الجمعة 29-03-2024 14:26:49 م : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

صعود وسقوط المشروع العائلي في اليمن "الحلقة الأخيرة"

الثلاثاء 25 يوليو-تموز 2017 الساعة 10 مساءً / التجمع اليمني للاصلاح - خاص / فهد سلطان

"المشاريع الصغيرة لا تجلب إلا الخراب والدمار للأوطان, وعلى مدى عقود فإن الانتكاسات توالت على مختلف الأصعدة سياسياً واقتصادياً ومعيشياً وأمنياً وخدمياً, ولذلك خرج اليمنيون في مختلف المدن إلى ساحات فبراير 2011م ليستعيدوا أهداف الثورة اليمنية السبتمبرية والأكتوبرية, وليستعيدوا جمهوريتهم ووحدتهم وديمقراطيتهم وحريتهم, في ملحمة شعبية سلمية عظيمة"(1)


يمكن القول إن ثورة 11 فبراير الشبابية السلمية مثلت الضربة التي هوت بصنم التوريث في اليمن, ووضعت حداً فاصلاً له, وعملت على إعادة الاعتبار لثورة سبتمبر الخالدة التي كانت في عمقها الثوري "القضاء على الإمامة" الذي بدأ يطل بقرونه من جديد آخر حكم نظام صالح وما سيأتي بعده أثناء إسقاط العاصمة بيد المشروع الإمامي الظلامي 2014م.


وبالتالي: يمكن استخلاص أهداف تلك الثورة التي قُدمت فيها تضحيات جسيمة لشباب يمنيين خرجوا أفواجاً وجماعات - في ساحات الحرية - للمطالبة بحياة أفضل بعد أن شاهدوا بلدهم يتبدد وأحلامهم تطيش, ومشروع التوريث يسير نحو تقويض أركان الجمهورية للعودة بالبلاد الى عهد الإمامة البائد.


وفي ذكراها الثانية يجمل الكاتب ناصر يحيى أهداف الثورة الشبابية السلمية, حيث يبدأ أول تلك الأهداف "تحرير الوطن والشعب ومقوّماته الاقتصادية والعسكرية والمدنية من هيمنة الحُكم الفردي العائلي، ورد الأمر إلى الشعب", فهذا الهدف يراه الكاتب تصحيحاً لأخطاء خمسين عاماً من العثرات والاختلالات والضياع الحضاري، وبناء يمن جديد يقوم على العدالة، والحرية، والمواطنة المتساوية أمام القانون. (2)

 

الرئيس المخلوع تصله الرسالة في يومها الأول
مع تهاوي عدد من الأنظمة العربية في تونس ومصر أبان الربيع العربي وفي أسابيعه الأولى، كانت الرسالة قد وصلت للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح؛ فالاحتقان السياسي الذي كانت تعيشه البلاد يشتعل منذ سنوات, إلى جانب أن القوى السياسية - ذاتها - كانت قبل بروز مؤشرات الربيع قد أعلنت عن الهبة الشعبية وتصعيد الاحتجاجات, والتي كانت تستهدف إرغام النظام لتجميد التعديلات الدستورية والالتزام بمقررات الحوارات السياسية بين القوى الوطنية.


ومع انطلاق شرارة الثورة الشبابية الشعبية السلمية – الربيع اليمني2011م - في نداء واضح وصريح بإسقاط منظومة الحكم العائلي في البلاد, فقد توسعت الاحتجاجات من داخل جامعة صنعاء لكيانات طلابية يرافقهم نشطاء حقوقيون ينادي الجميع برحيل صالح من السلطة وإيقاف التوريث واسقاط الحكم العائلي.


وفي 27 يناير/ كانون الثاني 2011م، وفي أول رد على الاحتجاجات أعلن صالح أنه لن يرشح نفسه لفترة رئاسية جديدة كما كان مخططاً له, ولن يورث الحكم لابنه أحمد، والتي كانت خطوات ذلك الفعل تسير بخطى حثيثة, إلا أن ذلك الخطاب, لم يقدم خطوات عملية في هذا الاتجاه, وهو ما نُظر إليه على أنها مراوغة تنتمي الى نظام حكم عرف بهذا المسار طويلاً, إضافة إلى أنه استشعر المأزق باكراً محاولاً الالتفاف عليه كما هي العادة.

 

طبيعة النظام السياسي في اليمن
يجدر بنا أولاً أن نضع القارئ أما الصورة كاملة, فشعارات إسقاط النظام التي رفعها الثوار بوجه نظامه تعني أولاً التعرف على طبيعة النظام السياسي في البلاد ولو بأخذ إشارات سريعة, فنظام المخلوع مثلاً لم يترك مناسبة إلا وتحدث بإسهاب عن التجربة الديمقراطية الفريدة التي رعاها في اليمن ويشرف عليها بنفسه, في حين أن الحقيقة كانت تقول غير ذلك تماماً.


لقد مثل الرجل الدكتاتور المستبد المثال الواضح فيما يزيف كل شيء من حوله بما فيها القيم السياسية التي أورثت لعدد من الشعوب الاستقرار والازدهار ، وكان ذلك كله من أجل البقاء مدة أطول في السلطة وتوريث الحكم من بعده لنجله في انقلاب واضح على أركان الجمهورية ومبادئها.


ولنتأمل هنا فيما ذكره أحد الباحثين بقوله إن "التجربة السياسية الفعلية أظهرت أن النظام الديمقراطي في اليمن لم يوجد بشكل حقيقي، وما حدث هو استمرار لنظام غير ديمقراطي تم فيه استخدام بعض أشكال النظام الديمقراطي، كالانتخابات وإنشاء أحزاب متعددة وقيام مؤسسات تشريعية وبلدية تبدو في الظاهر وكأنها مؤسسات ناتجة عن عملية ديمقراطية.


ويضيف: "وليس من المبالغة القول أن النظام السياسي في اليمن يتمحور حول منصب رئيس الجمهورية، حيث يتمتع الرئيس بسلطات شبه مطلقة في إدارة الدولة والتحكم بجميع القضايا والشؤون العامة في الدولة. فالرئيس في ذلك يستند إلى سلطات خولها له الدستور وسلطات فعلية يمارسها بالتجاوز عن الدستور والقوانين النافذة".(3)


وهنا يجدر بنا التأمل في شكل الصلاحيات المطلقة لشخص الرئيس من داخل الدستور إلى جانب صلاحيات يمارسها بشكل أوسع من خارجه كانت جميعها تسير نحو تقويض الجمهورية فعلياً وكل ما يتصل بها, إلى جانب الالتفاف الواضح والمستمر على العملية الديمقراطية والتي أقرت في دستور عام 90م أبان قيام الوحدة اليمنية المباركة بين شطري اليمن شماله وجنوبه.


ويشير المودع هنا في دراسته المشار إليها سابقاً بالقول أن "على عبدالله صالح اعتمد على نظام من المحسوبية يقوم على أساس تعيين الأقارب في الوظائف الحساسة أمنياً وعسكرياً؛ فمعظم المناصب العسكرية والأمنية الرئيسية يشغلها أقارب الرئيس. وخلال حكمه المديد توسع نظام المحسوبية هذا بشكل كبير ليطال الوظائف الأقل أهمية، حيث نجد أقارب الرئيس في عام2010 قد أصبحوا يشغلون عدداً كبيراً من المناصب الحكومية والاقتصادية. وبهذا النظام، ومن خلاله، تمكن الرئيس من إحكام سيطرته المباشرة على جميع مفاصل الدولة، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه بحيث أصبح الأقارب المعينون في المناصب العسكرية والأمنية وغيرها يمارسون سلطات واسعة داخل الدولة تتجاوز المهام التي يشغلونها".(4)


هذه الصورة المفزعة التي كانت من الوضوح ما لا يحتاج إلى دليل, في التأكيد على هيمنة النظام العائلي على مفاضل الدولة.. مثلت الدافع الأبرز لشباب الثورة السلمية في الخروج والتحدي, وإعلان النفير العام عبر توسيع دائرة الاعتصامات في ساحات الحرية, لقصد إسقاط النظام الذي لم يعد يمثل الجمهورية ولا يعبر عن إرادة الشعب, وبات يهدد أركان الدولة التي دافع من أجلها المناضلون على مدى عقود طويلة منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وحتى اليوم.

 

جمعة الكرامة "النظام العائلي" يتهاوى
تركزت المطالب الشعبية العارمة في ساحات التغير بتنحية جميع أقارب الرئيس فوراً من المناصب القيادية بالمؤسسة العسكرية والأمنية والحكومية, والبداية لعدد 22 شخصاً من أبنائه وأقاربه, ومن سكان قريته سنحان, والذين يتربعون في مراكز قيادية مهمة في الجيش والأمن منها على سبيل المثال لا الحصر وصلوا الى هذه المناصب عبر الولاء والقرابة وليس عبر الخبرة والتنافس الشريف.


فالحرس الخاص، والحرس الجمهوري، والقوات الجوية والبحرية والبرية، وحرس الحدود إلى جانب الأمن المركزي والأمن القومي وقيادة المعسكرات والمناصب الإدارية وعدد من الشركات في الداخل والخارج، جميعها كانت محتكرة لمقربين من صالح ويمسكون بها في ولائهم لمشروعه العائلي الأسري فقط.


فمن بين تلك الشخصيات العائلية ابنه الأكبر أحمد في قيادة الحرس الجمهوري، وطارق محمد عبدالله صالح قائد القوات الخاصة، ويحيى محمد في منصب رئيس أركان قوات الأمن المركزي، وعمار محمد نائب رئيس وكالة جهاز الأمن القومي [بينما هو الرئيس الفعلي]، إضافة إلى ابن أخيه توفيق صالح في منصب مدير شركة التبغ والكبريت الوطنية، وأخوه محمد صالح قائدا للقوات الجوية.


هذه المطالب - العادلة - رفض النظام التعاطي معها بإيجابية, وراح يراوغ رغم اعترافه صراحة بأنه لن يورث السلطة في خطابه المشار إليه سلفاً, في حين أن الجميع يدرك جيداً أن العائلة التي تمسك بمفاصل الدولة كانت لحماية النظام السياسي ولسهولة عبور التوريث بشكل آمن, وأن الإقالة الفورية كانت كافية لإيقاف مد التصعيد من قبل الشارع اليمني المحتقن, فنفس التجربة مثلاً جرت في المغرب وتم تنفيذ المطالب بشكل مبكر وتجاوز النظام هناك والمعارضة الدخول في مواجهة مفتوحة.


كان الدكتاتور صالح يشعر أنه قد أعطى فرصة كافية، وقد استمع للمطالب ولا أحد يرغمه على تنفيذها، وعلى الاحتجاجات الشعبية أن تتوقف فوراً, بل وعلى الجميع أن يصغي لما سيقوله وسيقرره في مصير البلاد.


فقد كان يدور في مخيلته - وفق خطاب له بتاريخ 27 يناير/ كانون الثاني 2011م، أي بعد انطلاق الاحتجاجات بـ 12 يوم فقط- أن "اليمن ليست تونس"، وبالتالي أملك طرق وأساليب أستطيع أن أوقف بها هذه الاحتجاجات؛ فالجيش العائلي يختلف عن الجيش الوطني هناك, والتسامح والحياد هناك لا مكان له هنا في اليمن!


لقد كان خطاب صالح إشارة تهديد واضحة, إلى جانب شعور أن اليمن محصن من أي انتقال لعدوى الهبات الشعبية ضد الانظمة الاستبدادية. لقد كان الرجل يعيش في سبات عميق؛ أن مملكته أقوى على الصمود، وأنه من خلال عدد من الوعود يمكن أن يمسح على أفواه الناس ويستمر في ضلاله القديم في الحكم إلى ما شاء الله, بل إن تمرير التعديلات الدستورية وكسر إرادة المعارضة ووضع حد لتجربة انتخابات 2006م يجب أن تتم!


غير أنه وبعد 62 يوماً من توسع الاحتجاجات وفشل كل أجهزته في إيقاف مد الثورة العارم الذي يكتسح الساحات والمحافظات, وأن الوعود التي قطعها لم تنفذ كما أنها لم تقنع الناس المطالبين برحيله, عاد إلى أسلوبه المعتاد, عبر المواجهة الدموية للمتظاهرين السلميين فيما عرف بجمعة الكرامة بتاريخ 18مارس/ آذار من نفس العام, والتي قتل على أثرها 45 شخصاً وإصابة 200 على الأقل بينهم أطفال وكبار سن, وهي الخطوة التي ستعصف بنظام حكمه في المقام الأول وستطوي ملف التوريث إلى الأبد.


لقد دفع النظام بوحشيته في "جمعة الكرامة " العشرات من المسؤولين الحكوميين والدبلوماسيين إلى الانشقاق عنه والانضمام إلى جانب المعتصمين السلميين. لقد كانت تلك المذبحة المفجعة، وعدد القتلى الكثير الذين وقعوا فيها رمزاً لرد الفعل الغاشم على الانتفاضة اليمنية، والتي قام فيها عناصر من الأمن المركزي والحرس الجمهوري والخاص بقتل ما لا يقل عن 270 متظاهراً وإصابة آلاف غيرهم على مدار 12 شهراً قبل أن يخلع صالح عن السلطة. فيما بعد أطلق المتظاهرون على موقع الهجوم اسم جولة الشهداء وحولوه إلى ما يشبه المزار، تحفه صور القتلى.(5)

 

قرارات تعصف بالعائلة
ومع ترنح نظام صالح - بعد مذبحة الكرامة - واستمرار شباب الثورة في الساحات في إصرارهم على تنفيذ مطالبهم, ومراوغة صالح طويلاً وخسارته أخلاقياً وقانونياً في الداخل والخارج لم يجد بداً من الرحيل, وتسليم السلطة خلعاً, بعيداً عن الطريقة التي غادر بها, وهو ما جعله يكن الغدر والحقد على الشعب اليمني، كما سيظهر بعد ذلك من تحالفه مع أحفاد الإمامة، وتسليم معسكرات الدولة وكل ما يتصل به من إرث لثلاثة وثلاثين عاماً من نظامه لهم للانقلاب على كل شيء.
غادر السلطة وفي حقيقة نفسه إما أن أعود أو سأفسد كل شيء, وبما أنه لا يزال يمسك بكل مفاصل الدولة فمن السهولة عليه العبث، وهو ما كان بالضبط, فقد رفض إبعاد العائلة من شبكة المؤسسات, وتبين له أن إبعادهم سيعني مباشرة انتهاء حقيقي لنظامه.


ورغم المحاولات اليائسة من قبل صالح سواء عبر الصمود أكثر, ومحاولة جر الثورة الى مربع العنف في تكرار لتجربة سوريا وليبيا ليسهل القضاء عليها والتحكم في مسارها, إلا أن ضغط الثورة أضعف نظامه، وبات كل يوم يمر ينحت من بقائه في السلطة ويطوي صفحة العائلة والتي أصبحت شكلية، حتى عصفت بهم قرارات جمهورية من قبل الرئيس المنتخب الجديد.

 

يمكن إجمال ما سبق على النحو التالي:
أولاً: شكل مشروع التوريث نفسه بداية الانهيار لنظام صالح العائلي تماماً كما حدث مع الإمام أحمد حين تم إقناعه بأن يعهد لابنه البدر بولاية العهد رغم معرفة الجميع بمن فيهم الإمام نفسه عدم صلاحيته للحكم.


ثانياً: شكل توحد أحزاب المعارضة للمرة الأولى في تاريخها في تكتل أحزاب المشترك بداية العمل السياسي الجاد لمواجهة تسلط النظام ووقف مشروع التوريث الذي كان قد قطع شوطا لا بأس به.


ثالثاً: مثل تغلغل التيار الإمامي في مفاصل وأجهزة السلطة بما فيها حزب صالح وعمله الدؤوب (من خلال مجلس حكماء آل البيت) لاستعادة الحكم الامامي كحق مقدس لا يمكنهم التنازل عنه أحد عوامل فشل مشروع صالح للتوريث.


فهم رغم استفادتهم الكبيرة من صالح ونظامه في تعزيز مراكزهم ومد نفوذهم بشكل واسع داخل مؤسسات الدولة، إلا أنهم مع ذلك لم يكونوا يعتبرونه حاكماُ شرعياً وفقاً لتقاليد المذهب الهادوي الذي يحصر الإمامة في البِطنين، ولذلك رفض بدر الدين الحوثي - في مقابلة مع صحيفة الوسط_- الاعتراف بعلي صالح كرئيس شرعي واعتبره مجرد محتسب(6).


رابعاً: مثلت ثورة 11 فبراير نهاية المطاف بالنسبة لحكم علي صالح ومشروعه في التوريث، إلا أن ممانعته الشديدة، ورفضه تسليم السلطة، والخروج منها بسلام، وترك الشعب يقرر مصيره، بل وقيادة ثورة مضادة في محاولة يائسة للعودة إلى الحكم واستجلاب إيران إلى اليمن والتحالف معها ومع وكلائها الحوثيين الطامحين بعودة الإمامة؛ كل ذلك قاد تالياً إلى تشكل تحالف عربي بقيادة السعودية وانطلاق - عاصفة الحزم - التي يمكن القول أنها بالفعل أنهت وإلى غير رجعة مشروع صالح في التوريث، وجعلت منه مجرد سطور ستتلى على أجيال اليمن القادمة في كتب التاريخ.


......
هوامش
(1) كلمة مكتوبة 2013م للرئيس عبده ربه منصور هادي بثت في الذكرى 51 لثورة 26سبتمبر.
(2) مقالة نشرت في فبراير/ شباط 2013م بموقع "المصدر أولاين" في الذكرى الثانية لثورة التغيير السلمية.
(3) من دراسة معمقة للباحث السياسي اليمني عبدالناصر المودع تعود الى عام 2009م تقريباً وأعيد نشرها في مدونته في اكتوبر/ تشرين أول 2014م
(4) نفس المصدر.
(5) الموسوعة الحرة
(6) وفقا لتقاليد المذهب الهادوي؛ حين يتولى الحكم رجل من غير البطنين لا يسمى إماماً بل محتسباً؛ كونه غير شرعي من وجهه نظرهم وبالتالي تقتصر مهمته في الاحتساب إلى أن يأتي الإمام الشرعي من آل البيت بحسب زعمهم.