الخميس 18-04-2024 18:13:15 م : 9 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

مدنية الدولة..!

الخميس 11 أكتوبر-تشرين الأول 2018 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت – خاص/ عبدالعزيز العسالي



 ثنائيةٌ غريبة.. الصيغة شاعت لدى اغلبية الكُتّاب ـ إسلاميين وغير اسلاميين ومستقلين, متمثلة في صيغة تفيد انه تساؤل مفاده: كيف نوفق بين:
ــ الاسلام والفلسفة؟
ــ الاسلام والديمقراطية؟
ــ الاسلام والدولة المدنية؟
ــ الإسلام والليبرالية؟
ــ الاسلام والمواطنة؟
ــ الاسلام والحرية؟
ــ الاسلام والتعددية السياسية?
الاسلام دين ودولة.. الخ...الثنائيات؟


فهل طرح السؤال بالصيغة الآنفة مقبول من الناحية العقدية والفلسفية؟
الجواب: النقد الموجّه لهذه الثنائية وجدناه صادرا عن عقليتين فلسفيتين؛ الشخصية الاولى: هو فيلسوف الاجتماع السياسي ــ أ .د. محمد عابد الجابري -رحمه الله, استاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية. أما توجهه الفكري فهو اشتراكي شغل عضوية المكتب السياسي للحزب طيلة ثلاثة عقود، حسب قوله في كتابه "في غمار السياسة".
الشخصية الثانية هو: أ. د . طه عبد الرحمن أستاذ الفلسفة الشرقية في جامعة السربون, وتوجهه الفكري ذو نزعة روحانية صوفية كما وضحها بتوسع في كتابه روح الدين.
 هذا الفيلسوف رفض مقولة الإسلام دين ودنيا او دين ودولة; معللا ان هذا غير وارد في التشريع الإسلامي, انما هو تعبير وليد الصراع الحضاري بين حضارة الإسلام والحضارة الغازية!
باختصار: الفيلسوفان مختلفان في توجههما الفكري والسياسي.


الشيء الملفت لنظر المفكرين هو:
1ــ اتفاق العقليتين الفلسفيتين حول زيف صيغة الثنائية على النحو الذي أوردناه.
نعم اتفق الفيلسوفان رغم اختلاف مشربيهما فكريا وسياسيا!
2ــ اغلب الكتاب إسلاميين وغير إسلاميين ومستقلين لم ينتبهوا لهذه الصيغة التي وصفها د الجابري قائلا: هذا سؤال زائف; لأن هذه الصياغة جعلت الاسلام والفكر الوضعي خطين متوازيين, وهنا مكمن الخطأ; ذلك ان الإسلام وحي سماوي؛ اي مُثُلٌ عليا والفكر الوضعي قادم من صراعات الواقع مشحونا بمضامين فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية; الذي يعني ضعف وخطأ المقارنةْ!
مؤكداً أن الصواب هو أن يكون السؤال على النحو التالي:
ما حكم الاسلام في الديمقراطية؟
ـ ـ ـ ـ ـ في الفلسفة؟
اوـ ـ ـ ـ ـ ـ في الدولة المدنية؟.. الخ.



 نعم قد يتفق النظر العقلي والمُثُلُ العليا ذات المصادر والمقاصد المعصومة في الهدف العام, لكن الاختلاف حتما وارد في تشخيص القضايا واختلاف الوسائل; الأمر الذي يعني الاختلاف في اجتراح المعالجات, وترتيب اولويات المعالجات بدءًا من قوله سبحانه: (.... حتى يغيروا ما بأنفسهم...) الخ.. قضايا الحياة!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: أن الفكر الوضعي يختلف جدا جدا; ذلك ان الذاتية لدى المفكر ومعتقده وتوجهه السياسي وسياقه الاجتماعي ثقافةً واقتصادا, ودرجة وعي المجتمع, كل ذلك ينعكس على عطاء المفكر في معالجته لقضايا واقعه تشخيصا ومعالجة، وهذا واضح لكل من يطالع ما قدمه فلاسفة التنظير في اوروبا في عصر النهضة!
 وشيء آخر هو: أن المفكر قد يقبل شيئا من مفكر آخر, ويرفض أشياء, وهذا ما لا ينطبق على المُثُل الإسلامية ذات المصدر المقدس, المجرد عن الزمان والمكان ,
فشتان بين المثل العليا وبين الفكر المشحون بمضامين فكرية وثقافية وقيم اجتماعية واقتصادية يحكمها منطق الصراع المادي فقط!
 وإذَنْ.. وعليه: فالإسلام هو مرجعية معيارية يُحاكَمُ إليه الفكر الوضعي.
 ذلكم هو مقصود رؤية الفيلسوفين الجابري, ود. طه عبدالرحمن اوردناها بتصرف.



الجدير ذكره ان رؤية الجابري وطه حول "قدسية المُثُل الاسلامية" هي محل اتفاق لدى فلاسفة الفكر الوضعي بغض النظر عن اختلافهم حول صلاحية تعاليم الاسلام, فالمهم هو ان الاتفاق بينهم قائم على قدسية المصدر الاسلامي.
وانطلاقا من هذه المسلّمة فاننا نعيد صياغة السؤال حول عنوان موضوعنا هذا المتمثل في عنوان "مدنية الدولة"، وموقف الاسلام منها فنقول:
ما حكم الاسلام في الدولة المدنية؟
ولكي نقترب من الجواب على هذا السؤال نجد ان الاسلام يمتلك منهجا رصينا; الامر الذي يحتم علينا اولاً إعمال النظر في تعريف الدولة المدنية ومفهومها؛ فالمنهج الاسلامي يضع قاعدة منهجية تنص حرفيا أن "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، وإذَنْ: ما هي الدولة المدنية؟
 وقبل الجواب أود القول إننا أمام سؤال أكثر دقة نجده يفرض نفسه بصورة اقرب الى المنهج الاسلامي.
هذا السؤال قادم من تأمل عميق وطويل أخذ من حياة كاتب هذه السطور قرابة سنتين، و بعد طول تأمل وجدت ان السؤال الأكثر دقة هو:
هل للدولة المدنية تعريف جامع مانع اتفق عليه فلاسفة الفكر الوضعي؟
الجواب: الحق يقال انني رغم حرصي الشديد وثقتي التامة اني سأجد تعريفا, كيف لا والضجيج حول الدولة المدنية قد ملأ الدنيا عقود عدة، فخابت ثقتي، لكن حرصي ظل، فلم ادخر وسعا في البحث، ومع حرصي واستقصائي لما وقع تحت نظري:
 فإنني –للأسف- لم اجد تعريفا للدولة المدنية بدءًا من افلاطون وارسطو مرورا بفلاسفة عصر الانوار الاوروبي ــ كانط روسو ومونتسكيو و و وصولا الى الفيلسوف الانجليزي إريك هوبزباوم مؤرخ للثورة الفرنسية ومؤرخ القرن العشرين المتوفى عام2012م في كتابه "عصر التطرفات"، وكذا الفيلسوف المؤرخ
 جون إهرنبرغ صاحب كتاب "المجتمع المدني..التاريخ النقدي للفكرة"، وكلا الكتابين صادران عن المنظمة العربية للترجمة والعلوم، وكتاب ثالث هو "نماذج الديمقراطية" لديفيدهيلد.
هذه الكتب الثلاثة بالذات اعتنت بتتبع نشوء الفكر المدني والدولة المدنية والديمقراطية والصراعات وسطوة الممانعة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي لاقاها التوجه المدني في اروبا..


 اكرر القول: توقفت طويلا ليس عند التعريف فقط وانما صرفت جهدا اكثر تتبعت من خلاله المفردات ذات الصلة بتعريف الدولة المدنية فلم اجد سوى كلاما سائلاً لا حدود ولا ضوابط له, كما لم أنني لم اجد تعريفا ولوا فرديا فضلا عن تعريف متفق عليه!
ثانيا: ظل حرصي شديدا فلم اقتنع بما توصلت اليه في حدود مراجعي, لكني
لجأت الى التواصل بذوي التخصص في العلوم السياسية انطلاقا من الآية:
( .. وفوق كل ذي علم عليم)، وكان الأمل يحدوني بقوة انني سأجد تعريفا لدى حملة درجة أ/ د .في العلوم السياسية, لكن فوجئت بأنهم يحيلوني على ذات المراجع وفي ذات الوقت أكد الكثير منهم انه لا يوجد تعريف!
لقد كان اثر الصدمة كبيرا، فابتلعت مرارتي وتساءلت كيف ساغ للعقلية العربية التي تشربت الثقافة الوافدة مصارعةً حولها ليل نهار مثيرةً لمعارك لا يخمد لها أوار, طيلة سبعة عقود على الأقل حول قضية ليس لها تعريف?!
اعتذر للقارئ.. أتمنى عليه ان يحاول مساعدة المثقف العربي على ايجاد حل لهذا الإشكال المنهجي؛ فكرة عائمة تائهة اسمها الدولة المدنية طافت المشرق والمغرب العربي وفي ذات الوقت ليس لها تعريف؟
واذن: علامَ يصارع الفكر العربي الذي يمم وجهه منبهرا شطر الحضارة الغربية؟ هلّا جئتمونا بتعريف الدولة المدنية حتى نقترب من مفهومة ودلالته?
ثم تساءلت: يا ترى هل القارئ سيصدق انه لا يوجد تعريف للدولة المدنية؟
ثم ما الحل الذي يجعلنا في نظر القارئ اننا منصفون وموضوعيون؟
وحرصا على تقديم المعلومة للقارئ قررت ان أتجه الى "مفهوم الدولة المدنية"


 حتى نقدم شيئا للقارئ فأضفنا المحور التالي:
ثالثا: ما مفهوم الدولة المدنية؟
الجواب: مفهوم الدولة المدنية -كمفهوم- موجود, ولكن هل اتفق فلاسفة الفكر الاوروبي على مفهوم محدد؟
 يمكننا القول: ربما أن كثافة الصراع وتشابكه وتداخل المفاهيم القادمة من سطوة ثقافة الممانعة السائرة في فلك الاستبداد السياسي والديني والاجتماعي, والعكس؛ كل ذلك انعكس بقوة على مفهوم الدولة المدنية, فكثرت المفاهيم فانعكست هذه الكثرة توسعا في الدلالات, فجاء مفهوم الدولة المدنية يحمل ابعادا مختلفة; علما أن هذه الأبعاد لم تولد في وقت واحد وانما جاءت وليدة تطورات للصراع في ذلك الواقع وتلك الظروف, ثم تحولت كضوابط ثم تحولت الضوابط الى مبادئ ذهنية ثم مبادئ إجرائية دستورية وقانونية مختلفة متسعة الصيغ والدلالات!
حاولت إيراد أهم مفاهيم الدولة المدنية حريصا على الإيجاز غير المخل, فدمجت بعض المفردات الجديدة ضمن الصيغ التي اوردناها; متجنبا التكرار خشية الإطالة وذلك على النحو التالي:
1ــ مفهوم الدولة المدنية عند الفيلسوف الالماني (كانط) حيث قال:
الدولة المدنية تقوم على تقييد حرية الآخرين, والتزام التعايش, والحق محميٌ بواسطة تشريع حقيقي يتقيد بهذا المبدأ, فيكون شعبا بأكمله يمكنه العيش في ظله; كونهم مواطنين في ظل نظام المساواة في دولة تقوم على القانون, وهذا ما نسميه دولة مدنية! (المرجع: المجتمع المدني: جون اهرنبرغ,ص230).
هذه المفهوم وليد عصر الانوار في اوروبا!


 نلاحظ انه قد حصر مفهوم الدولة المدنية انها تحتكم الى قانون حقيقي، غير انه لم يذكر تفاصيل اخرى!
لاشك ان التفاصيل المتصلة بمفهوم الدولة المدنية ــ كفصل السلطات والانتخابات وكل اللوازم يمكننا القول انها مبادئ اما حاضرة في الذهن او أنها مكتوبة لكن في اماكن اخرى من كتابات (كانط).
2 ــ الدولة المدنية تعني: الشعب يختار حكامه.
3 ــ الدولة المدنية هي التي لا يحكمها العسكر.
4 ــ الدولة المدنية هي التي لا يتحكم فيها البابا.
5ــ الدولة المدنية هي التي لا يحكمها ملك او فرد او قبيلة او عشيرة.
6ــ الدولة المدنية يكون فيها دستور وقانون مكتوبان صادران عن الشعب سواء بطريقة مباشرة او غير مباشرة.
7 ــ الدولة المدنية معناها الفصل بين السلطات.
8 ــ الدولة المدنية السيادة فيها للشعب.
9ــ الدولة المدنية يحكمها دستور.
10ــ الدولة المدنية تعني: البرلمان هو صاحب القرار.
11 ــ الدولة المدنية يكون شعبها مراقبا للحاكم.
12 ــ الدولة المدنية جيشها يحمي الدستور.
13 ــ الدولة المدنية هي حرية الصحافة.
14ــ الدولة المدنية هي المجتمع المدني وحيث لا مجتمع مدني فلا دولة مدنية.
15ــ الدولة المدنية يقابلها الهمجية, وهذا المفهوم يعود سياقه الى العصر الروماني.
16ــ المشاركة الديمقراطية من لوازمها ان تكون سياستها واضحة امام المواطنين, ومشاركتهم فيها عالية ومتساوية, وصوتهم مسموع لدى المسؤولين; كي يولونها الاهتمام, ولا ينتهك المثال الديمقراطي؛ إذ من الضروري ان تكون الصرخة اقوى. هذه استخلاصات .. (المرجع: المجتمع المدني, جون إهرنبرغ ص,443 ــ 464 وغيرها).
17ــ الميثاق الفرنسي الذي ظهر مع فجر الثورة الفرنسية نصت مادته الأولى على المساواة "الناس يولدون احرارا ويعيشون متساوين في ظل القانون"،
لكن هذا لا يعني حبا في الديمقراطية ــ هذا كلام المؤرخ ــ بدليل ان المادة نصت على وجود التمايزات الاجتماعية اذا كان في ذلك اي من التمايزات خدمة للنفع العام! (المرجع:عصر الثورة, اريك هوبزباوم, ص135ــ 136).
 تكمله:
18ــ ...فالبرحوازي الكلاسيكي من يوم انفجار الثورة الفرنسية 1789م وحتى عام 1848, اي طيلة 59 عاما لم يكن ديمقراطيا, نعم كان يؤمن بالدستور بدون علمانية, وضمانات المشروعات الخاصة وحكومة تقوم على دافعي الضرائب واصحاب الأملاك؛ اي مُلاك الارض؛ اي ما يسمى الاقتصاد الزراعي. (نفس المرجع والصفحة).



هذه أهم وابرز مفاهيم الدولة المدنية.
وهي كما نلاحظ انها متأخرة عن المفهوم الذي صاغه (كانط), ثم تحولت الى مبادئ, بعضها يحتويها الدستور وبعضها يحتويها القانون.
19ــ جون إهرنبرغ مؤلف كتاب "المجتمع المدني" يرى ان الشرط الوحيد لقيام دولة مدنيه متعلق بوظيفتها وهي حماية المؤسسات المالية ذات الانتاج الكبير, وبدون هذا فلا يكون ثمة ضرورة لازمة لقيام حكومة مدنية! (مرجع سابق,ص207).

20ــ ميكيا فيللي يرى ان "الدولة المدنية هي الجمهورية المدنية"! (نفس المرجع ص444).

خامسا: استنتاج:
أ/ مما سبق يمكننا استخلاص أو صياغة مفهوم الدولة المدنية على النحو التالي:
(الشعب مالك حريته)، وفي ذات الوقت هو صاحب المصلحة الحقيقية, فحرية الشعب تخوله حق الولاية على ذاته; كونه صاحب المصلحة, وينبني على الولاية حق اختيار وكلاء عنه لخدمته؛ برلمانا وحكومة وقضاء, واختيار النظام الذي يراه ضمانا لحماية مصالحه وحقوقه سياسيا واداريا ورقابيا, كما يمنحه حق الاحتكام الى القانون الذي يريد; لينسجم المجتمع مع القانون وصولا الى المساواة.
ب/ يلاحظ من خلال الأدبيات والممارسات في الدول التي تعيش الدولة المدنية فلسفة وتطبيقا ان الدولة المدنية موديلات مختلفة!
ج/ يلاحظ ان مفهوم الدولة المدنية من خلال الصياغات الآنفة ان الصراع يدور حول قضية دنيوية.
د/ يلاحظ ان منح الشعب السيادة المطلقة كان في مواجهة الحكم الفردي المدعوم بكهنوت الكنيسة, وهذا يعني فصل الدين عن الحياة. في تطبيق فرنسا, وفصل الدين عن السياسة في مدنيات اوروبية اخرى.
هــ / الإشكال الوارد في منح السيادة المطلقة للشعب يمكن محاكمته الى المبدأ الاول الذي هو (حرية الشعب)؛ فإذا كان الشعب هو صاحب المصلحة الحقيقية فإن من حقه ان يختار القانون المنسجم مع عقيدته وهويته الحضارية.

  حكم الاسلام في مدنية الدولة:
اولا: مفرد (مدينة) في الاستعمال القرآني:
ــ من المعلوم أن مكة حاضرة اقتصادية ودينية واجتماعية ذات موروث عريق يتصل بأبي الأنبياء إبراهيم (ع), ومع هذه العراقة نجد أن القرآن سماها (قرية)!
(وكأين من قرية هي أشد من قريتك التي أخرجتك..)
ــ أيضا من المعلوم ان يثرب هي مجموعة خيام من شعر وحريد النخل وفي افضل الحالات بيوت من الطين، وهذه البيوت منتشرة على ضفاف وادي ــ سائلة ــ وهو وادي موبوء, ومع ذلك نجد القرآن أطلق على هذا التجمع البسيط في سكنه مصطلح (المدينة)!
( ما كان لأهل المدينة...) التوبة. (يقولون لئن رجعنا الى المدينة...) المنافقون.
فهل جاء ت التسمية القرآنية اعتباطا او جريا مع العرف؟
الجواب: لا اعتباطا ولا مجاراة للعرف; لأن العرف هو يثرب.
وعليه: فإن اطلاق مصطلح "المدينة" على ريف يثرب جاء من مواصفات لا علاقة لها بشكل المباني والأرصفة والشوارع, وانما جاء من مواصفات ذات صلة بقيم انسانية وحضارية واجتماعية, اولها وابرزها قيمة التعدد والتعايش. هذه القيمة نابعة من أرضية الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة!
ثانيا: يلاحظ هذا في دستور المدينة المشهور بوثيقة المدينة, حيث تجلت القيم الحضارية اعتقادا وإجراءً قانونيا وسلوكا!
واذا اردنا ان نقترب اكثر لنقرأ مابين سطور دستور المدينة سنجد كل المضامين التي اوردناها في مفهوم الدولة المدنية آنفا وذلك على النحو التالي:
1ــ الرسول لم يذهب الى المدينة الا ببيعة صريحة كما هو معروف في السيرة واشترك في البيعة الجنسان، ولم يقل انا رسول اختارني الله.. نعم اختاره للرسالة وهذا ليس محل النزاع, وانما حديثنا عن قيمة انتماء سكني في حيز جغرافي محدد وهذا مضمون المواطنة!
2ــ اذا كان المسلمون مؤمنين برسالة محمد فإن هذا لا يعطيهم التفرد بالحق بالبيعة والحماية داخل المدينة; ذلك ان هناك قبائل وعشائر غير مسلمين ولكنهم ينتمون الي هذا الحيز الجغرافي ــ لهم حق انتماء المواطنة; الأمر الذي يعني أن الحرية والمساواة مكفولة فطريا للجميع انطلاقا من مبدأ الكرامة (ولقدم كرمنا بني آدم...).
3ــ تم تجسيد هذه القيمة الإنسانية إجرائيا وسلوكيا في دستور المدينة!
4ــ اذا تأملنا بعضا من نصوص دستور المدينة سنجد مثلا:
"بنو الحارث امة من اليهود يتعاقلون فيما بينهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"!
هذا النص تضمنه دستور المدينة لكل فصائل وبطون وعشائر المدينة من مسلمين ــ مهاجرين وانصار، أوس وخزرج, مشركين ويهودا- معطيا كل شريحة ممن سبق حقوقها الكاملة في الاحتكام الى عُرفِهِ وثقافته!
5ــ الأهم مما سبق هو سؤال افتراضي يقول السؤال: كيف رضي اليهود والمشركون بمرجعية النبي (ص) عند الاختلاف؟
والجواب:
أ/ أن الرسول (ص) لم يكتب الدستور وإنما بدأ بالتوعية حوله لشهور حتى تم الاقتناع مبدئيا بكتابة هذه الوثيقة.
ب/ اوكل الرسول (ص) كتابة الدستور لكل شريحة كونها صاحبة المصلحة الحقيقية فتكتب ما تراه يحمي حقوقها!
ج/ ظل التشاور والكتابة جاريين لفترة شهور، وهذا تضمن بمعيار ذلك اليوم مفهوم الاستفتاء، بل اكبر من ذلك وهو المساواة في صياغة القانون!
د/ يرى بعض المستشرقين أن التوقيع النهائي على دستور المدينة كان في السنة الخامسة للهجرة, بدليل أن ثلاث قبائل من اليهود لم يتضمنها الدستور وهن
بني النظير، وبني قينقاع، وبني قريظة، وهذا يعني طول التعاطي مع الصياغة والاستفتاء بكل شفافية وحرية!
وعليه:
نصل إلى إجابة السؤال القائل: كيف رضي اليهود والمشركون بالمرجعية العليا المتمثل بالله والرسول (ص)?
فيأتي الجوابـ: بما أن الجميع حصلوا على المدة الكافية للتعاطي مع صياغة الحقوق وضمانتها، وكان الرسول (ص) خير معوان لهذا التعاطي القيمي الحضاري فلاشك أن الرسول (ص) حاز على ثقة الجميع بأن يكون هو المرجعية!

 


الخلاصة:
ــ القرآن دستور المؤمنين مهاجرين وأنصار.
 ــ الوثيقة دستور المواطنين عموما مسلمين وغير مسلمين!
ــ تجسدت القيم الإنسانية والحضارية التالية على الواقع:
ــ الكرامة، الحرية، المساواة، حق الأمة في ولايتها على نفسها، حق الاستفتاء، حق الاشتراك المباشر في صياغة القوانين، المواطنة، الانتماء الى الحيز الجغرافي، التعايش، حق الاحتكام كل الى عرفه ومذهبه، النظام الإداري المتمثل في النظام الفيدرالي المصغر، كل شريحة امة مستقلة، الدفاع المشترك عن الدولة.

 


 أخيراً: ما العمل?
ــ مطلوب من المجتمع ان يكافح في سبيل الحريات العامة قبل كل شيء, فهي الحامل لكافة الحقوق، وهي معراج النهوض الحضاري في كل المجتمعات.
ـــ اذا تحققت الحريات العامة فلا خوف من العلمنة الدستورية والقانونية.
ــ على المجتمع المسلم أن يتأسى برسول الإسلام في تجسيد القيم والاحتكام الى السنن في النفس والاجتماع التي تخدم مصلحة الشعب.
  


حكم الإسلام في مدنية الدولة:
ــ إذا انطلقنا من هذا التصور فإننا نكون قد عرفنا حكم الإسلام في المدنية انها من الإسلام.
 ــ اذا سلكنا غير هذا الخط فإننا سنسلك 100 عام أخرى وسنصل الى اللا شيء, والشاهد هو القرن العشرون.
نلتقي في الحلقة القادمة حول الكفر بالإنسانية وسنن الاجتماع.

كلمات دالّة

#الدولة_المدنية