السبت 20-04-2024 12:37:47 م : 11 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

المهلكات الحضارية الكبرى ! غياب المشروع (الحلقة الثانية)

الثلاثاء 30 أكتوبر-تشرين الأول 2018 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت- خاص / عبدالعزيز العسالي
 




من يتتبع التاريخ يجد أن كل حركات التغيير على مستوى العالم أخفقت بدءًا من ثورة بريطانيا 1642م، مرورا بالثورة الفرنسية، وانتهاء بالثورات العربية ضد الاحتلال الأجنبي أو المستبد المحلي، والربيع العربي.

ليس غريبا أن تكون هذه الحركات أو الثورات قد صاحبها الإخفاق والتعثر، ذلك أن البدايات بطبيعة الحال تواجهها معوقات، من أهمها: قلة التجربة، وغياب التخطيط، وغياب التخطيط يعني غياب المشروع.

غير أن العالم استفاد من تجاربه نجاحا وإخفاقا، لكن العقلية العربية لم تستفد لا من الذات ولا من الغير، فالعقلية العربية بشقيها المحافظة والمتغربة دمرها التقليد.

ومن أجمل ما قيل عن العقلية المنكفئة في وحل التقليد: إن التقليد للميت لا يعني أن الميت حيٌ، وإنما المقلِّد هو الميت.

بكلمة: الوقوع في الخطأ ليس عيبا وإنما الاستمرار في طريق الخطأ هو العيب وهو الغلط.

كثيرة هي الكتابات الناقدة للإخفاق، لكن بعضها سطحي، وبعضها طغى فيها معتقد الكاتب، فجاء النقد مشوها في أغلب أحواله، وإذا لطفنا العبارة نقول اعتراها القصور.

أخبرني أحد الفضلاء في عام 1997 بأنه زار الترابي -رحمه الله- وقدم إليه الترابي كتابا فيه مشروعه النهضوي، فقال له: يا شيخ ترابي هذا بحاجة لمليارات، فقلت له: هلا أخذت لنا نسخة؟ فسكت!



النتيجة:
ــ غياب المشروع.
ــ استمرار ليل التخبط، فنجم عنه تعزيز الإحباط.
ــ فقدان الثقة بالذات.
ــ فشل أي عمل تعاوني شعبي، بل وفشل القطاع العام والمختلط.
ــ اللجوء إلى استجداء الآخر، فيبادر بتقديم حلول جزئية أشبه بمسكنات، فتتفاقم المشكلات وتتراكم.

والمحصلة النهائية، هي الوضع المأساوي المعيش على مستوى الوطن العربي عموما بلا استثناء.


 
آفاق المشروع:

من الحماقة أن ندعي أننا سنقدم مشر وعا، لأن المشروع يحتاج إلى سنوات، كما يحتاج إلى عشرات المتخصصين في مجالات العلوم الإنسانية ومن كل المشارب، يدرسون عوامل وأسباب الإخفاق بموضوعية يصلون من خلالها إلى تشخيص المشكلة أولا.

ومع تسليمنا بصعوبة إخراج مشروع نهضوي، فإن محاولتنا ستسهم حسب الإمكان من زاويتين:

الزاوية الأولى: محاولة تقديم ملامح عامة لمشروع نهضوي يكون بمثابة إطار مرجعي.

الزاوية الثانية: تقديم خارطة طريق أو برنامج آنيٍّ يتضمن منطلقات فكرية وإجرائية.

الزاوية الأولى، ملامح الـمـشروع الـنهضوي:

ملامح هذا المشروع في أغلبها تمثل الإطار المرجعي للراغبين في تقديم إسهامات برامجية للخروج من أسار التخلف.

علما بأنني لا أدعي أن هذه الملامح صادرة عني 100%، وإنما هي جهود لمفكرين في أوراق عمل وندوات استغرقت الكثير من وقتهم وجهودهم، ودوري فيها الجمع والتنسيق بتصرف.

الجهد الذي بذلته كان في المشروع الثاني، فقد استلهمته من نجاحات بعض الشعوب. وكذلك جذور الشتات العربي فهي استخلاصاتي من قراءات طويلة، وقد عملت على تقريبها في الأبعاد الأربعة التالية:

1- الفكرية والثقافية.
2- الاستبداد الداخلي بأنواعه الثلاثة: السياسي والديني والاجتماعي.
3- غياب وعي الذات الحضارية.
4- البعد الخارجي المتكئ على البعد الثالث والمغذي له في آن.

ومن خلال التأمل في جذور الشتات الآنفة الذكر، وجدنا أن ملامح المشروع ــ الإطار المرجعي لا بد أن يكون نابعا من الذات، مستفيداً من كل جديد متلائمٍ مع هويتنا وثقافتنا وقيمنا، مستندا إلى سنن الله في النفس والاجتماع.

 

ملامح المشروع المرجعي:

1- العودة إلى النظام المعرفي المفتوح كما عرفته الخبرة الحضارية الإسلاميةأيام ازدهارها، وسنوضح هذا في الحلقة القادمة بعونه سبحانه.

2- العودة إلى الذات هوية وحضارة.

3- الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

4- اعتماد مصادرنا المنهجية وتطويرها وفق الأسس البحثية الجديدة حتى نتمكن من تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية بدقة.

5- ترسيخ الوحدة الوطنية من أفق القواسم المشتركة، أي الرقعة الجغرافية، مستلهمين وثيقة المدينة وتجاوز الثنائيات الدخيلة، كونها وسيلة انسلاخ وتمزيق لا تخدم نهضة، مثل الإسلام والليبرالية... إلخ الثنائيات الوافدة.

6- تفجير مكامن الطاقة والقوة العربية في كل اتجاه بما يخدم التطلعات.

7- السعي الحثيث نحو ترسيخ السلام العادل نظرية وسلوكا.

8- فهم السياسة في إطار منظومة قيمنا ومنهجنا التشريعي ذي الأصول المعصومة.

9- تفعيل القواعد العادلة في الفانون الدولي، والاستفادة منها فيما يخدم مصالحنا وقضايانا العادلة.

10- تنمية القيادة الحضارية الفاعلة في إطار منهجيتنا وقيمنا الحضارية.

11- تحرير محاضن الفكر ماليا أي مأسسة الوقف مجتمعيا بعيدا عن يد السلطات.

12- فهم جذور الصراع العربي الصهيوني وكشف الأيادي الخفية وكيفية مواجهتها وصولا إلى مرحلة الاستعصاء.

13- حضور قضايانا العربية، القضية الفلسطينية في طليعة المشروع وفي ثنايا تطبيقه، وتحديد جوانب الدعم.

14- المرونة والمرحلية في إطار فقه الأولويات وفاعلية السنن عند معالجة الظواهر وإعادة البناء اجتماعيا وسياسيا.

هذه ملامح المشروع، وهي بحاجة إلى إثراء وتفكيك وتحليل وبلورة برامج عملية من خلالها.

 

الزاوية الثانية، ملامح المشروع العملي الآني:

 أولا، حدود المشروع:

أعني حصر المشروع في حدود (قُطْرٍ) محدد، كي نضمن النجاح بعيدا عن التهريج الذي عاشته أمتنا خلال عقود مضت، فكان صخبا إعلاميا تخشَّبتْ لغتُه، وكسدت بضاعتُه، وبَهَتت أهدافُه، فأنتج مزيدا من الشتات والتمزق.

والمقصود هنا: تحديد المشروع لآفاق أوجه التعاون العربي العربي دون أي استفزاز.
      
ثانيا، مقضيات المشروع:

قيام كتلة تاريخية ينضوي فيها كل المفكرين من كل الأطياف والمشارب من أبناء القُطر ومن الوطن العربي.

هدف الكتلة: دعم المشروع وتسديده، والدفع به نحو التطبيق والتقييم المواكب.

ثالثا، الهدف العام للمشروع:
 
يتمحور المشروع الآني حول هدف واحد هو: الولاء للأمة واحترام إرادتها.

هذا الهدف المحوري يجب ترسيخة فكريا وثقافيا وتربويا وإجرائيا وعمليا، والحفاظ عليه ورفض أي مساس به أو الانحراف بوجهته مهما كانت الظروف، ذلك أن بقية أهداف المشروع، هي بمثابة تفريعات وإجراءات عملية تجسيدا وتنفيذا للهدف المحوري، كون الهدف المحوري الآنف هدفه استعادة عافية المجتمع، وإعادة الشرعية السياسية إليه كما نص على ذلك كتابنا الخالد ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

  

الأهداف الإجرائية:

1ــ إطلاق الحريات العامة للأمة، كون هذا التطبيق العملي كفيل بتفحير الطاقات، كما أثبتت التجارب أن الحرية هي المعراج السريع لأي نهوض حضاري عالميا.

2ــ تحديد المدة الزمنية لفترة الحكم بصيغة صارمة لا تقبل التأويل.

3ــ اذا استجد طارئ لا بد من استفتاء شعبي وتقدير الضرورة بقدرها.

4 ــ وجوب تحديد صلاحيات الحاكم إلى أضيق نطاق بما في ذلك المال العام.

5ــ النزول عند إرادة الأمة في احتكامها إلى القانون الذي يعكس عقيدتها وهويتها الحضارية، حتى ينسجم المجتمع مع القانون والنظام السياسي.

6ــ تعقيد اتخاذ القرار المتصل بالشرعية السياسية وما يتصل بها مما سبق ذكره وغيره، حتي لا يفاجأ الشعب بخلع العداد والتوريث العربي داخل النظام الجمهوري، وذلك من خلال تعدد مصادر صناعة القرار بدءًا من مراكز البحوث والدراسات والتدريب والشركات الصناعية، وانتهاء بالبرلمان والمجلس الاستشاري، على أن يكون المجلسان منتخبَيْن.

7ــ النص دستوريا على المغايرة بين السلطة التنفيذية والبرلمان، تجنبا لمشكلة الأغلبية الكسيحة، فتكون السلطة التنفيذية من حزب والبرلمان والمجلس الاستشاري من أحزاب أخرى.

8ــ العناية العظمى بمدخلات التعليم، وترسيخ ثقافة الولاء لله والولاء للأمة واحترام إرادتها، والسعي للتطبيق العملي للعلوم الطبيعية.

9ــ إيلاء البحث العلمي عناية خاصة، وإقامة مراكز البحوث والتدريب والدراسات وفقا لما توصل إليه العالم في هذا الصدد، وتقديم الدعم الكافي وإشراك القطاع الخاص في تقديم الدعم.

10- دعم وتشجيع وحماية الوقف الخيري الذي يخدم البحث العلمي.

11ــ إشراك ذوي الخبرات والتجارب العلمية من رجالات الدولة وعلماء الجامعات والمتفرغين والمتقاعدين، وتوجيههم إلى مراكز البحوث والدراسات والتدريب.

12ــ إقامة مجتمع مدني بكل صوره وأشكاله من أحزاب ونقابات منظمات مجتمع مدني ومجتمع أهلي.

 13ــ التداول العملي الشوروي، وإصدار قانون ينص على أن تكون رئاسة منظمات المجتمع المدني سنة واحدة، وفتح التنافس على المراكز القيادية في المجتمع المدني تجديداً للدماء فيه، كون هذا الإجراء كفيل بتنشيط فاعلية المجتمع المدني، ونشر الوعي المجتمعي عمليا، والوقوف بصرامة في وجه أي انتهاك لأي حق من حقوق الأمة.

14- ترسيخ ثقافة الاستثمار وتشجيع الرأسمال المحلي والأجنبي وفقا لأفضل ما توصل إليه العالم من تنظيمات في هذا الصدد، مع مراعاة خصوصيات الواقع المعيش، وتحت إشراف الدولة.

 15ــ تحرير الاقتصاد شريطة أن تكون الدولة مشرفة، واتخاذ الإجراءات الصارمة ضد المساس بحقوق وممتلكات الأمة حكومة وشعبا.

16ــ إقامة الشركات المساهمة شعبيا والقطاع المختلط، على أن يكون الدور الرقابي للحكومة صارما.

17ــ إحلال التأمين الشامل للمواطن صحيا واجتماعيا بما في ذلك الكوارث، كي يلمس المواطن الأثر المباشر، كونه حصل على أهم الحقوق ومن ثم يتفاعل دفاعا عن المشروع.

18- استقلالية القضاء وذلك أن يتم تعيين القضاة من النادي القضائي، وبدون هذا لن تحمى الحقوق.

19ــ حرية الإعلام شريطة أن يكون هناك ميثاق شرف للإعلام.

20- مراعاة البعد الخارجي عربيا ودوليا، وعدم الانجرار لأي عمل يتنافى مع التنمية والسلم المجتمعي.

21ــ تحديد آفاق التعاون ومجالاته عربيا ودوليا.

تلك هي أبرز ملامح المشروع النهضوي الآني.

نلتقي مع المهلكة الثالثة وهي التشبث الأعمى بالتراث.