، لقد وصل سعر الوايت الماء إلى 12 ألف ريال".

وتضيف: "هناك من أهل الخير من عمل خزانات للمياه في بعض الشوارع، إلا أننا نجد صعوبة في الحصول على ما يكفي للشرب، نتيجة تزاحم الناس عليها وأيضا لعدم القدرة على الخروج في كل وقت، بسبب القصف الحوثي على الأحياء السكنية الذي يهدد حياة السكان ويعيق تحركاتهم بين الأحياء، والذي سبق أن أدى إلى قتل الكثير من الأشخاص أمام خزانات المياه".
إن أقوى سلاح وأخطر سلاح استخدمته المليشيات هو الحصار، هذا الحصار جريمة فهو ينفذ عبر قوة منفلتة، لا تتقيد بأخلاق الحرب، ولا تعبأ إن كانت تقتل بهذا الحصار الأطفال والنساء لكي تنتصر في معركة فرضتها على اليمنيين، وعلى سكان تعز بالذات، وإخضاع أكبر محافظات اليمن من حيث عدد السكان لسلطة "أمر واقع" لا يعترف بها سواهم.

 

مات أبي بين يدي

"أصيب أبي الكبير في السن بسرطان في عموده الفقري، وكان لا بد من سفره إلى الخارج للعلاج، أو إجراء عملية جراحية لاستئصال الورم، لكننا للأسف تأخرنا بسبب عوائق السفر وطول الطريق ووعورتها التي فرضت علينا، وتوفي أبي عند وصوله عدن، قبل أن نتمكن من إنقاذه".

بهذه العبارات الحزينة تحكي سميرة قصتها مع مرض والدها، وتنهي حديثها بقولها: "مات أبي أمام عينيّ ولم أستطع فعل أي شيء له.. رحم الله أبي وحسبنا الله ونعم الوكيل".

لم تكن قصة سميرة قصة المعاناة والألم الوحيدة في هذه المدينة الواقعة تحت وطأة الحرب والحصار، وخصوصاً المرضى الذين يسحقهم المرض ببطء حتى الوفاة، فهناك قصص كثيرة مؤلمة كقصة فهد الذي فقد ابنه بسبب إصابته بالإسهال.

يقول فهد: "نعم، هكذا وبكل سهولة يموت ابني بين يديّ لعدم قدرتي على نقله للمستشفى، حيث خرجت ليلا من البيت أحمله أريد إسعافه، انتظرت كثيرا ولم أجد سيارة تمر في الطريق، ففي تلك الليلة كانت القذائف تتساقط على الأحياء السكنية من كل صوب".

ويضيف: "انتظرت ما يقارب الساعتين، وبعد أن اشتد بي التعب رجعت إلى بيتي أحمل ابني بين ذراعي والذي كان قد شارف على الهلاك".

وتابع: "انتظرت الصباح ليأتي، لكن الموت المتربص بابني كان أسرع من بزوغ الفجر".

  

أتمنى يمشوا من بلادنا

الأطفال فى تعز خاصة، واليمن عامة، كان لهم النصيب الأكبر من بطش الحوثيين، ولهم في تعز نصيب من قصص الموت، إنهم يعيشون ويلعبون ويسيرون يوميا إلى مدارسهم تحت نيران القصف.

أماني في الصف الرابع تذهب كل يوم كغيرها من الأطفال للمدرسة لكنها تقول: "أشعر بالخوف كلما ذهبت إلى المدرسة، فالحوثة يرمون القذائف في كل مكان وفي أي ساعة، وعندما نسمع صوت القذيفة نجري نبحث عن مكان نختبئ فيه".

تسكت لوقت قصير وكأن براءتها تصارع مشاهد الذكريات، ثم تواصل حديثها: "في مرة رموا قذيفة جنب مدرستنا، وقطعت رجل صديقتي أمل، ويد ورجل صديقتي ماريا".

تنظر إليّ وهي تقول: "أنا عارفة أنهم ما يحبوا الأطفال الصغار، علشان كذا أتمنى يمشوا من بلادنا ونعيش بدون حرب".

صديقتها التي تجلس بجوارها التفتت إليّ وقالت: "تعرفي مرة كنت ألعب مع صاحباتي فى الحارة، والقذيفة جت وموتتهم كلهم، وأنا رحت المستشفى، وبعدها بطلت ألعب خارج البيت".

  

كل شيء انتهى في لحظة

في ظل استمرار الحرب، يجد المواطن في تعز نفسه وحيداً أمام أزمات عدة لا يقدر على مجابهتها، وتتضاعف تلك الأزمات مع مرور كل يوم في المدينة المنسية من استكمال التحرير، وصعوبة العيش، وتكاليف الحياة الباهظة، والتي أرهقت كواهل السكان المتعبة وأرواحهم الممزقة.

عاد أبو أحمد من الغربة قبل اندلاع الحرب بأشهر، كان لديه حلم سيحققه بذاك المبلغ الذي جمعه طوال سنوات عمره التي قضاها في الغربة، لكن حلمه تحطم على صخور الواقع المرير.

يقول أبو أحمد: "عدت من الغربة وكان معي مبلغ لا بأس به، أردت استثماره في فتح محل، وبعد شراء البضاعة اندلعت الحرب، فقمت بتخزينها في بيتي، لم تمر سوى شهور قليلة حتى أتت قذيفة على منزلي فأحرقته بكل ما فيه، وتبعتها قذيفة أخرى أحرقت سيارتي وقتلت أحد أبنائي، وبترت أقدام ابني الآخر وأقدامي أيضا".

ويضيف: "كل شيء ذهب في لحظة، لم يتبق سوى زوجتي وابني المبتور القدم وأنا العاجز عن توفير لقمة العيش لأسرتي".

  

لم يترك الحوثيون بيتا في الجحملية إلا ودمروه

الوضع متفاوت، ليس بمقدور الناس هنا أن يلامسوا الاستقرار بكل جوانبه، الكل يدركون حقيقة ما يجري، وقد طوّعوا أنفسهم للتكيف مع الوضع ومستجداته مهما كانت التكلفة.

"حياة" أستاذة في إحدى المدارس القريبة من منزلها الذي تملكه والكائن في الجحملية، وعند دخول الحوثيين إلى تعز تغير حالها، تحدثني عن معاناتها هي والكثير من سكان الجحملية حيث تقول: "عند بداية الحرب والقصف على الجحملية نزحنا إلى المدينة، وسكنا في بيت صغير جدا بالإيجار، عشنا ما يقارب السنتين نمشّي حالنا بالراتب الذي كان لا زال مستمرا، لكن الوضع اختلف عند انقطاع الرواتب، أصبحت الحياة أكثر صعوبة علينا وعلى غيرنا، وبدأ الحصار يشتد على مدينة تعز من معبر الدحي، الذي كان يشبه معبر رفح".

وتضيف: "عشنا بدون ماء وبدون غذاء، كان أكلنا يوميا عصيد فقط لا غير.. أولادي حالتهم الصحية بدأت بالتدهور ونحن صابرين، ليس بيدنا شيء لنغيره، وعندما فتح معبر الدحي استبشرنا خيرا، وبدأنا نستعيد حياتنا من جديد بدخول المواد الغذائية، لكننا انصدمنا بتجار لا قلوب لديهم ترحم، ارتفعت كلفة السلع الغذائية الأساسية بشكل جنوني، وأيضا أصحاب البيوت رفعوا الإيجارات ومع ذلك استطعنا والحمد لله أن نكيف أنفسنا على أن نعيش بكل الأوضاع وفي كل الأحوال".

وتابعت حديثها قائلة: "لا زلت نازحة داخل المدينة، فالحوثيون لم يتركوا بيتا في الجحملية إلا ودمروه وعبثوا به".

وتضيف: "قمت بزيارة لبيتي بعد أن تحررت الجحملية من الحوثيين، بكيت من هول ما رأيت، دمرت الكثير من البيوت، وبيتي إحداها".

وقالت: "صدقيني لم يعد لديّ هدف غير أن هذه الحرب التي أتت على الأخضر واليابس تنتهي، أتمنى العودة إلى بيتي إلى مدرستي ونحن رافعات رؤوسنا، فنحن شقائق الرجال، هم في الجبهات ونحن معهم بالأقلام وبالعلم والمعرفة من أجل أن تعود الحالمة كما كانت".

لم تعانِ محافظة يمنية كما عانت تعز على كافة المستويات، استهدفتها الميليشيات الحوثية بكافة الأسلحة على مدى أربع سنوات من الحرب ولا تزال، فرضت عليها حصاراً من كافة الجهات، عُدَّ الأسوأ في تاريخ البلاد، ومن أكثر حصارات العالم سوءاً وكارثية.

تعيش تعز أوضاعاً قاسية، وبالأخص فيما يتعلق بحياة الناس، وما يضمن لهم ديمومة استمراريتهم في الحياة، في ظل الوضع المعيشي الصعب، والمعاناة بسبب الحرب التي لا تنتهي.

تطالعنا تعز بقصة أخرى مختلفة، إنه عادل الذي كان قبل اندلاع الحرب يذهب مع سيارات بائعي القات إلى ماوية ليقطف لهم القات، وبالمقابل يجمع بقايا القات أو ما يسمى العلف ليبيعه لأي مقوت بمبلغ بسيط جدا يعيل به أسرته المكونة من خمسة أبناء لم يكن يكفيهم، لكنه كان يشبع جوعهم.

أحد أبنائه البالغ من العمر عشر سنوات كان يعمل في محل للشبس، والآخر الذي يصغره بسنة يعمل في فرن للخبز، وبالمبلغ الذي يحصلون عليه مقابل عملهم ينفقون على دراستهم.

اندلعت الحرب وأغلقت الطريق التي كانت تودي إلى ماوية، والتي كانت تستغرق أقل من ساعة، وأصبحت الطريق الجديدة تستغرق ما يقارب الثلاث ساعات للوصول إلى ماوية.

ترك الأب العمل لعدم قدرته الجسدية على السفر الطويل كل يوم، وغادر أحد أبنائه البالغ من العمر عشر سنوات المدينة ليستقر به الحال في الحوبان.

كان ينام في الشارع ويتنقل للعمل من بسطة البطاط إلى بسطة الملابس المستخدمة، وهكذا استمر على هذه الحال ما يقارب سنة، وبعدها يأتي خبر لوالده أن ابنه وجدوا جثته في أحد الأزقة.

تزداد مأساة هذه الأسرة بقيام صاحب البيت بطردها من البيت، بعد أن عجزت عن تسديد الإيجارات المتراكمة منذ سنة، فيسمح أحد رجال الحارة لهذه الأسرة بالعيش في "جراش" للسيارات، وقام بشراء "عربية" للأب يحمل عليها ما يحتاج إلى حمله الآخرون مقابل مبلغ زهيد.

استمر يعمل على هذه "العربية" لأشهر معدودة، وفي لحظة تسقط قذيف على "العربية" التي كان يجرها عادل والمحملة بإسطوانة الغاز لتنهي بذلك حياته، وتنهي معها حياة الذل والفقر والعوز التي كان يحياها.

خلال زيارتي لتعز استوقفتني ظاهرة بدت لي بأنها أصبحت منتشرة بصورة ملفتة للنظر، فالحرب خلفت الكثير من الأرامل الصغيرات اللاتي لم تتجاوز أعمارهن الـ18 والـ20 عاما، هذه الظاهرة نتج عنها قصص مأساوية لا تعد ولا تحصى.

"أمل" أرملة لا يتجاوز عمرها 20 عاما، جميلة رغم الضياع الذي يبدو في نظراتها، استشهد زوجها في إحدى المعارك تاركا خلفه ثلاث بنات وزوجة لا تملك أي مؤهلات تمكنها من العمل والإنفاق عليهن.

تنحدر "أمل" من أسرة فقيرة ضاق بها الحال، فانتقلت مضطرة مع بناتها إلى بيت أهل زوجها الذين لم يكونوا أحسن حالا من أهلها، لتبدأ معاناتها الأشد.

حرمت من راتب زوجها الذي كان مقررا لها كزوجة شهيد، وأصبح من الواجب عليها التنازل به لأهل زوجها لكي تستطيع العيش معهم، ثم توفيت إحدى بناتها بسبب سوء التغذية، والأخرى مصابة بكساح لنفس السبب.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل أصبحت أمل موضع شك، فمنعت من مغادرة المنزل بأي حال من الأحوال لمدة سنة كاملة، تدهورت خلالها حالتها النفسية، وأصيبت بالوسواس القهري الذي كان سيودي بها إلى قتل نفسها، لذا هي تتلقى الآن الدعم النفسي بعد أن تكفلت إحدى الجمعيات بعلاجها.

كلمات دالّة

#تعز #اليمن