الأربعاء 24-04-2024 09:27:32 ص : 15 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

المهلكات الحضارية الكبرى .. التشبث بالتراث (الحلقة الثالثة)

الجمعة 02 نوفمبر-تشرين الثاني 2018 الساعة 08 مساءً / الاصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي
 


التراث حاضر في حياتنا كلها، ولا شك أن للتراث إيجابيات في مجالات مختلفة.

التراث وفكر الدولة
تفاديا لإطالة الحديث، سنحاول الدخول إلى التراث نستكشف "فكرة الدولة"، ووسيلة استكشاف الدولة ستكون في صورة تساؤلات قائلين: ماهي فكرة الدولة في تراثنا الفكري؟ ما مفهوم الدولة؟ وماهي وظيفتها؟ هل مفهوم الدولة في التراث هو عين مفهوم الدولة في الثقافة المعيشة؟ أين تكمن الطاقة الحيوية الخلاقة في التراث والتي يمكننا من خلالها بناء الدولة الحديثة؟
الجواب: إذا احتكمنا إلى الخط العام الذي سارت فيه الدولة عبر التاريخ الإسلامي من العام41 هـ، سنجد أننا أمام نوعين من الحكم: إما تغلب، وإما توريث.
أرجو أن لا يفهم البعض من كلامنا أننا ننكر قيام دولة العدل عبر التاريخ، أو أننا ننكر لقيام حضارة إسلامية، العكس هو الصحيح. فالعدل حصل، وحصل الظلم، كسنة اجتماعية.
الحضارة الإسلامية قامت وأفادت العالم واستفادت، وبشهادة خصوم الحضارة الإسلامية، فقد أقروا لها بزخم عطائها قرابة 500 عام في المجال الفلسفي والأخلاقي، وظلت طيلة ألف عام تعطي في الجانب المادي علوما طبيعية وطب وفلك ورياضيات... إلخ، وعطاؤها كان متقدما في ذلك السياق.
وهنا سؤال يطرح نفسه بقوة: من المعلوم أن الشرعية السياسة فُقدت من بعد فترة الراشدين، فكيف قامت الحضارة في غياب الشرعية السياسية؟
والجواب: الحضارة الإسلامية اكتسبت زخمها واستمر عطاؤها كونها نمت ونشأت وأثمرت وآتت أكلها خارج النسق السياسي، وهذا سر نجاحها.
أما الفكر الذي كان يؤدي إلى احتكاك مع السياسة فكان مصيره التنكيل.
نعود إلى الإجابة عن السؤال الرئيسي في هذه الحلقة: قلنا إن الخط العام الذي سارت عليه الدولة عبر التاريخ الإسلامي كان توريثا أو تغلُّبا، وعندما نقول الخط العام، فإننا نقصد أن هناك آراءً فقهية خالفت النسق السائد محاولة إعادة الشرعية السياسية ومفهوم الدولة ووظيفتها إلى الأصول المعصومة، أي القرآن ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كانت محاولات جادة وجيدة في سياقها، لكن لم يكتب لها الظهور، فاستقر مفهوم الدولة في الخط العام العملي الذي حمله إلينا التراث المتمثل في "التوريث" أو "التغلب".
أعني أن النظرية السياسية في التراث الإسلامي قد خضعت مشرعنةً لما هو كائن، مستبعدةً ما ينبغي أن يكون.
وعليه، فإن مفهوم الدولة في تراثنا الفكري هو شخص يتولى مقاليد الحكم بإحدى الطريقتين الآنفتين، ولا بد أن يكون قرشيا، وسواء كان هذا التغلب على الولاية، أي حكم الأقليم، أو الخلافة العظمى.
أما وظيفة الدولة فهي العدل ورد الحقوق، فهذا أمره راجع إلى إيمان الحاكم وتقواه، أو وجود بطانة صالحة للحاكم.
لا ندري كيفية وصول البطانة الصالحة إلى جوار الحاكم.

الشرعية السياسية
وماذا عن الشرعية السياسية، أي طريقة اختيار الحاكم؟ فالتراث في خطه العام يقول: الشرعية السياسية مصدرها أهل الحل والعقد تنظيرا وإجراءً، وهنا يتولد سؤال أهم، وهو: من هم أهل الحل والعقد؟ ومن الذي أعطاهم هذا الحق حتى يتكلموا بلسان الأمة؟
الجواب: أهل الحل والعقد هم أهل الشوكة (قادة الجيش أو قائد الجيش، ووجهاء البلد المعتبرين، يعني شيخان أو ثلاثة، وتجار، وقادة الجيش معهم). أما الذي أعطاهم الشرعية، فهو ولي الأمر، يعيُِّنُهم هو.
الحقيقة أن كاتب هذه السطور ليس لديه تعليق على هذا اللغز، وللقارئ الحرية في اختيار تعليق يتناسب واللغز.
هل استقرت الشرعية السياسية عند اللغز الآنف؟ لا، وإنما لدينا نظريات أخرى تكرس إلغاء حق الأمة.
تقول إحدى هذه النظريات: 'تنعقد الولاية ببيعة رجلين قياسا على عقد الزواج"، ونظرية ثانية تقول: "تنعقد الإمامة برجل واحد"، ونظرية أخرى تقول: "تنعقد الإمامة بنصف رجل". ما المقصود بـ"نصف رجل"؟ نصف رجل يعني جارية مقربة من شخص في القصر فأعجبها فبايعته، تمت البيعة، ووجبت طاعته، وبالتالي لا يجوز الخروج عليه، لأن الخارج سيموت ميتة جاهلية، وإن صلى وصام... إلخ.
سيقال إن التاريخ عرف انعقاد البيعة وقدوم الوفود من أطراف البلاد لتقديم البيعة، نقول هذا صحيح، ولكن البيعة كانت تحصيل حاصل، فالتوريث أو التغلب هو الفيصل الحاسم.
سؤال آخر: إذا حصل قتال بين طامعين بالكرسي، فلمن تكون الطاعة؟
الجواب: المؤمن التقي الورع المحافظ على دينه عليه أن يبيت على فراشه ويشهد الله على ما في قلبه قائلا: اللهم إن كنتَ قد كتبتَ أجلي هذه الليلة، وإن أحد المتقاتلين أصبح وقد تغلب، وحتى ألقاك وفي عنقي بيعة، وحتى لا أموت ميتة جاهلية، فأشهدك أني قد بايعت المتغلب أيا كان.
يا لطيف.. هل هذا يعني لزوم البيعة ولو كانت للمحتل موسوليني أو نابليون أو أو...؟
ذلك أن الرواية تقول:
1ــ من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
2ــ الإجماع منعقد على هذا ومن خالف الإجماع فقد كفر.
وماذا عن كثير من الصحابة الذين لم يبايعوا؟ وماذا عن الحسين وسعيد بن جبير وعلماء كبار ومسلمون كثر لم يبايعوا، فهل ماتوا ميتة جاهلية؟
الجواب: الإجماع على خلاف فعل الصحابة وما دار بين الصحابة فاسكتوا. هذا كلام في غاية الغرابة، فهل يعتد بإجماع ليس فيه الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم؟
الإجماع الذي استقر كان منذ منتصف القرن الثالث فما فوق. هل المراد بالإجماع هنا الشورى السياسية؟ لا.. هو إجماع فقهي فقط حملته كتب التراث إلينا.
أيها التراث: هل الحاكم ملزم بالشورى؟ الجواب: لا، لأن رأي الحاكم مقدم على الإجماع.
يا إلهي هل نحن أمام وثنية جديدة اسمها عبادة التراث؟
الأكثر غرابة في التراث هي: أن الإجماع ملزمٌ للرعية فقط، أما الحاكم غير ملزَمٍ، لأن رأيه مقدم على الإجماع.
ماذا لو كان الحاكم مبتدعا أو ضالا أو فاسقا؟ هو حاكم شرعي وجبت طاعته ما لم يعلن كفرا بواحا أو ارتكب كفرا مجمع عليه.
وماذا عن العالم إذا اجتهد في فهم نص وجاء بقول مخالف للوثنية السياسية المتمثلة في الإجماع المدعي؟
الجواب: هو مبتدع يستتاب، فإن تاب وإلا يقتل تعزيرا.
كيف يقتل وهو مجتهد منطلق من النص؟
الجواب: باب الاجتهاد مغلق وبالذات في مجال ولي الأمر، وهذا يعني أن الاجتهاد في هذا المجال بدعة وصاحبها يقتل تعزيرا.
وماذا عن وظيفة الدولة؟ الدولة مطلوب منها أن تقوم بالعدل، وإذا صدر منها ظلم وطغيان وإفساد ونهب للمال العام وإهلاك للحرث والنسل، فعلى الأمة المؤمنة الصبر، وعليها أن تعلم أن الله قد غضب عليها وسلط عليها الظلمة. فلا تشغلوا أنفسكم أيها المؤمنون بمقارعة الظلمة، وإنما عليكم أن تلزموا الاستغفار، والله سيرقق قلوب الحكام إن شاء، والموعد الجنة.
هذا هو الضمان الوحيد أمام تغول الطغيان والفساد. ألا يكون هذا الضمان المختلق مخالفا للضمانات التي نص عليها القرآن والسنة الصحيحة.
كيف نستسلم لروايات وأقوال وتشريعات لم يعرفها الصحابة ولا التابعين؟ أين كانت ميتة الجاهلية؟ كيف خفيت عن الخلفاء الراشدين؟ لماذا لم يذكرها عثمان في وجه الخارجين عليه؟ كيف سكت علي وجميع الصحابة ولم يواجهوا أهل الشام؟
وقبل وبعد وفوق كل ما سبق: لماذا كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس؟ أليس بالتزامها بضمان وصمام أمان المجتمع المتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ألم يثن الخليفة الثالث على الخارجين عليه ووصفهم بأنهم خير شباب الأرض قاموا بالأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر؟
أين الإجماع وميتة الجاهلية؟ من أين خلقت هذه الروايات؟ وكيف طغت وأصبحت هي الخط العام في أخطر موضوع؟

وماذا عن المال العام؟
الجواب: أدُّوا الذي عليكم واسألوا الله الذي لكم.
نقول: يا تراث، هذا كلام لم يصح سنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لو صح سنده فإن معناه مخالف لمبدأ قطعي الثبوت والدلالة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم إن رواية "أدوا الذي عليكم"، ومثلها رواية "إلا أن تروا كفرا بواحا"، كلاهما باطلتان مصطنعتان لخدمة الإفساد والمفسدين وتبريرا لإهلاك الحرث والنسل.
أيضا، فقهاء الأصول متفقون على عدم قبول أي حديث تضمن دعوة الناس إلى التزام رذيلة العبودية، وإن صح سنده، كونه ينافي التوحيد ومقاصد التوحيد فليس كل ما صح سنده صح معناه.
يا تراثنا، أنت هنا تنسب إلى الراشدين كتمان الشريعة، بل يا تراثنا السني ها أنت تكرس اتهامات الشيعة للصحابة بأنهم كتموا الشريعة.

كيف نتعامل مع التراث؟
أولا: يتفق فقهاء الأصول والمقاصد أن التشريع الإسلامي يتضمن ثوابت ومتغيرات، الثوابت هي العقائد والفرائض والعقوبات المحددة في القرآن والسنة العملية، والمتغيرات هي القضايا المتعلقة بمعاملات الناس الدنيوية ومنها فكرة الدولة.
يتفق فقهاء الأصول أن القضايا المتعلقة بالجانب الدنيوي محورها المصلحة والعدل، فحيثما اتجهت المصلحة وتعانقت مع العدل فهناك شرع الله.
ثانيا: من خلال الاتفاق الأصولي الآنف يتضح لنا أن التراث يتضمن منهجا، ويتضمن تطبيقات.
المنهج ملزِمٌ لنا بنص القرآن "لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا".
أما التطبيق التاريخي فغير ملزم لنا، إذ كل ما في الأمر أننا نحترم تلك التطبيقات لا نقدسها، ذلك أننا لسنا متعبدين بتصرفات قيلت أو حصلت في ظروف مغايرة لظروفنا وثقافة واقع مغاير لواقعنا، فالعُرف الثقافي المعيش تغير جملة وتفصيلا، والقاعدة المقاصدية المتفق عليها تقول: "إذا انخرمت العادة تغير الحكم"، "إذا تغير العرف فاحكم به".
ويقول القرافي: "الجمود على المنقولات ضلال مبين ومخالفة للعلماء ورميهم بالجهل والضلال".
ثالثا: من بديع التشريع القرآني المعصوم:
- أن مبدأ الشورى نزل في العهد المكي، نزلت سورة اسمها "الشورى" قبل تشريع تفاصيل الصلاة والزكاة والصوم والحج وكل المعاملات والعقوبات.
- التشريع المعصوم تمت به كلمة الذي أنزله: "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمات الله". وهذا من بديع عدل الله جلت حكمته، سيقال كيف ذلك؟
الجواب طويل، ولكن باختصار نقول: بديع حكمة الله في مقاصد التشريع أن سورة الشورى تضمنت آية المودة في القربى: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى".
هنا يتضح لنا مدى الجهل الذي يستدل بالمودة أنها الحكم في البطنين أو قريش. كما يتضح أن مبدأ الشورى يعني إعادة حق الأمة المسلوب منها والذي اغتصبه الملأ عبرالتاريخ.
ويتضح لنا بالنص الصريح أن الأمة هي صاحبة الحق في تقرير "الشرعية السياسية".
رابعا: التشريع المبكر في مكة للشرعية السياسية، تبعه تشريع قرآني في المدينة من قوله تعالى: "إن الله يأمركم" إلى قوله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"... إلخ.
لم يكتف بهذا وإنما وضح صفات أولي الأمر بقوله: "... لعلمه الذين يستنبطونه منهم...". أي أن الأمة توكِّل من ينوب عنها من ذوي الاختصاص القادرين على التحليل وتتبع مقاصد النص ووجهة المصلحة بشقيها الإيجابي المتمثل في جلب المصلحة، والجانب السلبي المتمثل في دفع المفسدة.
خامسا: مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة هي تطبيقات وتدريبات، أي تشريع منهجي يدل على وجوب التزام مبدأ الشورى، لا كحكم فقهي وإنما كسنة من سنن الاجتماع السياسي، والذي يعني أن مخالفتها عقوبته معجلة دنيويا المتمثلة في التنازع الذي نحصده اليوم منذ سنوات، وسيستمر هذا النزاع حتى نراجع قواعد النظر المنهجي في موضوع "فكر الدولة والشرعية السياسية".
وعليه، وانطلاقا مما سبق نقول: منهج الانطلاق في بناء فكر الدولة هو مقاصد الشريعة، والذي يتمحور في جلب المصلحة ودفع المفسدة.
أخيرا وليس بأخير، مصالح الدنيا مدركة بالعقل وتنظيم هذه المصالح (الآليات) يمكن استفادتها من الغير بما يتفق مع قيمنا وثفافتنا، وما لم يتم تفعيل فقه المقاصد، فإننا سنظل نحرث في البحر، كما قال المفكرون.
نلتقي بإذن الله مع الحلقة الرابعة من المهلكات بعنوان "غياب مجتمع الراشد".

كلمات دالّة

#الإصلاح_نت