الجمعة 29-03-2024 16:43:27 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

صياغة الأفكار أم تكوين المفكرين؟ (2 ـ 4)

الأربعاء 27 يونيو-حزيران 2018 الساعة 01 صباحاً / الإصلاح نت - خاص / عبد العزيز العسالي


تـكــويــن الــمــفــكــريــن فــي الــسـنــة الـعـملــيـــة

نـظـرات تـأصـيـلـيـة ونـتـائـجـها

المتأمل في مقاصد تصرفات الرسول (ص) ومنهجه في تكوين المفكرين على المستويين النظري والعملي، المتمثل في صياغة المبادئ والأفكار في مجالات الحياة المختلفة وفقا للظروف التي يعيشها وأصحابه، وإذا أعطينا النظر الفاحص الهادئ بعيدا عن الانطباعات والمسلمات سنجد أنه قد صاغ العقلية المسلمة انطلاقا من منهج التوحيد الخالص الذي رسمه القرآن العظيم في العهدين المكي والمدني؛ فهو (ص) تشرب مبادئ القرآن وتمثلها خلقا واضعا نصب عينيه:
{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}النساء113
لقد أدرك (ص) جلال المهمة وأهميتها المتمثلة في تكوين المفكرين وصياغة الأفكار والمبادئ المتينة; كونها ترجمة للرسالة الخالدة الخاتمة المتجددة والتي يراد لها بنص القرآن أولا, وبجهود المفكرين ثانيا، أن تكون مصدراً للعطاء الحضاري!
هذا البعد النظري النبوي إزاء الرسالة الخاتمة حوله الرسول الى ترجمة عملية مقاصدية تمثل في تكوين المفكرين نظريا وعمليا وممارسة وصولا الى ترسيخها في الوعي المجتمعي العام.

 

على أنه ص قبل أن يقوم بتنزيل النصوص ــ المكونة للفكر الخ ـ كان لديه تصور وإحاطة تامة بالبيئة التي نزل فيها النص, كان يدرك حياة الانفلات التي يعيشها البدوي وكراهيته للنظام وحب التسيب ــ الحرية الفوضوية ــ والروابط القبلية والعشائرية.


ــ عمد (ص) إلى توظيف هذا التحرر من الزاوية الايجابية يخدم تكوين المفكرين وصياغة الأفكار والمبادئ والمفاهيم والتي ستكون بمثابة شبكة شروط ــ مقدمات أولية تقوم عليها الحضارة الإسلامية بعد عقود من التراكم الفكري وصولا إلى العطاء والذي استمر ألف عام بشهادة خصوم الإسلام.
لقد جاءت مقاصد تصرفات الرسول (ص) في هذا الصدد متمثلة في التالي:

الــتــفـريــق بــيــن قــدســيــة الـمـبـادئ ومــكــانــة الأشــخـاص

لقد رسخ الرسول الأعظم هذا المبدأ ولو كان التطبيق سيطال شخصية الرسول (ص)!
كيف لا يكون ذلك وهو المبين للقرآن بيانا عمليا، ولو كان المستهدف من التربية التكوينية المرأة! {ولا يعصينك في معروف}. ويترجم الرسول هذا بقوله: "إنما الطاعة بالمعروف"! "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"!
وهنا نجده (ص) قد نفخ روح الحرية والتحرر الفكري عمليا في عقول ووجدان الصحابة (رض).
نلمس هذه التربية التكوينية للفكر في تساؤلات الصحابة بصيغ مختلفة:
"أوحي يا رسول الله"?.. الأمر الذي يدل انه (ص) كان قد رسخ لدى الصحابة قدسية المبادئ التي حملها التشريع الإسلامي الخالد.
كما نجد أنه (ص) لم يعترض على خطأ ارتكبه صحابي الا بقدر خطورة الخطأ وبالتالي يقوم ببيان الخلــل دون تجريح أو تأنيب ـ كما في الأمثلة التالية والتي سنشير فيها الى موطن الشاهد تفاديا للإطالة.


اولا:
1ــ أمنزل انزلكه الله ام الحرب والرأي والمشورة? واضح المقصود هنا أوحي ام اجتهاد?

2ــ أشفيع أم آمر?! هذا السؤال: أشفيع.. الخ ـ لم يصدر من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا من المبشرين بالجنة ولا من وجاهات الأوس والخزرج ولا حتى من نسائه وبناته (ص)!
وإنما من جارية كانت تخدمه (ص)! تصوروا ..جاريته! (بريرة) المتزوجة بمغيث خادم الرسول (ص), فحالفها التوفيق فأعتقتها عائشة، وهنا ملكت بريرة نفسها وانفسخ نكاحها ولا تصح لزوجها الا بعقد ومهر ورضا منها، فتقدم مغيث متوسلا الي الرسول ان يشفع له لدى بريرة، ويقوم (ص) بالمهمة فترد الجارية: "أشفيع أم آمر"? يا الله.. اسمع يا تاريخ!
شفيع يا بريرة! لا يا رسول الله! يا إلهي.. كيف وصل التحرر الفكري إلي حد أن جارية تسأل: أشفيع... الخ?!
3ــ "إنما ظننت ظنا.. انتم اعلم بأمر دنياكم". هنا نجده (ص) قد سدد آخر مسمار في نعش مكانة الأشخاص! كيف لا.. إن القدسية هنا تعني هدم المبادئ وعليه فمكانة الأشخاص اذا التقت مع المبادئ يجب تنحيتها وإن كان الرسول (ص) ذاته ـ "انما ظننت ظنا.."، وتلقيح النخيل هذا مبدأ سنني لا علاقة له بالمعجزات ولا بالأشخاص، فالتجارب والخبرات هي المرجع ليس غير, كيف خطفتم العبارة مني ولم تسألوني كالمعتاد: أوحي ام غيره? خبرتكم هي المرجع المعتمد.
4ــ لا يصلين أحدكم العصر الا في بني قريظة. والقصة مشهورة في انقسام الصحابة الى فريقين؛ فريق صلي على ظهور الخيل، وفريق تمسك بحرفية العبارة النبوية وصلي بعد ذهاب وقت العشاء. وجه الدلالة هنا في التكوين الفكري انه (ص) أقر الطرفين, ولم يقل فلان أقرب الى الصواب مع العلم أن الذين صلوا على ظهور رواحلهم أقرب للصواب ـ لكن بما أن ظاهر اللفظ يوحي بالصلاة في بني قريظة فلا تثريب على الفريق الذاهب إلي هذا الفهم!

5ــ إنما عبدالله ورسوله.

 

يوم الحديبية

نحن هنا أمام موقف أكثر خطورة من المواقف السابقة. الصحابة بايعوا على الموت لما علموا بمقتل عثمان وشاهدوا صلف قريش وتعنتها، غير أن سهيل بن عمرو يأتي ويبرم الصلح ويوافق الرسول (ص)، ويأمر الصحابة بفك الإحرام فيرفضوا! يا لطيف هذا رسول معصوم يقول لعمر إنما أنا عبدالله ورسوله، ومع ذلك عمر لم يقل للصحابة انه وحي!
ــ يأتي درس آخر هو نزوله (ص) عند مشورة أم سلمة, وينزل القرآن
{انا فتحنا لك فتحا مبينا}، فيبادر عمر: أفتح هو? كيف ها هو القرآن يقول
{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين}!
أجابه (ص) بهدوء: هل قال لك إننا سندخله هذا العام?
لقد كان الدرس الفكري عظيما; كون ثمار ومآلات الاتفاق لم تأت سريعا وإنما عبر الامتداد الزمني فتحقق الكثير للدعوة وللصحابة.
6ــ تعددت اجتهادات الصحابة في مواقف مختلفة عسكرية وسياسية بل وتعبدية مما لها علاقة مباشرة بالنصوص:
ــ عمار يتيمم في الصعيد ـ قال تمعكت كالدابة (تمرغ)، فقال له الرسول إنما يكفيك هكذا وضرب بيده الأرض ومسح وجهه وكفيه بتلك الضربة!
ــ عمرو بن العاص تيمم من جنابة بوجود الماء والحطب لتدفئة الماء البارد فأقره (ص) ؛ لأن المبدأ هنا مرجعه التيسير.
ــ يطلق علي خالد لقب سيف الله; كونه بادر لقيادة الجيش في مؤتة، ونجا بالجيش من محرقة مؤكدة!
ــ أطلقها مدوية تشجيعا للصحابة مصحوبة بشي من الرزانة، تجاه الصحابة الرافضين أمر القائد المتمثل في خوضهم النار! لو دخلوها ما خرجوا منها الى يوم القيامة! كيف لا والشريعة جاءت لتحمي النفس لا لتقديس الأشخاص؟!


ثانيا:
الــتــربــيــة الــنــبــويــة الــعــمــليـة

على صـــيــاغـــة الأفـــكار وبــلــورة الــمبـادئ والــمـفـاهــيم

دســـتــور الــمـديــنــة ــ الــوثــيــقـة نـمـوذجـا

لسنا هنا معنيين بنقل مضمون الوثيقة وإنما فقط سنشير الى جانبين
ذي صلة بمقاصد تصرفات الرسول (ص) في التنمية الفكرية العملية ــ

الجانب الأول:
بناء الأفكار وصياغتها وتبسيطها حتى تصبح سهلة الفهم والهضم لدى الشخص العادي الوعي المجتمعي (بريرة نموذجا).

الجانب الثاني:
الجانب الإجرائي: وهذا يتجاوز التربية الي مفهوم اليوم التدريب العملي، كما سنشير إليه في الحلقة الثالثة، كما أنه يتجاوز الي موقف اكثر فاعلية وهو ما يسمى ب(بناء الاتجاهات).
إنه ممارسة الشورى وصولا إلى الشرعية السياسية..
في هذا المجال رسم الرسول (ص) معلمين بارزين يندرج تحتهما قضايا عدة؛
المعلم الأول:
الترسيخ العملي للشرعية السياسية (دولة المواطنة المتساوية) حيث أعطى كل شريحة من شرائح المدينة ــ سكانها ــ حقوقها التامة، ولكن كيف؟ هل الرسول هو الذي كتب? لا لا, وإنما كل شريحة كتبت ما يهمها كونها صاحبة المصلحة واعرف بحقوقها! بل إن هذا الوثيقة تم رفضها بداية بحسب طبيعة البدوي, ثم نقدت هذه الوثيقة ثانيا ثم تمت الصياغة والعرض على الرسول ثم العودة والتعديل والاستدراكات ـ هنا يأتي سؤال غاية في الأهمية، يقول السؤال:
كم هي المدة الزمنية التي استغرقتها وثيقة المدينة تشاورا ورفضا ونقدا وإعدادا وتعديلا وصولا الي التوقيع?!


ــ يرى بعض المفكرين المسلمين أنها أخذت سنتين.
ــ يرى البعض ثلاث سنين.
ــ ويرى القائد العسكري البريطاني ـ مونتجمري وات أنها استغرقت خمس سنين، مستدلا بغياب ثلاث شرائح من اليهود: بنو النظير وبنو قينقاع وبنو قريظة.
ايا كانت التحليلات طولا وقِصَرا فالذي يهمنا هو موطن الشاهد (وجه الدلالة)، قد تمثل في الآتي:
ــ الرسول ترك المجال وتأنى; ذلك أن المبادئ والأهداف والأفكار والمفاهيم التي يراد لها أن تصبح وعيا ثقافيا مجتمعيا لابد فيها من التريُّث.
ــ أنها مصدر للشرعية السياسية، وما كان من المبادئ هكذا حاله: فلابد من إعطاء أصحابه الفرصة الكافية.
ــ يعطينا درسا عمليا تربويا واتجاها حياتيا انه لا عبرة بالثقة الشخصية في جانب الحكم وإنما لابد من دستور مكتوب يشترك فيه أصحاب المصلحة الحقيقيون.
ــ انه (ص) يربي بل يبني الاتجاهات علي توطين الثقة بالذات ورفضا للإمعة
"لايكونن أحدكم إمَّعة، ولكن وطِّنوا انفسكم".



الــنــتــيــجـة الأولى:

"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا"?!
هذا المبدأ الإنساني السياسي الحقوقي التشريعي الديني أعلنه الفاروق بهذه الصيغة المتينة, حيث لم يكن قادما من بلاغة أديب أو فصاحة، خطيب أطلقه في لحظة حماس خطابي, وإنما هو ثمرة او قل هو إحدى ثمار الغراس النبوي العملي كما أشرنا آنفا (تكوينا عمليا على المستويين؛ تكوين المفكرين, وبناء الأفكار وبلورتها)!
ــ لم يقف الفاروق عند القول النظري الق خطابك وامشٍ لا لا
وإنما قالها يوم عرفة بمشهد الحجيج تمثلا لمقاصد تصرفات الرسول في صناعة الوعي المجتمعي العام ـ عمليا ــ ممارسة.
ــ نجد الفاروق ايضا قد قام بتحرير الأنباط في العراق و بلاد ما وراء النهر (ايران فارس حتي افغانستان)؛ الانباط كانوا يعملون تحت السخرة ــ القهر ويشفطون المستنقعات ويحولونها إلى أراض زراعية، والمقابل هو ما يقيم البطن من الزاد فقط. فجاء الفاروق وقال للأنباط تبقى الأرض تحت أيديكم واعطوا الدولة خراجا معينا واعلموا أن إسلامكم من عدمه لن يغير من ملكيتكم للارض شيئا!
الفاروق -رضي الله عنه- هنا يستنهض الأفكار ويصنع وعيا جماهيريا مدويا عبر التاريخ.
ــ لقد ذهل الكاتب الأمريكي الياباني صموئيل هنتنغتون ــ صاحب صدام الحضارات؛ حيث ذكر في كتابه النظام السياسي عبر العصور، حيث قال: لقد جاء محمد في الصحراء، وحرك روح التحرر، وانتقل الملك من الأسر الخاصة فارس والروم الي كل القبائل بما فيها الرقيق اصبحوا حكاما وهذه قفزة هائلة!
وختاما:
لا غرابة اذا وجدنا ان اول ميثاق انساني معاصر ؛ ميثاق الثورة الفرنسية قد انتزع عبارة الفاروق وصدر بها ميثاقه مع شيء من التحريف ــ لأجل البصمة الحضارية! حيث نص الميثاق في أول مادة
"الناس يولدون أحرارا ويعيشون أحرارا".

 

الــنـتيـجــة الــثـانــيــة:

موروثنا الفكري بأنواعه ومختلف مجالاته زاخر ببناء المبادئ والأفكار والمفاهيم والقواعد المقاصدية والقواعد الأصولية والمصطلحات والضوابط العامة والضوابط الفقهية على مستوى المذهب.
الجدير ذكره: أن هذا الكم الزاخر من المبادئ ووو الخ ـ لم يأت طفرة واعتباطا وإنما هو وليد تأملات ونقاشات خلال عقود ــ بدءاً من الاستقراء للشامل للنصوص والألفاظ والمعاني والجزئيات الأولية ــ العناصر الأولى المكونة للمبدأ او وصولا الى فقه التنزيل التطبيقي ثم النظر في المآلات، ما سينجم من توظيف خاطئ ثم وضع الضوابط المتممة للمبدأ الأصل، فجاءت الصياغة في غاية المتانة ـ الوجيزة والشاملة لأغلب مواقف الحياة مثل:
ــ"الأمور بمقاصدها".
ــ "لا ضرر ولا ضرار".
ــ"اليقين لا يزول بالشك".
ــ"رفع الحرج مطلوب شرعا".
ــ"المشقة تجلب التيسير".
ــ "كل تصرف تقاصر عن أداء المقصود ففعله باطل".
ــ "اذا تطرق الى الدليل بطل الاستدلال".
هذه القواعد أصبحت عرفا ثقافيا مجتمعيا والفضل بعد الله يعود للتربية التكوينية النبوية العملية.

 

اسـهـامـات المــتأخــريـن
لاشك ان رجالات كبا ر معاصرين قد أسهموا بدور لا بأس به سينافي مجال القانون كالسنهوري رحمه الله، ومصطفى الزرقا رحمه الله، حيث قدم نظريات رائعة ـ
حامد ربيع كتب في المجال السياسي بحثا في الترات الإسلامي واطال ولكن عمله لازال بحاجة لتلخيص ثم البناء عليه وتحويله الي قوانين ومبادئ.
الترابي رحمه الله ـ أستطيع القول ان هذا الرجل قدم الشيء الكثير في باب المصطلحات السياسية لكنها مصطلحات خاصة به بالتالي تحتاج لمزيد من البلورة.
عمارة، وفهمي هويدي، والعواء، والقرضاوي، وغيرهم الكثير قدموا عطاء فقهيا وفكريا ولكن كل ذلك بحاجة الي تحويله الي قوانين.
الجدير والاهم هنا اننا وصلنا إلي السؤال:

ما الطريق الى تكوين المفكرين؟
والإجابة على هذا السؤال هو مضمون الحلقة الثالثة