الجمعة 29-03-2024 04:28:36 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

ثقافة الإقلاع الحضاري.. وعي قيم التمكين - 2 (الحلقة الأخيرة)

الخميس 10 يناير-كانون الثاني 2019 الساعة 08 صباحاً / الإصلاح نت- خاص / أ. عبد العزيز العسالي

 

بناء الاتجاهات

تحدثنا في الحلقة السابقة حول "إتقان الثقافة العلمية"، ولأن ميدان الثقافة العلمية واسع، فقد تحدثنا عن أهم معالم الثقافة العلمية من زاوية المعالجة الثقافية والعملية حيال قضايا واقعنا المعيش، وفي هذه الحلقة سنسلط الضوء حول بناء الاتجاهات.

- ما المقصود بالاتجاهات؟
- ما الهدف من بنائها؟
- من أين نستمدها؟
- ما علاقتها بقيم التمكين؟

أولا: المقصود بالاتجاهات هو "توجيه بوصلة المجتمع بوسائل مختلفة في اتجاه ثقافي وعملي أو هما معا".

ثانيا: الهدف من بناء الاتجاهات هو تنمية الفاعلية لدى الفرد والمجتمع في أحد جوانب الحياة، كالتعليم أو الإنتاج أو وحدة الصف أو الهدف... إلخ، أو في جوانب الحياة كلها.

ثالثا، يستمد المجتمع فكرة الاتجاهات من:
أ- معتقده وثقافته أولا.
ب- يتم دراسة واقع المجتمع من كافة الجوانب فكريا وتربويا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ويتم تحديد بناء الاتجاهات انطلاقا من شبكة الأولويات، وفق خطة زمنية تتضمن رسم الأهداف المرحلية والإستراتيجية.
ج- بما أن المجتمع انطلق من أصول ثقافته، فليس هنالك مانع أن يستلهم أو يقتبس من الغير بعقلية واعية لحدود الاقتباس ومجالاته، ثم بلورة النماذج المقتبسة وتكييفها بما يتناسب والأفق الثقافي للمجتمع.

رابعا: بناء الاتجاهات يعتبر برنامجاً آنيا، ذلك أنه من المعلوم أن التعليم النظامي يأخذ فترة ربع قرن من الزمن، وهذا النوع من التعليم على أهميته، تأتي ثمارُهُ بطيئة.

وحرصا على الوصول إلى ثمار أولية تنمي فاعلية نجاحات المجتمع، لجأت الدول إلى وضع برنامجين هما: تعليم الكبار، والتدريب.

فهذان البرنامجان آنيَّان، وثمارهما أسرع وأنفع على المدى القريب والمتوسط، لا سيما برنامج التدريب.

خامساً: المبادئ التي تتضمنها الاتجاهات قسمان: ثوابت، ومتغيرات.

الثوابت هي المعتقدات، وهوية الأمة وثقافتها، وما يتصل بها من القيم والأخلاق الاجتماعية، كون العقيدة هي المصدر الرئيسي في بناء العلاقات الاجتماعية والثقافية والحضارية.

والمتغيرات هي الوسائل الخادمة للأهداف والغايات مثل طرق التعليم ووسائله المختلفة.

سادسا: مفهوم الاتجاهات

1- المفهوم الذهني، وهو شبكة من الشروط والمبادئ والوسائل الثقافية والمادية المتداخلة، فكريا وثقافيا، كما أنها برامج عملية.

2- المفهوم العملي، وهو تعليم الكبار، وبرامج التعليم في العالم تتعدد مناشطها لتستوعب كل شرائح المجتمع، فلم تقتصر على التعليم المتدرج (أساسي، ثانوي، جامعي) فقط، وإن كان هذا هو الخط العام، لكن هنالك مناشط أخرى تتناسب مع شرائح المجتمع التي تلاقي صعوبة في ممارسة التعلم ضمن الخط العام، ومن هنا جاء البرنامج الأول المتمثل في "تعليم الكبار".

لا شك أن الصلة قد اتضحت للقارئ بين المفهومين: مفهوم بناء الاتجاهات، ومفهوم تعليم الكبار، وعليه، فإننا سنستعرض بصورة سريعة عددا من القيم أو المبادئ أو الشروط أو السنن التي بلورتها التربية النبوية، مكوِّنةً من وحيها اتجاهاتٍ عقدية وعملية انطلق منها المجتمع الإسلامي الجديد في المدينة المنورة.

هذه المبادئ أو الشروط التي تحولت إلى اتجاهات تمثلت فيما يلي:

1- التوحيد في مواجهة الشرك.
2- الحرية في مواجهة الطاغوت والاستبداد والاستعباد.
3- العدل في مواجهة الظلم.
4- العلم والمعرفة في مواجهة الأمية والظن والهوى والجهل والخرافة.
5- الدولة في مواجهة القبيلة.
6- الأمة في مواجهة العشيرة.
7- التشريع في مواجهة الآبائية والأعراف المعوجّة.
8- الشورى في مواجهة الفردية والإقصاء.
9- الإصلاح والإعمار والسلم والسلام والنظام في مواجهة التخريب والفوضى والإفساد.
10- الأخوة الإنسانية في مواجهة العنصرية والتسيد الإبليسي.
11- المبدئية في مواجهة الشخصانية.
12- الجمال في مواجهة القبح.
13- تكوين الإنسان الملتزم بالقيم الإنسانية والمتجذرة في عمق العقيدة السمحة والمنبثقة عنها في مواجهة الشخص الجاهلي المتفلت المتعشق للفوضى والتسيب وكراهية النظام.

هذه الاتجاهات كما قلنا هي في الأصل قيم ومبادئ، وهي سنن الله في النفس والاجتماع، وهي في ذات الوقت شبكة شروط متظافرة تمثل نسيجا ثقافيا قامت عليه الحضارة الإسلامية فاستفاد منها العالم المتصل بجغرافية المسلمين، وهي أيضا أوامر الله وتشريعه.

هذه المبادئ الصانعة للاتجاهات يجب تفعيلها في كل ميادين التربية داخل المجتمع، وكل وسائل الإعلام والاتصال الحديثة. ولكي تكون النتائج إيجابية أكثر، يجب أن تكون لغة الخطاب متسقة مع مفردات ثقافة الواقع المعيش، وأعني بذلك لغة العصر.

وحتى تستمر الفاعلية وتظل متجددة، يجب أن تستند هذه المبادئ إلى نصوص القرآن ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

الثمار:

أعظم الثمار التي ستتحقق:
1ــ فض الاشتباك وإطفاء المعركة المفتعلة بين العقل والنقل.
2- رفض الجبرية والاتكالية.
3- استنهاض العقل السنني.
4- خلق جو مجتمعي مشحون بثقافة السنن المنبثقة من معارف الوحي.
5- إعادة ثقة المسلم بدينه وكتابه وثقافته.
6- قلة التكلفة المادية.
7- تجديد الثقافة وحضورها مجتمعيا بقدر حضور الدين في الأسرة والمجتمع.
8- تجاوز تكديس المعلومات إلى امتلاكها وتوجيهها وتفعيلها، وهذه هي عقلية المثقف الحقيقي.
9- تجفيف منابع الصراع بين المثقفين (الصراع الإسلامي الإسلامي من جهة، والإسلامي العلماني واليساري من جهة ثانية)، والانطلاق نحو العمل والإنتاج، كون هذا الصراع هوى بالأمة إلى وهاد الانحطاط المدمِّر.
10- إعادة الاعتبار للعقل وتجذير الحرية عقيدة وعملا، لأن الحرية هي المسؤول الأول عن نمو الشخصية المتوازنة المتسقة وجدانا وتفكيرا وواقعا.
11ــ ربط الأحداث بأسبابها الحقيقية والمتعددة، وهذا سيتولد عنه الثمرة التالية.
12- تكوين الحاسّة النقدية وحضور مثاقفة التساؤل، هذه الحاسة والمثاقفة هي أهم وأبرز عوامل تصحيح الأخطاء كما هي الطريق الأوحد الموصل إلى رفض ثقافة التبرير.
13- الشعور بالمسؤولية وحضور ثقافة المبادرة الذاتية، كون هذا وليد طبيعي للحرية.
14- الوصول إلى زعزعة دعاوى المقدس حيث لاقدسية، والترحيب بالجديد النافع والحفاظ على القديم الصالح، وهنا سنكون قد انتشلنا العقل من غيبوبته الثقافية والحضارية.
15- الترحيب بالتغيير، بل وستتضاءل مقاومة التغيير.
16- التضحية في سبيل التغيير، فالفرد والمجتمع سيدافعان عن قناعتهما بصورة طبيعية.
17- رفض الإرهاب الفكري والعنف.
18- ترسيخ ثقافة السلم والسلام والأمن والإصلاح والإعمار.
19- التخلص من عقدة الشعور بالدونية على المستوى المجتمعي أمام الثقافة الوافدة أيا كانت صناعية أم فكرية.
20- كل ما سبق سيثمر فاعلية وتفانيا دونما ملل، ذلك أن الفرد والمجتمع يعتقدون أن هذه السنن هي أوامر الله وقضاؤه كتشريعه دونما تفريق أو تلكؤ. تلك هي أبرز ثمار بناء الاتجاهات.

جيل التمكين:

استعرضنا أهم وأبرز قيم التمكين فيما سبق، واتضح أن برنامج بناء الاتجاهات متصل بتعليم الكبار بدرجة رئيسية، وقلنا إن برامج التدريب هي من الوسائل الناجحة عالميا في تحريك الفاعلية، وقد حقق العالم قفزات إنتاجية عالية بفضل برامج التدريب.

غير أن جيل التمكين هو الأساس المكين والبناء المتين، وهو صانع إرادة النهوض في دول كانت في الحضيض.

السؤال: ما المقصود بـ"جيل التمكين"؟ ما هي مؤهلاته؟ وما هي غايته؟

الجواب: تحدثنا مرارا وتحدث المئات قبلنا طيلة 100 عام أن أزمتنا أساسها "أزمة فكر"، وفي مقامنا هذا نؤكد على ذات القول، مع اعترافنا بأن الحراك الفكري العربي الإسلامي لم يتوقف وقد وصل إلى تراكم ملحوظ، غير أن هذا التراكم لم يتحول إلى إجراء عملي، فما هو السبب؟

يتفق الباحثون أن هناك حلقة مفقودة تتمثل في أزمة الإرادة، وهي لها علاقة وطيدة بالوجدان، وهذا محل اتفاق بين الباحثين في علم النفس عموما وعلم النفس الاجتماعي خصوصا، وهذا يعني أن الوجدان العربي المسلم غاب عنه شيء هام في تكوين الشخصية، ويعود هذا الغياب إلى فترة الطفولة (سن رياض الأطفال).

صانع المعجزات الحضارية:

إذا أردنا بناء الإرادة، وأردنا الوصول إلى جيل التمكين، فإنه بات من الضرورة بمكان بناء الاتجاهين التاليين:

الاتجاه الأول: العناية بالطفولة، وهذا يعني أن الأسرة تتحمل الدور الأكبر في تنشئة الطفل كما سنشير لاحقا.

الاتجاه الثاني: الدفع بالطفل إلى رياض الأطفال، ويشير المتخصصون في هذا الصدد إلى أنه لا يمكن الوصول إلى تحقيق الإرادة الجماعية ما لم ينخرط الطفل في الروضة مبكرا، فهنا مصنع تكوين الإرادة، وبالتالي فكل المؤثرات التالية لهذه المرحلة تعتبر خادمة ومعززة لفترة رياض الطفولة.

القرآن والطفولة:

أولا: إذا تأملنا في مطلع سورة القصص طاغوتية الفرعون واستبداده وطائفيته وتمزيق النسيح المجتمعي، ووعد الله للمظلومين بالتمكين {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا...} إلخ الآية، فما هي الطريق التي رسمها القرآن وصولا إلى جيل التمكين؟

تعالوا بنا نتأمل: {وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه...}، ثم ماذا؟ تابعوا النص القادم من العليم الحكيم: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}. بكلمة: ربوا الجيل في جو من الحرية والشجاعة والإباء وهذا هو بناء الإرادة. فالبيئة المحيطة ببيت أم موسى لم ولن تساعد على نمو الشخصية المتوازنة، كونها تعيش تحت نير الطاغوتية المفسدة والفاسدة، بخلاف بيئة القصر فهي بيئة أخرى فيها جو من الحرية مما يساعد على نمو التوازن وتكوين الإرادة.

ثانيا: اللعب ودوره في تنمية الوجدان وتكوين الإرادة {أرسله معنا غدا يرتع ويلعب...}. باختصار، يقول النص: الطفل في مرحلة سن ما قبل الدراسة ليس له أي برنامج غير اللعب.

إن في هذين النصين بلاغا لمن أراد أن يتذكر ويضطلع بمسؤوليته الأسرية تجاه جيل التمكين.

الثمار:

1- التربية الجمالية، تخنقني العبرة ها هنا وأنا ألاحظ ما تعانيه مجتمعاتنا في هذا المجال الحيوي والهام، لنأخذ مثالا هو عشق السلم والسلام وما يترتب عليه من آثار، وذلك من نص القرآن: {ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان...}.

السلم: جمال، بناء، إصلاح، قيم، إعمار، إنسانية، كرامة، حريات، حقوق، نظام، تراحم إخاء، حب، تعاون... إلخ.

خطوات الشيطان: خراب، إفساد، تشتت، تفلت، أنانية، ظلم... إلخ.

2- بناء الإرادة، هذه الحلقة المفقودة وتلك سنة إيجادها بنص القرآن.
3- صناعة المعجزات الحضارية.

الخلاصة:

- بناء الاتجاهات لا شك ولا ريب أنه يحقق الكثير والكثير، لكن صناعة الحضارة لا يقوم بها إلا جيل التمكين.

- إجماع المفكرين ثابت أن أزمتنا فكرية في الجانب الذهني الوجداني، وأن هذا الجانب قد حقق تراكما ملحوظا لكن لا أثر له.

- إجماع المفكرين ثابت أن الحلقة المفقودة في البيئة العربية والإسلامية هي أزمة الإرادة.

- إجماع المفكرين ثابت بأن سنة الله في بناء الإرادة تبدأ ضرورة من رياض الأطفال، وبدون رياض الأطفال يظل الوجدان يعاني خللا والواقع العربي خير شاهد.

- القرآن قرر أن إنقاذ المجتمعات وانتشالها من هوتها يبدأ من اللعب (الروضة).

- الأسرة عليها مسؤولية كبرى في تكوين جيل التمكين، ثم الروضة، ثم المدرسة، ثم الجامع، ثم الإعلام، ثم المجتمع، ثم منظمات المجتمع.

كلمات دالّة

#التمكين #الثمار