الجمعة 29-03-2024 10:49:45 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

المهلكات الحضارية الكبرى (الحلقة الخامسة) جذور الاستبداد ومكوناته

الخميس 08 نوفمبر-تشرين الثاني 2018 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي
 

 

مدخل

الفصام النفسي أخطر الأمراض النفسية، حيث يقول علماء النفس إن الفصام يعود إلى المحتوى وليس إلى المجرى، فما هو المحتوى وما هو المجرى؟

يُشبِّه علماءُ النفس الفصامَ بأنه أشبه بمن يدخل أوساخا متنوعة إلى خزان المياه، ثم يحاول جاهدا الحصول على ماء نقي من خلال تغيير الحنفية أو الدّلاء (جمع دَلْوٍ) وهيهات، حيث ستظل المواد المتسخة تتسرب عبر الحنفية أو الدِّلاء مهما تجددت، بخلاف ما إذا كان الفساد في الحنفية أو الدلاء فإنه بالإمكان تغييرهما وتنتهي المشكلة، أهـ. بتصرف من كتاب "كيف تصنع مريضا"؟.

فالمقصود بالمحتوى هنا هو عقلية المجتمع، وليس الخزان الحقيقي، الأمر الذي يعني أن الإشكالية صعب حلها بكل ما تحمله كلمة صعوبة من معنى، وهنا يأتي سؤال قائلا: إذا كان من الصعوبة حل مشكلة المدخلات الثقافية العادية في الوعي الجمعي، فماذا عن المحتوى الثقافي العربي الخاطئ الضارب في أغوار اللاوعي العربي المسلم والذي اخترقنا عبر المنهج، حيث تقمص لباسا عقديا وتشريعيا وصولا إلى رسوخه قيميا وقانونيا أي تدينا وسلوكا؟

بصيغة أكثر وضوحا: ما هو القول إذا وجدنا هذا اللباس قد تحول منهجا وطريقا لفهم النص القرآني؟ ثم هل العلاج لهذه الحال ممكن؟ لا نريد إطالة المقدمة، فالدخول إلى صلب الموضوع هو الأهم فنقول:

 

أولا: جذور الاستبداد ومكوناته

من أين ابتدئُ الحكاية؟

كيف الوصول إلى النهاية؟

وأبي يعلمنا الضلال

ويسأل اللهَ الهداية!

أ. البردوني رحمه الله.

السؤال: ما هي مكونات جذور الاستبداد؟ وما علاقتها بالمحتوى الثقافي العربي الإسلامي الذي جذّر الاستبداد 1400 عام حتى خيمت المهلكات الحضارية على العقل العربي المسلم، ومن أبرز المهلكات "الأمية الفكرية".

ما هو محتوى الفكر العربي الإسلامي الذي تحول إلى جنادل خرسانية معيقة سدت منافذ التفكير حتى تأسّنت حياتنا الفكرية، وتحولت إلى اعتلال مزمن بل إلى مرض رُهابٍ نفسي؟

ولأن أمراضنا وعللنا الفكرية والثقافية طالت كل جوانب حياتنا، فإن حديثنا سيتجه إلى عمق الداء وهو "جذور الاستبداد ومكوناته" على النحو التالي:

 

1- الثقافة المزورة:

سأشير في نقاط سريعة إلى قضايا تحدثت عنها في كتابات سابقة، والهدف هو تجلية الصورة للقارئ فأقول:

- نجح اختراق الفكر الشيعي للفكر السني، من مطلع منتصف القرن الهجري الأول.

- اشتد هذا الاختراق بعد الانقلاب العباسي، كون العباسيين جعلوا مرتكز حكمهم الرواية، فتم توظيف الموقف بقوة وما على العقل السني سوى التسليم.

- تمثل الاختراق الشيعي في كتابة مئات الكتب، وصناعة الروايات المكذوبة وإلصاقها برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.

- لم يقف الاختراق الشيعي عند تلويث المحتوى العقلي فقط، ذلك أنه قد يأتي فقيه عاقل سيكتشف الكذب في الرواية، وهنا اتجه الاختراق إلى الزاوية الأخطر وهي صناعة قواعد النظر المنهجي المتمثل في أصول الفقه، والخطورة هنا هي حصار وتقييد العقل المسلم الذي سيجتهد في تعامله مع نص القرآن العربي المبين، فجاءت قواعد النظر المنهجي محاصرة لا أقول للعقل المسلم العادي وإنما حاصرت العقل الفقهي الذي سيجتهد، لتكون النتيجة هي "تحريف الكلم من بعد مواضعه".

- وجد العقل الفقهي ذاته محصورا بين قواعد برهانية لفظية وحرفية غارقا متوحِّلا في خضخاضها، متناسيا أو متأولا في أقل أحواله، بل ومنفِّرا أحيانا كثيرة من اعتماد النظر في مقاصد القرآن ومقاصد الشريعة ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

باختصار، لا زال العقل الفقهي غارقا في الجزئيات موليا ظهره للمقاصد والكليات من نهاية القرن الثاني الهجري وحتى اللحظة.

 

2- أمثلة على تزوير المنهج وتحريفه:

سأشير ساردا للقواعد الأصولية القادمة من الفكر الفارسي والخادمة للفكر الشيعي بامتياز:

أ- القرآن حمال أوجه.

ب- السنة مقيدة للقرآن.

ج- السنة مخصصة للقرآن.

د- لا قياس مع النص.

هـ- لا اجتهاد مع النص.

و- لا عبرة بالسياق القرآنى إذا خالف الرواية.

ز- السنة تستقل بإنشاء أحكام خارج القرآن.

ح- السنة تنسخ القرآن.

ط- الإجماع مقدم على النص.

ي- رأي الإمام أو نائبه مقدم على الإجماع.

ناهيك عن الأقوال القادمة من بلاط السلطان والتي تعكس مدى الانحراف التأصيلي مثل قولهم وبئس القول: "السنة قاضية على القرآن"، "القرآن أحوج إلى السنة".

 

3- الإرهاب الفكري:

- إغلاق باب الاجتهاد وإن وجد مجتهد ففي إطار المذهب.

- يشترط في المجتهد أن يبدأَ أولا وقبل كل شيء النظر في الإجماع، فإن وجده فلا اجتهاد.

- هناك شروط للاجتهاد ما عرفها الصحابةُ ولا التابعون.

 

تعليق سريع:

القواعد الآنفة كلها في كتب الشيعة وضعوها ليحتجوا بها لوثنيتهم السياسية في رواياتهم المكذوبة والمنتحلة والموضوعة (الغدير والبطنين والاثنى عشر إماما وفضائل علي وآل البيت).

- الاجتهاد عندهم محرم إلا من المعصوم.

- افتروا زورا أن عليا قال القرآن حمال أوجه، وهذا يخدم رواية حق الإمامة.

- وضعوا كذبة تضحك الثكالى وهي أن عليا نصح ابن عباس ان لا يناظر الخوارج بالقرآن وإنما بالسنة، والناظر في تلك المناظرة سيجد أن ابن عباس ناظرهم بالقرآن والعقل.

أما قاعدة "لا قياس ولا اجتهاد مع النص" فإنها تصب في ذات الاتجاه.

- السنة نوعان عملية وقولية.

- نعم السنة العملية مخصصة ومبينة للقرآن في مجال العبادات المِحضة، ومع ذلك فهي تدور مع قاعدة رفع الحرج.

- السنة العملية أو القولية في مجال المعاملات لا تخصص القرآن، وإنما هي وجه من وجوه التطبيق للقرآن فلا تقيده، فقط يتم العمل بها إذا اتفقت مع العدل والمصلحة.

- إذا تغير وجه المصلحة وتجددت صور العدل يجب الاتجاه إليهما فثم شرع الله.

فالقياس والاجتهاد حاصل من الراشدين والصحابة وحاصل من الفقهاء وإن كانت التسمية مختلفة.

- الشيعة ينكرون الإجماع: وهنا اتجه أهل السنة إلى الأخذ بقاعدة الإجماع مخالفة للشيعة وترهيبا لهم، فلا الشيعة ارتدعوا ولا السنة اجتهدوا، وكل الذي حصل هو محاصرة العقل السني وإرهابه وصولا إلى تجهيله، فسقط العقل ذاويا في أعماق وهاد التخلف، عابدا للاستبداد، لأن مخالفة الإجماع من قِبل الفقيه كفر، لكن الإمام هو الإله الصغير، من حقه أن يخالف الإجماع كيف يشاء ولوكان أجهل من بقرة.

 

النتيجة الأولى: تحريف الكلم من بعد مواضعه، تمثل هذا التحريف في:

- إزاحة مبدأ الشورى من بين سنن الاجتماع السياسي المتصل بمقاصد وأهداف الشريعة، وتم تسكين الشورى إلى جوار جزئيات الفقه المندوبة (المضمضة والاستنشاق).

- هذا التأصيل المنحرف جذّر الاستبداد بل كان من أبرز مكوناته، ذلك أن حفظ الإنسان وحقوقه وكرامته هو محور مقاصد الشريعة بلا أدنى نزاع.

 

تعليل وإيضاح:

أنا سميت هذا الانحراف

"نتيجة" وذلك من الناحية التاريخية التأصيلية، لكنها من ناحية الفكر والتشريع هي "القاصمة" الإجرائية التشريعية للفكر النظري والفقه التطبيقي، وهي التدين الثقافي والسلوكي الذي أزاح أقوى قواعد الشرعية السياسية، تاركة الميدان للاستبداد يضرب جذوره في أعماق الفكر والسلوك المجتمعي تدينا وتشريعا وثقافة، فترسخت الروح الفردية المستبدة باسم الله ودينه وشرعه.

 

5- العيش في الماضي:

- ليس في الإمكان أبدع مما كان، كان هذ الشعار المرفوع.

- هذا الاجترار للماضي والعيش للاستبداد قاد الفكر الفقهي إلى بلورة المكون التالي.

 

6- إنكار سنن الله وفاعليتها في النفس والاجتماع:

- الله عز وجل شرع الشورى للأمة كي تحمي حقوقها من تغول الفرد والسلطة أيا كانت، وشرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله صمام أمان المجتمع المسلم، جاعلا هذا المبدأ من أبرز مميزات أمة الإسلام "كنتم خير أمة..." إلخ.

لكن تحريف الكلم من بعد مواضعه، أي إزاحة الشورى من مكانة سنن الاجتماع السياسي والشرعية السياسية، أتاح المجال لجذور الاستبداد فضربت في أعماق مجالات حياتنا، بل تحول إنكار فاعلية سنن الله في الاجتماع إلى إرهاب عقدي وتكفير للباحث حولها.

حجة واهية:

التبرير للاستبداد لم يعدم الحجة في إنكار فاعلية السنن، فقد احتج أصحاب التأصيل المنحرف بدليل استثنائي والذي من شأنه يرسخ القاعدة فقالوا: إن الأسباب، أي سنن الله، خلقها الله وهي تعمل بأمره، فإذا شاء أبطلها وبالتالي فيجب ترك السنن والأسباب والتوجه لخالق الأسباب، واستدلوا قائلين: السكين لم تقطع رقبة إسماعيل، والنار لم تحرق إبراهيم، والبحر تجمد لموسى.

قلنا هذه قاعدة منطقية فيها مغالطة عقدية وتشريعية، مقدمتها صح ونتيجتها خطأ ألف مرة، ذلك أن أي مسلم غير عالم تجده راسخ المعتقد أن الله خالق السنن وأنه قادر على إبطالها، لكن الخطأ هو إضاعة كتاب الله الذي شرع الشرائع وتعبدنا بالتعامل مع السنن والأسباب، أفنترك شرع الله المقدس لتأصيل منحرف وتصوف منكوس قادم من ثقافة الفرس؟ من قال هذا؟ هذا هو الحاصل وهو الخط العام للتاصيل.

 

7- البعد الخارجي وإعادة الإنتاج:

- كانت المكونات الستة الآنفة في التاريخ المنصرم، أي قبل عصر الاحتلال الأوروصليبي لبلاد المسلمين.

ــ جاء الغزو الصليبي ليستفز الثقافة الإسلامية، فاتجه العقل المسلم دفاعا عن الهوية والذات من الذوبان، وهذا شيء طيب، لكن هذه المرة اشترك الجلاد المحلي مع الأجنبي، فكانت النتيجة إعادة إنتاج الاستبداد بل وتجذيره، مع بروز عصاةٍ إرهابيةٍ أشد وأنكى إلى جانب الإرهاب الفكري الموروث، هذه العصاة هي

"وسام العمالة" بلغة السياسة، وبلغة الدين هي الكفر والصهينة والعمالة... إلخ الأوصاف المعاصرة.

 

8- العلمانية المستبدة:

هذا المكون الجديد جاء تحت عباية التحرر ولكن أي تحرر؟ إنه التحرر من الحرية. التحرر السياسي حرام، لكن الانحلال من قيم الإسلام والهوية الحضارية فإن الباب مفتوح.

الغريب أن العلمانية العربية التي تسولها المتغربون وُلِدت فاشلةً من لحظتها الأولى متناقضة، ذلك أنها ربطت بين الديمقراطية والعلمانية، مدعية أن العلمانية قيمة كونية، كيف كونية وها أنت أيها المتسول هدمت الحرية والديمقراطية والمدنية باسم الحرية والديمقراطية والمدنية، أي تناقض وأي غش وأي غباء وأي عبث فوق هذا؟

 

9- إنكار فاعلية السنن:

يفاجؤنا القرن الـ21، بظهور فقيهين عملاقين من ذوي الشأن فقيهان من القطع الكبير.

في الفلسفة والفكر الإسلامي اتفقا على اختلاف عبارتهما، وبعد تسويد صفحات كثيرة وتحت ضغط وإكراهات الواقع المحبِط، خرج هذان العالمان إلى العقل المسلم بتصور خلاصته: إنكار فاعلية السنن، وإن الحل في نظرهما هو الاعتناء بالتزكية القلبية فقط.

 

النتيجة العامة:

1- افتعال معركة وهمية لا وجود لها بين العقل والشرع، وهي معركة قديمة حديثة.

2- أُميةٌ فكرية وثقافية وصولا إلى غيبوبة فقهية حضارية مهلكة قاتلة.

3- رفض الدستور والقانون وكل السنن الكابحة للفردية المتسلطة والمتغولة، السنن التي جاء بها الشرع والتي أثبتت التجارب نجاحها عالميا.

4- عبادة الفرعون تحت شعار عبادة الله، فهل هناك ارتكاسة عقلية أسوأ من هذه الارتكاسة؟

 

نلتقي مع المهلكة السادسة بعنوان "معلومات بلا قيم".

كلمات دالّة

#الاصلاح_نت