الجمعة 29-03-2024 16:22:59 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

ثقافة الإقلاع الحضاري .. تكوين العقلية السننية (الحلقة الأولى)

الأحد 09 ديسمبر-كانون الأول 2018 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي

 

  المقدمة:
الكتابة حول تكوين العقلية السننية تلاقي معوقات كثيرة، ونظرا لتراكم المعوقات عبرالقرون، فقد كان المولود الطبيعي "ثقافة إسلامية" مشوهة، هذا التشوه -على خطورته- لو أنه اقتصر على جانب الممارسة السلوكية في التعامل مع الحياة لهان الأمر، ذلك أن المجتمعات تصاب بهكذا انتكاسات ثقافية ثم تنهض من كبوتها وإن طالت فترة الكبوة (أوروبا والقرون الوسطى نموذجا)، حيث استمرت الانتكاسة الأوروبية ما يزيد على ألف عام حسب مؤرخيهم، ومع ذلك نهضت أوروبا وها هي تتحكم بقيادة المجتمعات اقتصاديا وسياسيا... إلخ.

 

أولا: إشكاليتنا الثقافية

الانتكاسة الثقافية الإسلامية التي يعيشهاالمجتمع الإسلامي ليست انتكاسة فقط، وإنما هي إشكالية، ومعنى إشكالية أنها ذات أبعاد عقدية وتربوية وتشريعية واجتماعية في آن.

فإذا حاول المصلحون -مثلا- معالجة الجانب التربوي ظهرت مشكلات في بقية الجوانب العقدية والتشريعية والاجتماعية والسياسية... إلخ، وهكذا قل عن معالجة الجوانب الاخرى.

هذا هو معنى الإشكالية، وبالتالي مهما وجدت مبادرات وحلول فإن لم تفشل فإنها تتعثر، كون المعالجات سطحية لم تلامس عمق المشكلة وأبعادها، غير أن المقام لا يتسع للحديث المفصل حول الأسباب التي تمخضت عنها إشكاليتنا الثقافية، لكن سنشير سريعا إلى جذور الأسباب كمعالم هادية للقارئ، ونحن على ثقة أن القارئ سيحلل المزيد وصولا إلى بلورة صورة حول إشكاليتنا الثقافية، بل وسيساهم في وضع الحلول العملية.



جذور إشكاليتنا الثقافية:
يمكننا القول باختصار شديد إن جذور الإشكالية الثقافية في موروثنا الفكري تتمثل في إعلان الحرب على العقل، حيث تم اصطناع مشكلة بين العقل والنقل.

أعلنت الحرب على العقل حربا لا هوادة فيها، حرب كانت ولا زالت وربما ستظل لعقود قادمة، إن لم يبادر المفكرون فيقومون بعمليات جراحية عميقة في اتجاهات متعددة من حياتنا الثقافية.

إذن، ما هي العوامل التي ادت إلى إعلان الحرب على العقل؟ أهم هذه العوامل هي:
1- القرشية السياسية الأموية، علما أن القرشية الأموية كانت على استحياء إلى حد كبير لأسباب عدة لا مجال للتفصيل حولها.
2- الهاشمية السياسية العباسية، وهذه جمعت تعصبين فارسي وهاشمي.
3- الاثنى عشرية (البطنين).


ثانيا: تسييس المتعالي

لو أن العصبيات الآنفة وقفت عند حدود التعصب السياسي البحت لهان الأمر، مع تسليمنا بخطورة العصبية وآثارها القذرة.

لكن الذي حصل هو إضفاء القداسة الدينية (الحق الالهي في الحكم)، بل حصل ما هو أخطر وهو ربط الحق السياسي في أصول الدين أي بالعقيدة.

هنا جذر الداء العضال، جذر إشكاليتنا الثقافية التي نعيشها اليوم، هل تستطيع الاقتراب؟ ستصطدم بلغم العقيدة؟

هذه المحنة الثقافية الإسلامية ضاربة في أغوار اللاوعي الإسلامي عند أهل السنة بشقيها السلفي والصوفي، وعند الشيعة عموما بلا استثناء اللهم سوى كليمات تنسب إلى زيد بن على لكنها قد ماتت يوم استشهد زيد.

 

النتيجة:

1- إرهاب فكري عقدي، فالذي سيفكر أن يناقش الحق الإلهي أيا كان أموياً أو عباسياً أو شيعياً، فالفتوى جاهزة لإخراجه من الإسلام إلى ميتة الجاهلية.

2- حرب على العقل، هذه النتيجة هي الجانب القانوني والممارسة العملية في الحرب على العقل، إذن، أنى للعقل أن يفكر بوظيفة السياسة ومهام الدولة؟ بل أنى للعقل أن ينظر في جانب السنن الإلهية؟

3- اصطناع حرب بين العقل والنقل، هذه الحرب المفتعلة هدفها عزل العقل عن النظر في النص، وإيجاد قطيعة دائمة بين العقل والنقل، وقد نجح الطغيان المستنير أيما نجاح.

4- الانحراف بمفهوم القدر، فالقرآن تحدث عن السنن الإلهية بأنها هي أقدار الله وتسخيره وحكمته وتشريعه، وهي أوامره التي تمثل مقدمات ومبادئ وشروط النجاح في الحياة.

أعني أنها شروط سابقة عن التكليف كما هي مصاحبة للتكليف، وخادمة للتكليف العقدي والتعبدي والتشريعي، بل للحياة عموما دنيا وأخرى.

باختصار، بلغ عدد المواطن 104 مواطن تقريبا ورد فيها النص أن القدر هو أحد المفاهيم المتصلة بالسنن الإلهية، وأن هذه السنن الإلهية لا تجامل أحدا مسلما أو ملحدا أو غيره، وأنها أقدار الله وسننه التي يمكن للإنسان التعامل معها ومغالبتها بأقدار الله نفسها.

فالجوع قدر الله وعلاجه يكون بقدر الله وهو الشبع، وهكذا كل مجالات الحياة. إذن هذا قدر الله وسنته ولكنهما يعالجان بقدر مثله، بخلاف القضاء الكوني الذي هو خارج قدرة الإنسان فهذا لا علاج له ولا راد له كما أنه ليس موضوع حديثنا.

5- الخلط المتعمد بين القدر السنني والقضاء الكوني، وهنا صُنِعت روايات تحذر من الخوض في هذا المجال، أعني مجال القدر السنني، لأنه سر الله الذي لا ساحل له.

6- تجهيز أوسمة التبديع والتفسيق والتضليل ليس للذي سيتحدث اليوم، وإنما أوسمة بأثر رجعي علقت على شخصيات من أهل العلم والفقه والتزكية والصلاح والتدين، وأصبح هولاء العظماء رؤوس البدع، أي إرهاب فوق هذا وأي حرب أعلنت ضد العقل فوق هذه الحرب؟ نكتفي بهذا.

وهنا نعود بالقارئ إلى البداية حيث قلنا: إعلان الحرب على العقل، لاشك ولا ريب أن القارئ قد اقترب جيدا من جذور إشكاليتنا الثقافية.

 

ثالثا: منطلقات المعالجة

نود الحديث حول علاج إشكاليتنا الثقافية، مؤكدين مبدئيا -شرط أساسي- أن يكون العلاج من داخل ثقافتنا أي بالعودة إلى أصول مصادرنا الثقافية، ذلك أن محاربة العقل المسلم تمت باسم القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وعليه، لا بد من انطلاق المعالجة من مقاصد الوحي المقدس ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، بعيدا عن موروثات صراع القرون الغابرة، وذلك على النحو التالي:

1- إعادة الاعتبار للعقل المسلم، والمقصود بذلك هو الانطلاق من مقاصد القرآن العظيم، ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أننا إذا سلمنا بأن جذور إشكاليتنا الثقافية تتمحور حول إعلان الحرب على العقل، وأنه قد تم تحريف النصوص واصطناع حرب وإرهاب فكري... إلخ، بما يتناسب مع الوباء والاعتلال السياسي المبكر.

وعليه، إذا اتضح مكمن الداء فإن العلاج لا بد أن يتجه أولا نحو أساس الداء، فهذه هي سنة الله التي أرشدنا إليها وأمرنا بها وبثها في معارف وحيه المقدس.

بكلمة، لا بد أن يتجه العلاج إلى ضرورة التأصيل حول "تكوين العقل السنني"، ولا يمكن التأصيل الآنف حتى يتم إعادة الاعتبار للعقل المسدد بالوحي.

كما أن إعادة الاعتبار للعقل لم ولن يكتب لها النجاح ما لم يتم التعرف على مكانة العقل في القرآن، ودلالة العقل التي اعتمدها القرآن في غرس العقيدة وتعزيزها، وهذا الموضوع سيكون محور حديثنا في الحلقة الثانية بعونه سبحانه.