الجمعة 29-03-2024 01:08:07 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

مجلة الحكمة اليمانية.. سطور من تاريخ الحركة الوطنية

الأربعاء 10 مايو 2017 الساعة 09 مساءً / التجمع اليمني للاصلاح - خاص

ثابت الأحمدي 

(2-2) 

تكلمنا في الحلقة السابقة عن ظروف نشأة مجلة الحكمة ودوافعها والروافد الثقافية للقائمين عليها، وكيف شكلت منصة انطلاق ومحطة عبور للمناضلين الأوائل من الرعيل الأول نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات.

ونتكلم هنا عن الحس الوطني والأدب الثوري في المجلة التي شكلت فنارا ثقافيا ومعرفيا للمناضلين الذين تشكلوا من بين معاطفها، ومضوا في مسارب متعددة بعد ذلك..


الحس الوطني والأدب الثوري في مجلة الحكمة
كان محي الدين العنسي أحد محرري المجلة وكُتابها، والعنسي أحد العائدين من بعثة العراق الذين تشربوا قدرا معرفيا معقولا من الثقافة الجديدة، خاصة وقد جمع بين الروح العسكرية والثقافة الحقوقية من خلال دراسته للحقوق هناك إلى جانب الدراسة العسكرية، ناهيك عن سعة اطلاعه وثقافته التي عمقت من فكره وثقافته، فكتب عن الأدب والشعر، متسائلا: لماذا لا يكون لنا أدب كأدب مصر والعراق؟ ولما ذا ليس لنا أدباء كبار كما هو الحال في العراق والشام ومصر؟


وهو ذات الاتجاه والمنحى الذي نحاه المطاع وهو يستثير الحس الوطني في إحدى مقالاته، قائلا: "ومن التواريخ التي أصبحت اليوم تُدرس في جامعات الغرب كفنٍ مستقل تاريخ اليمن القديم وما به من النقوش والآثار والعاديات، وما خلفه آباء اليمنيين من آداب وثقافة صقلت العقل الإنساني وازدانت بها حضارة البشر في أيامهم".


إن هذه الإشارة من قبل المطاع في مقالته هي استثارة للحس الوطني الكامن لدى كل مواطن تقريبا، وذلك باستنهاض الهمم ومعرفة عظمة التاريخ اليمني المرتكز على تراث حضاري عريق، تعمدت الإمامة تغييبه، وإن لم يشر إلى ذلك الموقف الإمامي من التراث الحضاري، وهذه الصيحة مما لا ترضى به التوجهات الإمامية بكل تأكيد، لأنها ترتكز في دعواها على تعظيم من يسمونهم "آل البيت" وحدهم دون سواهم، لا إلى اليمنيين وتاريخهم العريق..! وهي المفردة التي لا زلنا بحاجة إليها إلى اليوم لإنعاش الذاكرة الحضارية والتخلص من ركامات الثقافة الإمامية المزورة التي رانت على عقول الكثير بحكم محدودية ثقافتهم وتعلمهم، علما أن أحمد عبدالوهاب الوريث قد كتب مقالا في العدد الأول بعنوان "الوطن وواجبات المرء نحوه" وإن كان لم يذيله باسمه، أشار فيه إلى قداسة الأوطان وأهميتها، وإلى الحقوق والواجبات التي للجميع وعليهم، مستشهدا بما كتبه الأدباء والكتاب قبل ذلك، وبما نظمه الشعراء أيضا في الوطن والوطنية، ومنها أبيات لابن الرومي، وكذا أحمد شوقي من المعاصرين. كما كتب أيضا أحمد حسين المروني في ذات الاتجاه بعد عودته من العراق. مقالة بعنوان:"صفحة من تاريخنا المجيد".


وكما كان المطاع شجاعا في طرح أفكاره الإصلاحية المتقدمة بمقاييس تلك الفترة، فقد كان العلامة محمد بن حسن العماد الذاري أكثر جرأة في دعوته إلى الإصلاح الإداري الحديث القائم على أسس علمية صحيحة، مستشهدا باليابان وكيف تقدمت كثيرا بسبب اهتمامها بالعلم، وكما ذكر البردوني فإن هذه المقالة قد أغضبت الإمام يحيى الذي قال لبعض من حضر مجلسه بعد أن قرأ المقالة: "القاضي محمد يشتينا نتشبه بالنصارى".!!


وعلى ذات المنوال نظم القاضي محمد بن أحمد السياغي قصيدة تدعو للعلم والتعلم، نشرت في المجلة، يقول فيها:
من المدارس نور العلم ينفجر وبالمعارف يغني البدو والحضر
الله أكبر كم بالعلم قد نهضت من نومها أمم قد خانها الخور
هي المدارس تهدي الناشئين بها لثروة العقل ثم النور ينتشر
بني اليمانيين هلموا من مراقدكم إلى المدارس قد جاءتكم النذر


ودعم مقالة الذاري وقصيدة السياغي مقالة أخرى لأحمد البراق عن المعلم ودوره التجديدي كواجب ديني ووطني. وفي ذات الاتجاه أيضا كتب أحمد حسن الحورش ثماني حلقات بعنوان "علم التربية والتعليم" في دعوة صريحة لاستنهاض الهمم في هذا العلم والتعلم، والخروج من عباءة الجهل والتخلف.

الوطن والشعر
كان الشاعر إبراهيم الحضراني واحدا من هؤلاء الرواد الأوائل الذين وضعوا بذور النداء الوطني الأول بين قصائده، على الرغم من انتمائه العائلي، وعلى الرغم من مكانة أبيه لدى الإمام، إلا أنه اتخذ منحى وطنيا مخالفا لنهج أبيه، فعارض الإمام والإمامة من وقت مبكر، وكان من أصرح الناس في المواجهة، فقال في إحدى قصائده المنشورة في مجلة الحكمة، ومنها:


فاز من شب على ما ينفع الشعب وشابا
أيها القائم بالأمر الذي يرضي الكتاب
دم لليل الجهل في الأمة بدرا لن يغابا
لا تظن السعي والإخلاص لا يفتح بابا
سوف تجني من ثمار الجد ما لذا وطابا
إنما الماجد من لم يأل للمجد طلابا
قل ولا تخش فما فاز امرؤ دارى وحابا


كما نشرت المجلة ايضا قصائد شعرية أخرى لشعراء عرب تغنوا بتاريخ اليمن وحضارته وجماله.
وهكذا مضت المجلة في كافة أبوابها ومقالاتها تعزز من الروح الوطنية وتستجيش الهم الوطني لدى الجميع، وبها تشكلت النواة الأولى من المدرسة النضالية الخالدة تجاه الإمام والإمامة في القرن العشرين بمسؤولية حميمية وكفاءة عالية، فكانت الثقب في جدار المسيرة النضالية الذي شق الضوء وسار وإلى اليوم لا يزال يواصل مسيرته على ذات النهج.

 

الوحدة اليمنية في مجلة الحكمة
إن من إحدى مفردات الوطنية والحس الوطني الذي كان الهدف الرئيس للمجلة هو العمل على تحقيق واستعادة الوحدة اليمنية بين شطري الوطن الواحد، فكتبت في ذلك مقالا مطولا دون أن يذيل باسم كاتب، لكن ذلك ـ على الأرجح ـ لن يعدو أن يكون بقلم رئيس التحرير كما هو معروف في العمل الصحفي غالبا، وقد أشارت المجلة إلى أهمية الوحدة بين شطري اليمن، وعرَّضت بسياسة بريطانيا في اليمن التي لا وفاء لها ولا عهد، ليس مع اليمن فحسب؛ بل مع العرب بشكل عام، واستشهدت المقالة بالاتفاقات التي تم الإخلال بها من قبل البريطانيين مع الشريف حسين ومع الفلسطينيين، وتأتي هذه الإشارات عقب المعاهدة التي وقعها الإمام يحيى مع الإنجليز عام 1934م، ولاقت استياء كبيرا من بعض النخب السياسية، لأن توقيع الإمام على اتفاقية حدود مع بريطانيا بين شطري البلاد يعتبر من قبيل الاعتراف بالاحتلال البريطاني للشطر الجنوبي من الوطن، وأنها عززت الاتفاقية البريطانية العثمانية التي وقعها الطرفان عام 1914م.


وما تجدر الإشارة إليه هنا أن بريطانيا ـ وفي إطار سياستها المعروفة: فرق تسد ـ قد سعت لضم شبوة إلى حضرموت، متعدية اتفاقية المعاهدة بينها وبينها العثمانيين، وثار جدل واسع حينها، هل شبوة من حضرموت أم من اليمن؟ والمقصود باليمن هنا الشطر الشمالي من الوطن؛ فرد أحمد عبدالوهاب الوريث ردا حازما في إحدى مقالاته: "إن من الحق البين والسفة الواضح أن يسأل كاتب غيره أو يتساءل: أشبوة من اليمن؟ أم من حضرموت؟ وأن يظن أن اليمن شيء وحضرموت شيء آخر.! فالله جعل لليمن حدودا طبيعية، لا يدخلها لبس ولا يعتريها غموض؛ إذ أحاطه بالبحر من غربه وجنوبه وشرقه، وكل ما شملته هذه الحدود إلى أطراف الحجاز الجنوبية فهو اليمن، فهل رأى حضرموت جزيرة منقطعة في أوساط بحر الهند حتى يسوغ له أن يقول: شبوة من حضرموت لا من اليمن؟ أو من اليمن وليس من حضرموت؟!


وهكذا ناقشت المجلة العديد من القضايا الوطنية، سواء ما لقي من بعضها رضا إماميا أم ما استاء منه الإمام، فعلى أي حال كانت النافذة الأولى ومحطة الانطلاق لمسيرة النضال، كما أسلفنا.