الخميس 28-03-2024 11:39:46 ص : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

جمال الشرعبي..قربان الصحافة على مذبح الثورة

الإثنين 20 مارس - آذار 2017 الساعة 07 مساءً / التجمع اليمني للإصلاح - خاص - توفيق السامعي

   تتردد أناملي من الكتابة حول الشهيد جمال الشرعبي، الذي يصادف اليوم الذكرى السادسة لاستشهاده، خوفاً من أن لا نفيه حقه، وهو الذي جاد بأغلى ما يملك في هذه الحياة وهي نفسه التي بين جنبيه، تاركاً أطفاله وإخوانه (زملاءه) متلفعين في طيف من الذكريات الجميلة والحميمة التي لا تكاد تفارقهم ليس كلما تذكروا الثورة وجمعة الكرامة بل في كل لحظة، فمثله لا يمكن أن تمحى ذكرياته بسهولة فهو الحاضر الذي لا يغيب.

خرج الشهيد الصحفي جمال الشرعبي، في ثورة الشباب تحدوه الطموح والآمال العريضة في الغد الأفضل الذي خرج ينشده مع ملايين من شباب اليمن..غداً يجد فيه اليمني كرامته، وعيشه، ورفاهيته، وعدالته ومساواته، وحريته وخلاصه من التسلط المناطقي والأسري.

قبل انطلاقة ثورة الشباب بأسابيع فقط كنا نتجاذب أطراف الحديث في تلك الآمال والطموحات والأحلام مع زملاء آخرين ونحن مجتمعين في منزل الزميل طلال جامل، وكيف كان يتحدث بخفة وصفاء قلب ومرح عن عبده الجندي الذي يمتدح طيبته واستخدام صالح له في بعض التصريحات، وكان حينها موظفاً عنده في اللجنة العليا للانتخابات، شاء القدر أن يكون عبده الجندي فيما بعد الناطق الرسمي للمؤتمر الشعبي العام ونائب وزير الإعلام المتصدر للحديث في وسائل الإعلام مدافعاً ومنافحاً عن نظام صالح وهو الناصري المعتق الذي رمته الرياح إلى كنف علي صالح..ليتحدث الجندي فيما بعد أن سقوط الشهداء عبارة عن عملية تمثيل يجيدها المشترك وأن الدماء المتدفقة من أجسادهم إنما هي صبغة حمراء يخدعون بها العالم عن طريق وسائل الإعلام، وشتان بين الرجلين.

تحولت آمالنا وأحلامنا كشباب في الثورة إلى برامج واقعية وعملية ميدانية، وانطلقنا في الثورة منذ الهبة الشعبية التي جمعتنا صبيحة الثالث من فبراير 2011 جوار جامعة صنعاء.

في يوم الثاني والعشرين من فبراير يوم نزل اللقاء المشترك بشكل رسمي إلى الساحة ونصب الخيام، كان الوقت ليلاً، والشهيد جمال يصرخ فيّ: "أين أنت يا توفيق أبحث عنك في كل مكان..أنا وأنت معنا عمل سوياً..". كان الأمر أننا كفريق واحد مكلفين في المنفذ الشمالي لساحة التغيير جوار بوابة الفرقة الأولى مدرع للرصد الإعلامي والتصوير لكل ما يستحق التصوير والالتفات إليه، والكتابة عنه.

وكانت اللجان النظامية للساحة في ذلك المنفذ من شباب الإصلاح وغيرهم يقفون صفاً واحداً وجهاً لوجه مع جنود الفرقة وبينهم متران فقط ولا أحد يكلم الآخر.

مررنا والشهيد جمال على اللجان، وقلنا لهم تعارفوا مع الجنود واكسبوا ودهم وعلاقتهم وبادلوهم أكواب الشاي وأزيلوا الوحشة بينكم وبينهم..ثم عمدت إلى صفوف الجنود وتعارفنا وأخبرتهم أننا كنا معهم في نفس معسكر الفرقة، وبدأنا نتجاذب الحديث..ثم عمدت إلى زملاء قدامى لي من الضباط أسألهم: كيف يسير الوضع في الفرقة؟ هل سيقتحمون الساحة؟ هل يتم تعبئة الجنود والتحريض على المتظاهرين؟ وكان هذا السؤال الأخير مفتاح الحل والإجابة عن مستقبل الفرقة..لقد كانت كل إجاباتهم إيجابية؛ فاللواء علي محسن لم يحرضهم وقال لهم في بداية الاعتصام: أنتم ستنزلون فقط لحماية المنشآت العامة ولا تحتكوا بمواطن ولا تشهروا عليهم أسلحتكم..عندها اطمأنت النفس إلى وضع الفرقة ولكن بحذر..يبدو أن اللواء علي محسن كان قد حسم أمره على الانضمام للثورة مبكراً كون الرئيس صالح قد آذاه كثيراً وتربص به ليزيحه من الطريق إما اغتيالاً أو إنهائه سياسياً وعسكرياً.

كان الشهيد جمال يستمع إلي بإصغاء وأنا أتواصل مع بعض ضباط الفرقة، لترتسم في محياه بسمة عريضة، وشرع مع الضابط المكلف من الفرقة في ذلك المكان للعب لعبة الشطرنج، ومنذ تلك اللحظة بنيت علاقة طيبة بين شباب المنفذ ولجان الفرقة من الحماية..كان الشهيد مندفعاً نحو التغيير بقوة ويأمل في اليوم الذي يعلن فيه صالح التنحي عن الحكم كما فعل مبارك، ينظر إلى كل شيء بتفاؤل وثقة منقطعة النظير، وكنا نناوب سوياً حتى الفجر مع تغيير بين بضع ساعات والدخول إلى الخيمة. حدثته ذات ليلة من تلك الليالي حين كانت اللجان تروغ ما بين صالح ومنازل قيادات المشترك والعلماء في 28 فبراير: "ما رأيك لو لجأت القوى السياسية إلى تسوية مع صالح وباعونا في الميدان"؟!

رد بكل ثقة وحزم: "طز فيهم..الآن عرفنا الطريق وسنثور عليهم كما ثرنا على صالح وليذهبوا هم وصالح إلى الجحيم"!

وفي يوم السبت 12 مارس، تعرضت ساحة التغيير أثناء صلاة الفجر إلى هجوم من المنافذ الجنوبية للساحة من قوات الأمن المركزي ومليشيات المؤتمر الشعبي العام، وتحولنا جميعاً من المنافذ الشمالية للجنوبية بكاميراتنا وجماهيرنا، فقد كانت القنابل الغازية تملأ المكان والشباب يتساقطون اختناقاً وبرصاص تلك القوات والبلاطجة ذلك الإسم الذي صار يطلق على مليشيات صالح من يوم اعتداء 28 فبراير.

في تلك الأثناء كان الصحفي الشهيد جمال الشرعبي يصرخ بالشباب مثبتاً إياهم: "يا شباب اصمدوا..يا شباب اثبتوا". ونقلت قناة التلفزة تلك الهجمات وصوت الشهيد جمال وهو يصرخ بالجميع، فقد تحول إلى توجيه معنوي في تلك اللحظات، وكانت كاميرته لا تفارقه، وكذلك أنا إلا في يوم 18 مارس. سقط الشهيد عبدالله الدحان في ذلك اليوم كأحد الحراس العزل لتلك المنافذ، فقد كان شعارنا "ثورتنا ثورة سلمية"، وأصيب أكثر من 50 شاباً بالرصاص الحي والآلاف باختناقات الغازات التي لم تكن معهودة لنا؛ فقد تعرضنا لقنابل مسيلات الدموع من قبل ولم تكن بتلك الصورة من البشاعة والقوة التي كانت تحدثها تلك القنابل الغازية، التي اتضح فيما بعد أننا كنا حقل تجارب لها جربت في صدورنا لأول مرة، ناهيك عن أنها كانت متهية الصلاحية متجاوزة تاريخ الصلاحية بمدة طويلة، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحذر نظام صالح من استخدامها بحق شباب الثورة؛ فهي الدولة التي زودته بها لمحاربة تنظيم القاعدة والجماعات المتطرفة الأخرى وليس الشعب.

في ذلك اليوم سجل شابان من شباب الثورة موقفين متميزين صارا أيقونة للثورة بعد ذلك اليوم؛ أما الأول فهو ذلك الشاب ...السامعي –بحسب وليد العماري القيادي في الساحة، حينما صعد حاجزاً خرسانياً فاتحاً صدره وذراعيه لقوات الأمن المركزي والبلاطجة المهاجمين ولخراطيم المياه والقنابل الغازية، فدفعه تيار الماء بقوة وأسقطه من ذلك الحاجز حتى خلع كتفه، فطارات كل وسائل الإعلام باقتناص تلك الصورة وتصدرت كل وسائل الإعلام.

كان الموقف الثاني للشاب الشهيد أنيس القدسي، وهو يواجه عربة الأمن المركزي المدرعة بيديه ويتصدى لها بقوة وهي تحاول دهس الشباب المدافعين عن الساحة المتصدين للهجوم، ليكتسب من ذلك اليوم الخبرة في التعامل مع تلك المدرعات في شارع الجزائر يوم 17 أبريل وإعطابها، وتكرر الأمر منه في يوم الأربعاء 19 أبريل في جولة عصر لإعطاب مدرعة أخرى إلا أنه ذلك اليوم دفع روحه ثمناً لذلك التصدي ولشجاعته.

كان كل أولئك الشباب المتميزون المتصدرون لتلك الأحداث من قيادات التجمع اليمني للإصلاح، ليضربوا أروح الأمثلة في التضحية والقيادة ولا يختبئون خلف غيرهم، ويتصدروا المشهد فيما بعد، لكن تصدروا هم لتلك الأحداث وبادروا إليها.

بعد تلك الأحداث في يوم السبت 12 مارس، كان الشهيد جمال الشرعبي يلقي علينا التعليمات في المركز الإعلامي للثورة للتعامل مع الأحداث، وأن اقتناص الصورة المناسبة والمعبرة أفضل من التصدر في الساحة للمواجهة؛ كون تلك الصور تعري وتفضح صالح ونظامه للعالم، وكان يحاضر في السلامة المهنية من واقع الحال والميدان، وكان يوجه بالاهتمام بالأماكن الاستراتيجية للمصور لاقتناص اللحظة.

في ذلك اليوم التقطنا الصور المميزة وكنا لا نحتفظ بها لأنفسنا كأرشيف خاص وإنما للمركز الذي يعيد توزيعها على القنوات والصحف والوكالات العالمية، وكانت في اعتقادي من الأخطاء الشخصية الفادحة التي ندمنا عليها وعدم احتفاظ كل منا بأرشيفه الخاص، كون الأرشيف بعد ذلك ضاع، أو ضُيِّع، واحتجنا لصور مختلفة عن الشهيد جمال، لكن لم نجدها لسبب بسيط: أن المصور دائماً يلتقط الصور لغيره ويكون هو المظلوم دائماً والنائي بنفسه عن تلك الصور.

كنا نعاني كثيراً من قلة الصرفة وأحياناً انعدامها تماماً، وكان الواحد منا يبحث كثيراً عن ما يسد تحركه، وأتذكر تلك المعاناة مع الشهيد جمال.

في يوم الخميس ليل الجمعة المشؤومة (جمعة الكرامة)، كنا لا نجد ما نصرف يومها، وكان الشهيد جمال صائماً، لكنه كان حزيناً للوضع، في تلك اللحظة فقط التقطت له صورة فالتفت إلي بغضب لأول مرة أدرك غضبه وحرقته، وقال: لو وقعت تلك الصور بيد مخبري صالح فإننا نكون أهدافاً سهلة له، فأمرني بمحوها على الفور..ويالها من فلتة تمنيت لو لم أمحها؛ لكنني لم أعلم أن تلك اللحظة ستكون آخر اللقاءات.

عند ذلك بدأ يوصي ويشعر باقتراب لحظة الشهادة والوداع، وكأنه قد رآها حلماً، فقال: "يا إخواني..يعلم الله ما يخبئ لنا القدر ونحن أمام نظام ظلوم وغاشم ونتعرض بين لحظة وأخرى للهجوم وقد نستشهد في أية لحظة؛ فإن استشهدت قبلكم أمانتكم أولادي.."!

ساد صمت رهيب في تلك اللحظة وفعلاً بدأت عقولنا بالتنبه لهذا الأمر، إلا أن الهروب من اللحظة يكون سيد الموقف عادة. قلنا له: إن شاء الله لن يكون هناك مما تخاف منه.

في تلك الليلة، وعلى الرغم أن مسكني لا يبعد عن الساحة سوى اثنين كيلومتراً، كانت الليلة الثالثة لا أذهب فيها إلى البيت وأنام في المركز الإعلامي، وبعد أن أنهيت مناوبتي الأولى الساعة الـ12 ليلاً، اتصلت عليه أنني سأذهب إلى البيت، فكلف الزميل فؤاد الوقع للمناوبة بدلاً مني، ثم ذهبت إلى البيت.

كانت هناك حركات مريبة من قبل سيارات مختلفة وخاصة صالون أبيض لاند كروزر وأناس ملثمون يجوبون الشوارع ليلاً من جولة الرقاص إلى جولة 20 إلى جوار الجامعة القديمة إلى شارع هايل، وشارع الزراعة..الأمر ليس كالعادة إذاً!!

في اليوم التالي الساعة العاشرة صباحاً كانت نفس السيارة بزجاجها الملون ومسلحين ملثمين، وشباب المؤتمر في استنفار. كان أحد صعاليك الحارة المجاورة لجولة الرقاص ينبهني أن لا أذهب على الساحة للصلاة ذلك اليوم..سألته لماذا؟!

قال لا تذهب وخلاص..لم أسمتع له، عدت إلى البيت وأخذت سجادتي وابني وذهبنا للصلاة، حاولت المرور من جولة 20، وكان بلاطجة الحارات قد شكلوا حزاماً بشرياً لمنعنا من الدخول للساحة، عدت أدراجي إلى بعض الحارات بين شارعي الدائري وهائل وإذا بالعصابات تشكل أيضاً حزاماً بشرياً لمنع الناس من الذهاب لصلاة الجمعة، رغم معرفتي ببعضهم، إلا أنهم في ذلك اليوم تنكروا لي تماماً وحز في نفسي كثيراً لمنعي من المرور، ثم صعدت إلى شارع هائل والتوجه عبره إلى الساحة. اتصلت بالشهيد جمال، وأبلغت المسؤول الإعلامي أن الأمر مريب وهناك شيء يحضر للساحة، خاصة وبعض البلاطجة ممن أعرفهم شخصياً يحذرونني منذ أسبوع أنه سيحدث شيء قريب يغير من الأمر برمته. كانت الآمال لدينا لا يحدها حد، وكانت التحديات أكبر من الآمال، وقلت له ستجدونا أمامكم وسنرى لمن الغلبة.

أثناء الخطبة حلقت مروحية أكثر من مرة وكأنها تشرف على مسرح الجريمة. أدينا صلاة الجمعة وكنا في صلاة العصر جمعاً، وإذ بجدار الساحة الجنوبي الذي كنا نسميه (جدار الفصل العنصري) يشتعل، والدخان يملأ المكان..كانت ساعة الصفر، وإشارة البدء.

إنهال الرصاص على المصلين من كل جهة، كان قام صالح وأجهزته الأمنية قاموا بتوزيع وغرس المسلحين القناصة في عمارة علي الدبا فوق البنك اليمني للإنشاء والتعمير فرع الجامعة، وعمارة الشعيبي التي تم استئجارها من قبل أجهزة صالح للجنة الشعبية للدفاع عن الوحدة وهي أمام عمارة الدبا وبتنسيق وتنفيذ طارق الرضي مدير مكتب أحمد علي صالح قائد الحرس الجمهوري وبإشراف شخصي من الرئيس المخلوع صالح نفسه، كما كشف ذلك اللواء علي محسن الأحمر، وكذلك في عمارة محمد محسن الأحول الملقب بالبيضاني، محافظ المحويت، وهي أكثر الأماكن تنفيذاً لمجزرة جمعة الكرامة، وكذلك في عمارة صلاح الحسيني وفي عمارة قيد الإنشاء جوار جامع الأنصار لضابط الأمن السياسي عبدالكريم النوار، وفي عمارة رئيس التفتيش القضائي العميد الدكتور عبدالله فروان، وفي عمارة عبدالملك الجبري، وفي عمارة أحمد الحبابي جوار عمارة الخولاني، وفي عمارة جوار بوابة مدرسة أسماء، وتم القبض على صاحبها متلبساً وبيده السلاح (مسدس)، وكنت شاهداً على مطاردته حتى بيته، وتم محاصرة منزله وتركته محاصراً، قال شهود عيان ممن ألقوا القبض عليه إنه قتل ثلاثة من الشباب، ومن مبنى فندق جولة مذبح جوار محطة الوقود، كما أظهرت صور شبكات التلفزة التي غطت أحداث جمعة الكرامة.

كما ألقى الثوار القبض على مسلحين اثنين بالقناصة من عمارة الدبا بعد دخول الشباب إليهما وقتلا من الشباب أثناء ملاحقتهما في سلم العمارة ثلاثة منهم، لكن أحد المسلحين ألقى بنفسه من شرفة العمارة من الطابق الثالث خوفاً من القبض عليه فوقع فوق قالب من الخرسانة الأسمنتية ففلق رأسه، غير أنه لم يمت وتم إسعافه من الشباب للإبقاء عليه حياً كشاهد على المجزرة.

أمام المستشفى الإيراني تماماً في جولة الرقاص، كان الصحفي جمال الشرعبي يقف على الرصيف الأوسط وهو يحاول معرفة مصدر النيران، ويصوب عدسة كاميرته باتجاه الجدار ليصور بها الأحداث، جاءته طلقة نارية في مقدمة الرأس من عينه اليمنى وخرجت من مؤخرة رأسه ناثرة مخه إلى الخارج، فاستشهد على الفور، فكان أول صحفي يسقط شهيداً في الثورة، وباستشهاده أصيب المركز الإعلامي للثورة بفاجعة كبرى تشتتنا بعد الحادثة لأيام، وكأن كل شيء في الساحة كان قد وجم عليه وحزن؛ لأننا كنا ننتظر لحظة ظهوره علينا كما في كل مرة غير أنه لم يفعل هذه المرة، وذهب إلى ربه صابراً محتسباً وذهبت معه في قلبه كل الأمنيات والآمال والأحلام التي كان يحلم بها، لكن من يدرِ لعله فاز بها عند ربه دون أن ندرك نحن بعقولنا القاصرة.

رغم أن الصحفي جمال كان يلقي التعليمات لزملائه الصحفيين المصورين في الليلة الأولى وفي ليلة السبت 12 مارس: أن لا يظهروا إلى أماكن بارزة تظهرهم للاستهداف كون المصورين والصحفيين هم مستهدفون بالدرجة الأولى، إلا أنه في ذلك اليوم خالف هذه التعليمات، ربما فرض الواقع عليه ذلك.

لقد كان جمال الشرعبي يتمتع ببسطة في الجسم ومظهر وسمت وجهه ولحيته الخفيفة تدل على أنه أحد قادة شباب الإصلاح، وإضافة إلى ذلك كان تلفونه لا يتوقف عن الاتصال والمراقبة، كل ذلك ربما جعل قاتليه يستهدفه بشكل متعمد ولم تكن رصاصة طائشة.

 لحظة وقوع الهجوم لم يكن أحد من الصحفيين في المركز الإعلامي موجوداً لأن الوقت وقت صلاة ومن بعده وقت الغداء، ولم يكن جوار المسؤول الإعلامي للمركز سوانا أنا وجمال الشرعبي حاضراً بكاميرته في تلك اللحظة، بعد أن أضعت كاميراتي أو سرقت منا هناك.

عند اشتعال النيران في الجدار كلفه المسؤول بالإسراع صوب الحادث فأسرع، بينما كنت أبحث عن أية كاميرا للتصوير، لكن دون جدوى. قلت اليوم لا حظ لي في التصوير فلجأت إلى إسعاف الجرحى، رمقت الزميلين محمد الصلوي المختطف اليوم لدى المليشيات، وسامي الأشول، جوار الجدار العازل، فأسرعت أليهما نصور ثلاثتنا بكاميرتين، رمقت أحد الشباب في عمارة خلف الجدار فاتصلت به على الفور للتصوير فكنا نتمنى من يصور لنا خلف الجدار يومها لتكون شهادة حية، ولم يخيب ظني، التقط لنا أفضل الصور فوتوغراف وفيديو في تلك الليلة عرضت في كافة القنوات العالمية بعد أن حصرناها على الجزيرة فقط، ثم بعد أيام توالت علينا في المركز الإعلامي الصور من كل مكان، وعرقنا الكثير من الأحداث.

وصل خبر استشهاد جمال للمسؤول الإعلامي، وكنا حوله ولم نصدق الخبر. لقد كان وقع الخبر كالصاعقة على كل من عرف جمال الشرعبي، وهو الذي أوصى في اليوم الأول بأولاده خيراً وكأنه كان يشتم رائحة الشهادة والجنة. لم أصدق حتى رأيت المسؤول الإعلامي يبكي، وأكد لي الخبر بعد ذلك الزميلان سامي الأشول الذي قال أنه استشهد بجانبه وكذلك الزميل صالح الصريمي. ما زلت غير مصدق حتى هرولت نحو المستشفى الميداني ووجدته مضرجاً بدمائه بين عشرات الشهداء الآخرين..لكن صدمتي الأكبر حين رأيت لحظة سقوطه بعد شهرين كان شخص قد صوره دون أن يعلم الجميع فتبرع للمركز بتلك اللقطة ولما رأيته كانت الصدمة الكبرى.

بقينا حوالي 3 أيام لا نقوى على الحراك ولم أذهب إلى الساحة خلالها لأنني كنت أرى طيف الشهيد جمال وصورته في كل زاوية من زوايا الساحة وفي كل خيمة من خيمها.

سقط في هذا اليوم أكثر من 43 شهيداً، منهم 37 شاباً من التجمع اليمني للإصلاح وبعضهم حفاظاً للقرآن الكريم، معظمهم قياديون في التجمع كقادة شُعَب أو مسؤولي فروع وحلقات. وكان الشهيد محمد الثلايا رئيس الدائرة الإعلامية بالتجمع اليمني للإصلاح فرع عمران.

كان الكابوس الأسود المرعب يومها، ولم آخذ عافيتي وأسترد معنوياتي إلا بعد إعلان انهيار النظام بعد ثلاثة أيام حينما أعلن اللواء علي محسن انضمامه والمنطقة الشمالية الغربية للثورة، وتوالي الاستقالات من نظام صالح في كل مكان.