الخميس 25-04-2024 23:36:46 م : 16 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

المرأة في الحضارة اليمنية القديمة

الخميس 08 مارس - آذار 2018 الساعة 08 مساءً / الإصلاح – خاص – ثابت الأحمدي

يكاد يكون وضع المرأة في أي مجتمع محددا رئيسيا لطبيعة هذا المجتمع وحالته، باعتبار أن التعامل مع المرأة يعكس الوجه الحقيقي لأي أمة أو حضارة أو مجتمع، باعتبار المرأة شقيقة الرجال، ما أكرمها إلا كريم، ولا أهانها إلا لئيم كما في الأثر؛ وباعتبار المجتمعات الذكورية المتأخرة كليا أو نسبيا في الوعي وفي التمدن تنتقص من قدر المرأة وقيمتها، كما تنتقص من حقوقها المشروعة؛ بل أحيانا من حقوقها الطبيعية، فتبدو المرأة أكثر ضعفا وأكثر تخلفا في المجتمع المتخلف والضعيف كما أشار البردوني إلى ذلك.


كانت المرأة عند الإغريق مخلوقا شريرا، وكانت محتقرة مهينة، باعتبارها ـ من وجهة نظرهم ـ رجسا من عمل الشيطان، وكانتْ كسقط المتاع تُباع وتشترَى في الأسواق، مسلوبة الحقوق، محرومة من حقِّ الميراث وحقِّ التصرُّف في المال، أو حق التجارة والتصويت الانتخابي، والعجيب أن هذا الاعتقاد السائد لم يكن مقتصرا على العامة والجهلة من الناس فقط؛ بل حتى على النخبة وعلى الفلاسفة، فعند اليونان مثلا، ومما ينسب للفيلسوف أرسطو عن المرأة: "إن الطبيعة لم تزودِ المرأةَ بأيِّ استعداد عقلي يُعتَد به؛ ولذلك يجب أن تقتصرَ تربيتُها على شؤون التدبير المنزلي والأُمومة والحَضانة وما إلى ذلك، ثم يقول: ثلاثة ليس لهم التصرُّف في أنفسهم: العبد ليس له إرادة، والطِّفل له إرادة ناقِصة، والمرأة لها إرادة وهي عاجِزة". وقد قال: إن المرأة رجل غير كامل، وقد تركتها الطبيعة في الدرك الأسفل من سلم الخليقة. وهو القائل: إن المرأة للرجل كالعبد للسيّد، والعامل للعالم، والبربري لليوناني، وأن الرجل أعلى منزلة من المرأة.


وعند الرومان: اعتبرت المرأة متاعاً مملوكاً للرجل وسلعة من السلع الرخيصة يتصرف الرجال فيها كيف يشاؤون، وكان يعتبرها الرجال شراً لا بد من اجتنابه، وأنها مخلوقة للمتعة، وكانت دائماً خاضعة للرجل أبا كان أو زوجا، وكان الرجل يملك مالها؛ فهي ـ في نظره ونظر الرجال ونظر المجتمع كله ـ أمةٌ لا قيمة لها، وكان بيد أبيها وزوجها حق حياتها وحق موتها، وإذا كانت ملك أبيها في شبابها فهو الذي يختار لها زوجها، فإذا تزوجت ملكها زوجها، وفى ذلك يقول جايوس: توجب عادتنا على النساء الرشيدات أن يبقين تحت الوصاية لخفة عقولهن.!!


وعلى الرغم مما عرفت به روما من التشريعات القانونية القديمة إلا أنها أغفلت جانب المرأة تماما، وتركتها هملا لسطوة العادات والتقاليد التي تتناهشها بلا رحمة، إلى حد وضع قفل على فمها، منعا لها من الكلام، كونها أداة غواية، يستخدمها الشيطان في الاستحواذ على عقول الناس وقلوبهم؛ بل كانت إذا أساءت أو أخطأت ربطوها على ذيل حصان وسحبوها، ثم صبوا على جسدها الزيت الحار، ثم لا يسمحون لها بأن تلبس بعد ذلك إلا لونا واحدا من القماش لا ثاني له كعقاب أبدي على خطيئتها..!


الأعجب في الأمر أن حضارات الشرق الأدنى ـ وتحديدا الحضارة الفرعونية والحضارة اليمنية القديمة ـ هما اللتان كانتا تحترمان المرأة كإنسان مكرم لها ما للرجل وعليها ما عليه، وما عداهما من الحضارات فلم تكن إلا مسخا ليس له حق الحياة الطبيعية.1.

  

بلقيس سيدة اليمن
كانت المرأة في الحضارة اليمنية تعيش وضعها الطبيعي بما لها أو عليها، جنبا إلى جنب مع الرجل، دون انتقاص أو ازدراء، على العكس مما كان عليه الأمر لدى الإغريق من يونان ورومان، ليس ذلك فحسب؛ بل لقد تسنمت أرقى المناصب السيادية في البلد، كملكة متوجة تأمر وتنهى، إلى حد أن يقول لها قومها: (والأمر إليك فانظري ما ذا تأمرين)؟! وفي المجال الديني تسنمت المرأة مناصب دينية كبيرة، كما سنشير لاحقا، ناهيك عن الاشتغال بالعمل العام كالتجارة والزراعة وغير ذلك. وهي حالة تعكس رقيا مدنيا وحضاريا لدى العامة والخاصة؛ لأن مجرد وصول امرأة إلى سدة الحكم ليس بالأمر السهل؛ بل من المستحيل في المجتمعات التقليدية والبدائية، وتاريخيا لم تنل المرأة حقها كاملا إلا في المجتمعات التي بلغت درجة عالية من الرقي والتمدن فقط؛ ولأن قوم سبأ قد كانوا كذلك فقد وصلت بلقيس إلى ناصية الحكم، ملكة متوجة، تحكم قومها بالشورى الملئية.


حكمت بلقيس بنت إل شرح بن الهدهاد بن شرحبيل بن ذي سحر، في القرن العاشر قبل الميلاد، فيما بين 946ـ 924ق. م. لما يزيد عن اثنين وعشرين عاما. وقد قص الله حديثها مع نبيه سليمان بن داود في القرآن الكريم مشيرا إلى إسلامها معه لله رب العالمين. وتعتبر الترتيب السابع عشر من بين ملوك سبأ التبابعة الذين ابتدؤوا بالرائش باران ذو رياش.


واسم بلقيس ـ كما يرى المختصون ـ من الأسماء المركبة تركيبا مزجيا، أي بإضافة كلمة إلى كلمة أخرى، مكون من شقين: بلق و ايس. مثلها مثل كثير من الأسماء آنذاك، كاسم الملك أفريقيس والأميرة السبئية لميس، وكذا اسم رميس وعميس وغيرها.2


والبلق هو اجتماع السواد والبياض معا، وفرس أبلق خالط بياضه سواد، وكانت من الخيول المفضلة قديما لجمالها، وهذا يعني أنها كانت بيضاء مائلة إلى السمرة. أما ايس: فهو من اسماء الإله الشمس، فاجتمعت الكلمتان، بمعنى أن أصل الاسم هكذا: بلق ايس، بمعنى الجمال المفضل، وكما يرى المؤرخ الفرح فإن المعنى: ذات الجمال الشمسي، أو ذات الجمال الإلهي.3


وهناك تخريجات أخرى لبعض المستشرقين من تركيبات الاسم وفقا للغاتهم، قد لا تقترب من الحقيقة، كالفتاة العاشقة، كما يرى مونتجمري وات اليوناني، أو صاحبة الكنز كما يرى المستشرق الفرنسي دارمي.


أما عن مجلسها وحكمها فقد روى الخليفة المهدي بن المنصور عن جده عبدالله بن عباس، قال: كان أولو مشورتها ألف قيل، تحت يد كل قيل ألف مقاتل. وقال قتادة: كانت بلقيس في بيت مملكة، وكانت بأرض يقال لها مارب من صنعاء على ثلاثة أيام، وكان أولو مشورتها ثلاثمئة واثني عشر قيلا، كل قيل منهم على عشرة آلاف رجل.. وقال مجاهد: كان مع بلقيس ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل، مع كل قيل مئة ألف مقاتل. ثم يضيف: وبلقيس اسمان، جُعلا اسما واحدا، مثل حضرموت: حضر الموت، وبعلبك: بعل بك. وذلك أن بلقيس لما حكمت بعد أبيها الهدهاد قال بعض حمير لبعض: ما سيرة هذه الملكة من سيرة أبيها؟ فقالوا: بلقيس، أي: بالقياس، فسميت بلقيس.4


قال تعالى: (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ( 23 ) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون)


وفي الآيات التي سردتها القصة عن بلقيس مع قومها نستنتج الآتي:
1ـ إشارة إلى طبيعة الحكم الملكي: "تملكهم"
2ـ الرخاء المادي والرفاه الاجتماعي: "وأوتيت من كل شيء"
3ـ إشارة إلى الديانة الرسمية للشعب: "يسجدون للشمس"
4ـ إشارة إلى طبيعة نظام الحكم الشوروي: "افتوني في أمري"5
5ـ إشارة إلى قوة الدولة: "نحن أولو قوة وأولو بأس شديد"
6ـ إشارة إلى اللغة الديبلوماسية الذكية في التعامل "الملوكي" حين سئلت بعد الرحلة: "أهكذا عرشك"؟ فردت: "كأنه هو"!! إذ لم تؤكد ولم تنف في نفس الوقت. وهي نفس اللغة التي كانت مع الهدهد: "غير بعيد"!! فلم يكن قريبا، ولم يكن بعيدا في نفس الوقت. وكأنه جمع بينهما..!
7ـ إشارة إلى الهدية في الزيارات الرسمية والمراسيم الملوكية "مرسلة إليهم بهدية"
ونقف هنا عند قوله تعالى: (وأوتيت من كل شيء)


فإنها بمقابل قوله تعالى على لسان سليمان: (وورث سليمانُ داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء)!!
والواقع أن ما أوتيَه سليمان عليه السلام هو من الله عز وجل، استجابة لدعوته: (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي)
أما ما أوتيتْه بلقيس الملكة السبئية بالكسب الحضاري لشعب سبأ، ولم يكن مُلكا أو نعيما عارضا من السماء بلا جهد أو نتاج دعوة.
من ناحية ثانية فإن دلالة السياق عامة، شاملة لكل ما يخطر على البال، "شيء".. وشيء: نكرة تامة تفيد العموم، ولا تُقيد بقيد، كما هو معروف عند أهل اللغة.


وقد فصلت التوراة طرفا من الرحلة، مشيرة إلى الهدايا العظيمة التي صحبت بلقيس وموكبها، ففي سفر الملوك الأول:
1ـ وَسَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَا بِخَبَرِ سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ، فَأَتَتْ لِتَمْتَحِنَهُ بِمَسَائِلَ.
2ـ فَأَتَتْ إِلَى أُورُشَلِيمَ بِمَوْكِبٍ عَظِيمٍ جِدًّا، بِجِمَال حَامِلَةٍ أَطْيَابًا وَذَهَبًا كَثِيرًا جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً. وَأَتَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ وَكَلَّمَتْهُ بِكُلِّ مَا كَانَ بِقَلْبِهَا.
10ـ وَأَعْطَتِ الْمَلِكَ مِئَةً وَعِشْرِينَ وَزْنَةَ ذَهَبٍ وَأَطْيَابًا كَثِيرَةً جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً. لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِثْلُ ذلِكَ الطِّيبِ فِي الْكَثْرَةِ، الَّذِيِ أَعْطَتْهُ مَلِكَةُ سَبَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ.
11ـ وَكَذَا سُفُنُ حِيرَامَ الَّتِي حَمَلَتْ ذَهَبًا مِنْ أُوفِيرَ، أَتَتْ مِنْ أُوفِيرَ بِخَشَبِ الصَّنْدَلِ كَثِيرًا جِدًّا وَبِحِجَارَةٍ كَرِيمَةٍ.
12ـ فَعَمِلَ سُلَيْمَانُ خَشَبَ الصَّنْدَلِ دَرَابَزِينًا لِبَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِ الْمَلِكِ، وَأَعْوَادًا وَرَبَابًا لِلْمُغَنِّينَ. لَمْ يَأْتِ وَلَمْ يُرَ مِثْلُ خَشَبِ الصَّنْدَلِ ذلِكَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ.6
وفي الإنجيل من حيث عيسى عليه السلام لقومه: "هذا الجيل شرير.. إن ملكة التيمن ستقوم في يوم الدين مع رجال هذا الدين وتدينهم؛ لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هو ذا أعظمن من سليمان ها هنا".7
"إن ذلك الذكر والتخليد لملكة اليمن، ملكة سبأ، في القرآن والتوراة والإنجيل يدل على أنها أشهر ملكة في تاريخ الإنسانية كلها، فلم تُجمع الكتب السماوية الثلاثة على ذكر ملكة سواها، فنالت الخلود إلى يوم الدين، وكذلك فقد ذكرتها كتب التاريخ، وذكرها العلماء والمؤرخون والأدباء عبر الأزمنة والعصور، فأجمعت على ذكرها السماء والأرض، بما يدل على أنها أشهر وأعظم ملكة في تاريخ الحضارة الإنسانية".8

 

برأت.. الكاهنة
لعبت المرأة اليمنية قديما دورا مميزا ورائدا على مسرح الحياة العامة، وفي مختلف المجالات، ولم تكن بلقيس الملكة إلا بلقيس واحدة من بلقيسات كثر، ذكر التاريخ بعضهن وتناسى بعضهن، وإنما طغت شهرة بلقيس الملكة، لملوكيتها، ولكثرة التغني بها، وقد وردت الإشارة إلى ملوكية وأميرية نساء سبأ المتوجات شعرا منسوبا إلى أحد التبابعة، يقول:
أولدتني من الملوك ملوك كل قيل متوج صنـــديد
ونساء متوجات كبلقي ـــــ س وشمس أكرم بها من جدود!
وقال علقمة بن ذي جدن عن الأميرة السبئية لميس:
ولميس كانت في ذؤابة ناعط يجبي إليها الخراج ساكن بربر
الصامخ الملك المملك بعلها ذو التاج حين بلوتَه والمحضر
ومن هذه النساء التي اشتهرن في اليمن "برأت" الكاهنة.

 

أسماء بنت شهاب الصليحي
برزت في الفترة الإسلامية بعض النساء اللاتي خلد ذكرهن التاريخ، وقد لعبن أدورا بطولية رائدة رغم العوائق والمثبطات والقيود التي لاقتها المرأة ولا تزال، من أكبرها تأويلات وتفسيرات الفقهاء لنصوص الدين المتعلقة بالمرأة؛ حيث جعل بعضهم منها قيودا حديدة على المرأة حالت دون إبداعها وتميزها..


كانت أسماء بنت شهاب الصليحي ذات جمال وجاه، كما كانت أديبة وشاعرة فصيحة وكريمة اليد، ففتن بها ابن عمها الأمير علي بن محمد الصليحي وطلبها لنفسه، ثم تزوجها بعد لأي ومشقة، وكانت بعد ذلك بمثابة المستشار الأول أو الوزير الأول لزوجها علي بن محمد الصليحي، حاكم اليمن، ويقال إن خطباء الجوامع كانوا يدعون لها في خطب الجمعة جنبا إلى جنب مع زوجها الملك، وذلك لشهرتها ولكرمها الذي عرفت به، وقد كانت نهايتها مع زوجها بائسة على يد النجاحيين في زبيد الذين كمنوا لزوجها في رحلته للحج، فقتلوه، وسبوها، وظلت في الأسر في زبيد حتى جاء ولدها المكرم وأنقذها، وطرد الأحباش من زبيد. وفي ذلك قال الشاعر عمرو بن يحيى الهيثمي:
عودة أسماء إلى قصرها بعد فراق الملك الأوحد
وبعد عوصاء الخطوب التي رمت بني قحطان بالمؤيد
كرجعة الشمس وقد جنها دجن وسربال دجى أسود
فيا لها من نعمة أصلها بأس ابنها باني العلا أحمد9


أروى بنت أحمد الصليحي
لم يقتصر تكريم المرأة اليمنية على الحضارة القديمة قبل الإسلام فحسب؛ بل كانت الروح متقدة والوهج مستمرا كامنا في الوجدان على الرغم من التراجع الحضاري والانحدار المجتمعي الذي كان قد شهده اليمن منذ فترة ما قبل الإسلام؛ لذا واصلت المرأة اليمنية دورها الريادي في مختلف المجالات، بما في ذلك السياسة، فكانت أروى بنت أحمد الصليحي ملكة اليمن في القرن الخامس الهجري، كما كانت جدتها بلقيس كذلك قبل حوالي ألفي عام. وهي نفسها المسماة سيدة في بعض الروايات. وكما كانت بلقيس موضع تقدير قومها، وشهد عصرها رخاء كبيرا، كذلك كان الشأن مع الملكة أروى بنت أحمد الصليحي التي كانت موضع تقدير واحترام قومها، وشهد عهدها من الرخاء الاقتصادي، والازدهار السياسي ما لم تشهده العصور اللاحقة بعد ذلك عدا فترة حكم الدولة الرسولية فقط، أما ما عداه فدون ذلك العهد بكثير.10


وتروي المصادر التاريخية أن اشتغال الملكة أروى بنت أحمد الصليحي بالسياسة وتدبير الحكم كان منذ عهد حميها علي الصليحي، إذ كانت أشبه ما تكون بالمستشارة، ولما مات الملك علي الصليحي وورث العرش عنه المكرم الصليحي كانت أيضا كذلك، بل لقد زادت خبرتها فزاد حضورها السياسي في تدبير شؤون المملكة وتصريف الحكم إلى حد عزوفها عن الحياة البيتية والعائلية، ولما عاتبها زوجها على ذلك، أجابت: إن المرأة التي تصلح للحكم لا تصلح للفراش.


"وشرعت تحكم البلاد من صنعاء إلى حضرموت، ثم البحرين فالهند، وتسير الجيوش بتفويض من زوجها المكرم. وفي رواية أن المكرم كان منغمسا في اللهو والترف وسماع الموسيقى.. فظلت أروى عاكفة على تدبير شؤون الملك بكل إخلاص حتى وفاة زوجها المكرم". 11


إن فترة حكم الملكة أروى من أزهى فترات التاريخ اليمني، ولا تزال الذاكرة الشعبية، ناهيك عن كتب المؤرخين تحكي قصصا ومرويات خيالية، تأسطر بعضها حتى اختلطت الحقيقة بالخيال، ذلك لأنها كانت على قدر كبير من العلم والفقه والتأدب، مضافا إليها الخبرة السياسية والبيتية الملوكية التي نشأت فيها "وقد حكمت أروى حُكما مستنيرا، وسعت إلى تنمية اقتصاد البلاد ورفع مستوى المعيشة؛ لأن الاقتصاد في نظرها ذو أهمية كبرى لا تقل عن أهمية الدفاع وتثبيت الدولة سياسيا، ولعل في طريقة اختيارها للعاصمة ذي جبلة أفضل برهان على ذلك المبدأ، فقد اختارت المنطقة التي عكف سكانها على زراعة الأرض واستغلال خيراتها والانشغال في تنمية اقتصادهم، وتركت المدينة التي نزع أهلها نحو إثارة المشاكل واستخدام العنف والتستر وراء السلاح. ولكي توفر لشعبها متطلباته من اللحوم والأجبان والألبان اهتمت برعي الماشية وتحسين نسلها، وأقطعت أراضي واسعة للمزارعين لرعي البقر فيها. ثم مهدت سبيل التجارة، وذلك بفتح الطرق وتمهيدها، واهتمت بالتعليم، فأنشأت الكثير من المدارس والمساجد ووسعت جامع صنعاء.. وشيدت مسجد الضربة في بلاد يريم والمسجد الجامع في ذي جبلة، كما بلطت مدينة جبلة بالأحجار والقضاض، وشقت طريق سمارة إلى السياني وتعز، وغيرها من المحاسن والمساجد ومعاهد العلم والوقفيات الكبيرة والصدقات ورواتب العلماء والمرشدين والمدرسين، واهتمت بإيصال المياه من خنوة إلى مدينة الجند، وأنفقت أمولا كثيرة في شق الجبال وإقامة الأعمدة والكظائم، وفي زمنها حفرت الترع والقنوات، وكانت خزائنها مترعة بالذهب..".12
وقد توفيت سنة 532هـ بعد حياة حافلة بالعطاء والإنجاز والرخاء. ولا تزال في عمق الذاكرة الشعبية اليمنية إلى اليوم فنارا مضيئا، جنبا إلى جنب مع الملكة بلقيس، ذات التاريخ الخالد.

 


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ــ كانت المرأة الفرعونية لها الحق في الإرث وفي التملك، وكانت تتولى أمر أسرتها في غياب زوجها، وكانوا يعتقدون أن المرأة أكثر كمالا من الرجل، وكان الزوج يكتب كل ما يملك من عقارات لزوجته. كما كان الأطفال ينتسبون لأمهاتهم لا لآبائهم، الأعجب أن القوامة للمرأة على زوجها لا للرجل على زوجته، وعلى الزوج أن يتعهّد في عقد الزواج أن يكون مطيعا لزوجته في جميع الأمور..!
2ــ لميس الكبرى بنت نوف، أم أفريقيس بن ذي المنار. وقد ورد الاسم في أحد النقوش بنص: "وبحق إلههم الخاص حجر قحم سيد حصني تنع ولميس وسيد قصر أحرم" ذكر ذلك مطهر الإرياني في: نقوش مسندية وتعليقات، ص 51. ونقلها عن المؤرخ الفرح في الجديد 288/1. وفي الإكليل للهمداني قال أبو نصر وجد في ولاية محمد بن يوسف أخي الحجاج من عند عبد الملك بن مروان في بعض قبور الجاهلية باليمن كتاب على قبر جاهلي، فاستخرجت منه سفطا من ذهب، وفي السفط لوح من ذهب وعظام إنسان، واللوح بالمسند: هذه شمسة ولميس ابنتا تبع. متنا فإننا نشهد ألا لا إله إلا الله. فلما قرأ الحجاج الكتاب كتب إليه، ويقال إن الكتاب إلى عبدالملك بن مروان والجواب منه: أما بعد، فقد جاءني معنى كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، فإذا وصل إليك كتابي هذا فمر بالعظام أن تغسل، وصل عليها وادفنها، وادفع الكنز إلى بيت المال، ولا تعودن إلى ما صنعت. وأمير المؤمنين يشهد ألا إله إلا الله. والسلام. انظر: الإكليل 149/8.
3ــ الجديد، 288.
4ــ نساء حكمن اليمن، عفت وصال حمزة، دار ابن حزم، بيروت، ط:1، 1999م، 36.
5ــ كان للملوك التبابعة مجلس شورى مكونا من ثمانين قيلا، يسمون: المقاول، وإلى جانبهم ثمانية آخرون يسمون "الأذواء المثامنة" هم الذين يقيمون الملك وينصبونه، كم أن من حقهم عزله أيضا.
6ــ سفر الملوك الأول، الإصحاح التايع، الفقرات المقابلة. و "أوفير" المذكورة في الفقرة 11 هي المعافر من تعز، بحسب تفسيرات البعض.
7ــ إنجيل لوقا الإصحاح 11.
8ــ الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبأ وحمير، الفرح، 281/1.
9ــ انظر: نساء حكمن اليمن، سابق، 135 فما بعدها.
10ــ أروى بنت أحمد بن محمد بن جعفر بن موسى الصليحي، ولدت سنة 444هـ، وتزوجت بالأمير المكرم أحمد سنة 461هـ في وقت حكم أبيه الملك علي محمد الصليحي، وكانت قارئة كاتبة حكيمة، تحفظ الأشعار وتقرأ التاريخ، أقامت مع زوجها بصنعاء فترة بعد أن تولى الحكم، ثم أقنعته بالعودة إلى جبلة في إب عام 477هـ. وظل مترددا ثلاث سنوات حتى عاد بصورة نهائية عام 480هـ وقد استخلف على صنعاء ابن عمه الأمير سبأ بن أحمد بن المظفر الصليحي.
11ــ نساء حكمن اليمن، سابق، 169. وتعلق المؤلفة بأن انغماسه في اللهو والطرب كان في أواخر حياته حين مرض ولم يعد يقوى على تصريف أمور الدولة.
12ــ نفسه، 189. والكظائم قنوات المياه تحت الأرض، يتحكم الناس بتدفقها بواسطة غرف تفتيش خاصة يتم سدها بالكظيمة أو فتحها حسب الحاجة.