الخميس 25-04-2024 17:10:38 م : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

التحرر الثقافي بين مقاصد التوحيد والصنمية الثقافية (3-3)

الإثنين 23 يوليو-تموز 2018 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص / عبد العزيز العسالي


مستهل..


انتهينا في الحلقة الثانية الى القرار العمري الرشيد, والذي أثمر عدة قضايا استراتيجية في جهات مختلفة منها:
ــ تجسيد مقاصد التوحيد في تحرير الأرواح والأجساد.
ــ تحقيق مقصد العدل مع الله ــ لا شرك أبدا ـ، ومع المجتمع مساواة اجتماعية وعدالة توزيع في الحقوق المالية ــ تحقيق العيش الكريم.
ــ تحقيق ما يسمى اليوم بالتنمية المستدامة والذي يتشدق بها صندوق (القبر الدولي) ليدفن المجتمعات الفقيرة; ذلك أن الفاروق قال للصحابة المعارضين له:
اعملوا شيئا يسع من سيأتي بعدكم, مشيرا إلي الآية:

(والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان)..
متسائلا:
يا ترى لماذا المتأخرون سيدعون للمتقدمين؟ هل دعاؤهم هذا جاء من فراغ؟
ام لان الأولين امتثلوا الآية والتزموها (كي لا يكون دولة بين الأغنياء)؟
ــ لم يسجل التاريخ اعتراضا على قرار عمر الذي حرر المجتمعات من اسلم ومن لم يسلم، وإنما سجل التاريخ اعتراضا على عدم التقسيم للأرض المفتوحة بين الفاتحين, وهذا يعني أن الصحابة كانت قد ترسخت لديهم فكرة الثورة التحررية من وقت مبكر.
بناء دولة العدل ــ( ....ليقوم الناس بالقسط ..)، (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمات الله..).
ــ غير أن من آتاه الله ملكة فقهية يقف مشدوها أزاء فتاوى فقهية صادرة عن معتقدات راسخة لدى أولئك المفتين الذين يقولون القضاء على الرق مخالف للإسلام, وهي ثقافة الغرب فرضها عبر الأمم المتحدة، وبالتالي ينادون حكام بلدانهم بالخروج من الأمم المتحدة وإعادة الرق!
ــ كانت تلك باختصار شديد ــ تجليات مقاصد التوحيد, وثمار الحكم الرشيد!

 

واقــعــنـا الـمـعـيـش
ــ تعيش امة الإسلام منذ قرنين حالات من التيه في كل اتجاه, وكلما حاولت التقدم خطوة تتعثر; كونها تصطدم بأصنام ثقافية غريبة عن مقاصد التوحيد, وروح الإسلام العادلة القادمة من مثل عليا مقدسة اولا, ومعصومة ثانيا.
ــ تصطدم حركة النهوض الإسلامي بصنمية ثقافية على مستوى التصور العقدي, و المنهج, والممارسة!
فالتوحيد ــ في أحسن احواله ــ تم اختزاله بالشعائر التعبدية، وانه لا يجوز صرفها لغير الله، وأهيل التراب على مقاصد التوحيد في الاجتماع السياسي, وبناء الأمة وتقوية تماسكها الداخلي أفقيا ــ العلاقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع-, أو عموديا ــ تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم-. فنصب الحاكم نفسه مكان الإله الأوحد في الأرض يعز من يشاء ويذل من يشاء, وأصبح العدل قيمة أخلاقية عليا انتهت بانتهاء عصر الراشدين!
باختصار:
امة الإسلام نسيت حظا مما ذُكِّرت به من مقاصد التوحيد، وتم زحلقة سنة الاجتماع السياسي ــ الشورى ــ من بين سنن الله في الاجتماع وحكمها المقاصدي السنني, إلى جوار المضمضة والاستنشاق!
ــ نسيت امة الإسلام هذا الحظ, فنزلت فيها سنة الله الاجتماعية ولن تجد لسنة الله تبديلا, ( فلما نسوا حظا مما ذكروا به أغرينا بينهم العداوة والبغضاء)..
نعم: نسيت امة الاسلام نسبها السماوي التشريعي المقدس, وتعلقت بالمدنس ــ الوافد الغريب ــ كما تعلقت بالموروث السياسي المنحرف؛ فعبدت فراعين الشرق والغرب وكلا الفريقين يدعي انه متحرر, علما بأنهما تسببا بلطم امة الإسلام بوباء في غاية الغثائية. إنه وباء التقليد الليبرالي والسلفي على حد سواء.

 

مكونات الصنمية الثقافية:

1ــ السيف المقدس:
المعركة بين الخليفة الراشد عثمان (رض) وبين الخارجين عليه:
كادت تنتهي ببلورة رؤية دستورية مكتوبة ــ تحدد صلاحيات الحاكم في إنفاق المال العام, وكذا تحدد الشرعية السياسية من صاحبها وأحق بها.
لكن ربما كان المُخرج أدهى فدخل السيف وقتل الخليفة وانقسم الناس الى اليوم شيعة وسنة, أموية هاشمية, قرشية فارسية!
2ــ التشريع الموازي:
ــ مرت بيعة الخلفاء الراشدين ولاقت معارضة من بعض الصحابة, وأكبرها موقف عثمان مع الخارجين, وكذا موقف علي مع معاوية، وما وجدنا احتجاجا بأي حديث نبوي أبدا على المعارض لا يوم بيعة الصديق ولا عمر ولا من عثمان ضد الخارجين ولا من علي ضد معاوية!

3 ــ تنازل الحسن:

مكانة الأشخاص أطاحت بالمبادئ.

نؤكد مسبقا ان تنازل الحسن لمعاوية ــ في تلك الظروف ــ وقى الله به الأمة من نزيف الدماء, اجتهد الحسن وكان ذلك اجتهادا الجأه إليه أمران:
ــ الأول: تلافيا للدماء، والثاني: صمت الذين بايعوه, ربما إكراما لمكانته أولا, وهذا الأقوى أثرا, وتفاديا لنزيف الدماء!

أيـــن الــمــشـكلة؟
الحسن اجتهد وله عذره, غير أن مكانة الأشخاص ـ الحسن ــ أنتج لنا تشريعا منحرفا وأصبح تنازل الحاكم لحاكم آخر مصدرا للشرعية، وهذا ما عليه موروثنا السني في الشرعية السياسية، فتحولت الأمة -مصدر الشرعية السياسية- إلى خراف قطيع..كيف تم ذلك؟
الجواب:
الله تولى حفظ القرآن, ومهما كانت المحاولات الرامية الى تحريفه فقد فشلت!
لكن تحريف المفاهيم نجح بدءًا من زحلقة الشورى من مكانها العتيد إلى المضمضة والاستنشاق أولا, ووصولا إلى مطبخ فارسي شامي لصناعة الأحاديث السياسية ــ وهذا هو التشريع الموازي ــ الذي نجح وغطى على القرآن وحجب وهجه وقتل مقاصد التوحيد في الاجتماع ــ الحرية العدالة المساواة ـ والتشريع السياسي المستوحى من مقاصد التوحيد الرامية إلى إحلال العدل والعيش الكريم, بدءاً من إضاعة الشرعية السياسية.

4ــ التوريث للحكم
- وضعت روايات مختلقة أن ولاية العهد من الإسلام.
- روايات تصف من لم يبايع الشرعية السياسية الفاسدة يموت ميتة جاهلية!
ــ وأحاديث تحرِّمْ الخروج على الحاكم الطاغي !
وكما أشرنا أن هذه الأحاديث لم يحتج بها الخلفاء الراشدون ضد مخالفيهم سواء عند البيعة او في الاعتراض على القرارات، وكفانا موقف الصحابة في قضية تقسيم أرض العراق, والأمثلة كثيرة.

الـــتــحــرر الـثـقـافي الـمـنشـود
رؤيــة مــقــاصــديــة

من المؤسف حقا أن تأتي امة الإسلام اليوم من مؤخرة القافلة الحضارية منادية بالتحرر الثقافي والاجتماعي, ولو أن الغرب يسخر منا لهان الأمر, لكن الكارثة هي أن دعوات العقلاء المؤمنين تلاقي عنفا وتكفيرا وتفسيقا وتبديعا وتضليلا ــ أوسمة جاهزة ــ ممن اعتبروا أن مجرد اطلاعهم على كتب الفقه, أنهم بقراءتهم هذه قد ملكوا ناصية القول الفصل, وبالتالي فإن أول عائق صنمي هو هذه العقليات التي تعتبر العمل الفقهي عبر التاريخ انه الإسلام!
إذن: المحنة قاسية قاسية, ومع ذلك سنقدم هذه المحاولة كخطوة نحو التحرر الثقافي والاجتماعي من زاوية مقاصدية, آملين من الإخوة دعاة السلفية أن يكونوا اكثر سلفية، ان يتصلوا بفقه الراشدين الذي يمثل اخصب مراحل الفقه الإسلامي معرفة ومنهجا وتطبيقا.
ــ نؤكد بصيغة أخرى للإخوة السلفيين: لماذا السلفية عندكم تبدأ من القرن الثالث الهجري وما بعده? ندعوكم لمراجعة سلفيتكم.. هذا أولا..أما ثانيا: نقول: معلوم لدى كل المتصلين بالفقه المقاصدي أن مقاصد الشريعة لها ثلاث مراتب؛
ــ الضروريات.
ــ الحاجيات.
ــ التحسينيات.
ومعلوم أن الضروريات خمس:
ــ حماية الدين.
ــ حماية النفس.
ــ حماية العرض.
ــ حماية العقل.
ــ حماية المال.
ــ فقهاء معاصرون كبار فصلوا عن حماية العقل: ضرورة (الحرية)، معللين عملهم هذا أن مبدأ الحرية اليوم أصبح هو الذراع الحامل لكل الحقوق!
وهذا الفصل جميل ورائع, وليس بدعا في الدين, وإنما قد سبقهم فقهاء عبر التاريخ الإسلامي ففصلوا بين علوم كثيرة ــ الفقه وأصوله والتفسير واللغة والمصطلح ـ وهكذا ـ هذا من جهة, ومن جهة أخرى: يعترض البعض على زيادة الضرورة السادسة، وأنها غير معلومة عند الفقهاء وهم هنا لا يعلمون ان ابن تيمية جعل المقاصد الضرورية الكبرى 22 مقصدا ضروريا! وهنا نترك التعليق للقارئ والمعترض في آن.

نأتي إلى التحرر الثقافي والاجتماعي كتأصيل مقاصدي فنقول:
ــ نريد أن تنطلق ثورة التحرر الثقافي والاجتماعي من أصول مقاصدية رصينة متينة تكون قادرة على مواكبة مستجدات العصر المتقلبة ــ ذات إيقاع سريع ــ
وهذا التحرر المنشود لن يكون بغير التأصيل المقاصدي; ذلك أن التأصيل عبر القواعد الأصولية المتعارف عليها بأصول الفقه: قواعد بيانية لغوية لم ولن تكون بتلك المتانة والصلابة التي تمتاز بها مقاصد الشريعة.

هنا يأتي سؤال ضروري مفاده:
عرفنا المقاصد الضرورية, فأين دلالاتها على التحرر الثقافي والاجتماعي?

الجواب:
أولا: باختصار شديد:
ــ حماية دين الفرد: نسقطه على حماية دين الأمة.
ــ حماية نفس الفرد نسقطه على حماية نفوس الأمة.
وهكذا قل في بقية الضرورات.

ثانيا:
سنحاول تبسيط العبارة قدر المستطاع وشيء من التفصيل حول التحرر الثقافي والاجتماعي فنقول:

1ــ تجديد الخطاب الديني وفق مقاصد التوحيد.
2ـــ السعي الحثيث والدائب لبلورة مقاصد التوحيد وتبسيطها ودعمها بالأدلة.
3ــ يتم طرق هذه المقاصد بقوة خلال سنوات حتى يتشبع اللاوعي المجتمعي بهذا الخطاب التحرري، هذا علي مستوى الخطاب العام.
على مستوى التأصيل الفقهي المقاصدي يجب ما يلي:

1ــ التأصيل لدين الأمة, وربطه بمبدأ الحرية, وأنهما لا ينفصلان وأن المساس بحرية الأمة هي اعتداء على الدين, والعكس صحيح.
2ــ يدخل تحت هذا حماية حرية الأقليات دينا وحقوقا وهوية.
3ــ حماية الأمة أنفساً ودماء, ومواطنة -حق الانتماء-; حتى المواطن بمواطنته وكرامته!
4ــ حماية عقل الأمة من الغش أيا كان, والسعي لإقامة تعليم نافع يعود على الأمة بالخير والنهوض, ومحاربة الغش أيا كان علمي, فلسفي, معرفي, سياسي, ثقافي, اجتماعي, وعظي ـ الخ.
ــ حماية عقل الأمة من المخدرات الحسية والمعنوية والتزوير الإعلامي ومصادرة الرأي ورفض التبرير للظلم والطغيان تحت أية لافتة كانت، وتربية عقل المجتمع على وعي الذات, والوعي المجتمعي وصولا الى ترسيخ ملكة النقد في الوعي المجتمعي; حتى ينتقل الخوف من مربع المجتمع إلى مربع السلطات, ويصبح للأمة هيبة عند حكامها ولدى أعدائها في الخارج! وهنا سيكون من الصعوبة بمكان ـ سرقة حفنة من النقود, فضلا عن بيع آبار نفطية برمتها وبيع الغاز السائل لعشرين عاما قادمة!

5ــ حماية عرض الأمة المتمثل في:
مياهها البحرية, وأجوائها وترابها من اي انتهاك لسيادتها , وتصبح امة ذات سيادة ـ وطنية ومصدرا للشرعية السياسية , وهي صاحبة القرار في اختيار الاحتكام الى عقيدتها وهويتها وحضارتها!
6ــ حماية مال الأمة:
يتمثل في الرقابة الشعبية على الحكام وتحديد صلاحياتهم في ترشيد الإنفاق; حفاظا على المال العام, ويدخل في هذا الإطار ثروات الأمة من نفط ومعادن وتراث الخ ـ
وعدم إنفاقه تحت أي مبرر إلا تحت نظر الأمة فيما يعود بالخير الأكثر على الأمة.

7ــ حماية نسب الأمة: المتمثل في هويتها الحضارية وإرثها التاريخي الحضاري ــ فالإرث التاريخي يمثل شخصية الأمة كما انه في الوقت نفسه يمثل قوة دافعة لأبناء الأمة; كيف لا والأمم اللقيطة ــ امريكا نموذجا- لا تملك تاريخا ورغم تقدمها التنكولوجي هاهي تسرق تاريخ العالم وتزوره لنفسها وتربي عليه ابناءها بأنهم اصحاب تاريخ عريق ضارب في أعماق التاريخ! بل تتمسح بالديمقراطية، وانها ارثها الحضاري في حين ان الديمقراطية أوروبية (يونانية ــ رومية) وأمريكا هي بنت أمس!
الغريب أن الغرب عموما يفتخر بأنه متصل بتراثه القديم , ويدعي الحداثة, ونجد ليبراليين عربا يدعون للحداثة ويرفضون الصلة بتاريخهم!

هل لدى نعاماتنا -ليبراليي العرب- ذرة حياء?!
إنهم يدسون رؤوسهم في الرمال أشبه بالنعامات ويدعون العقلانية!
8ــ لن تكتمل الثقافة المنشودة في التحرر الثقافي والاجتماعي حتى يكتمل التأصيل المقاصدي لـ:
ــ شكل نظام الحكم بما يكفل حرية الأمة وحقوقها وينظم علاقة الحاكم بمصدر الشرعية الذي هو الأمة.
ــ ترسيخ دولة المواطنة؛ التأصيل المقاصدي للمواطنة!
ــ التأصيل المقاصدي لإقامة مجتمع مدني, وصولا إلى دولة مدنية!
ــ النص دستوريا وقانونا على تجسيد الولاء للأمة, واحترام إرادتها.
ـــ يكون التأصيل المقاصدي قائما على النظر ــ جلب المصلحة للأمة ودفع المفسدةـ

ــ يجب ان تتحول فكرة التحرر الثقافي والاجتماعي الى ثقافة عامة, بدءًا من طالب الصف الرابع الأساسي فما فوق!
تلك هي نظرات سريعة حول التحرر الثقافي والاجتماعي المنشود..

كلمات دالّة

#الثقافة_