الثلاثاء 19-03-2024 13:31:00 م : 9 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار
الحج باتجاه مساقط النور
بقلم/ جمال أنعم
نشر منذ: 4 سنوات و 7 أشهر و 10 أيام
الخميس 08 أغسطس-آب 2019 03:19 م

الحجُّ رحلةُ عُمرٍ مُنْتَظَرَةٍ، يَنْفَتِحُ سبيلُها في النفوسِ منذُ البواكيرِ تَوْقاً وتطلعاً, شجَناً وحنيناً, لهفةً ولوعةً، اشتياقاً جارفاً, وغراماً وهياماً وصباباتٍ لا تعرف الانطفاء.
الحجُّ عودٌ على بدْء, سَفَرٌ إلى موطن الانبعاث باتجاه الجذورِوالأصولِ, لتعزيز التجذر وتأكيدِ الصلة والتواصل. رحلة الى حيثُ تأسس الوجودُ وتَعَيّنَ السَّبيلُ، وتحدَّدَتِ الوِجْهَةُ وتأكدتِ الهوية، وامتازتِ الذاتُ المُسْلِمَةُ, حيثُ ارتفعَ البنيانُ, وتحددتْ صِبْغَةُ الإنسانِ, وأُعْلِنَ عن بزوغِهِ مفطوراً على الربانية، والحنيفية السمحاء "فِطْرَةَ اللهِ التيْ فَطَرَ الناسَ عليها". هناك حيث اكْتَسَبَ الصِّفَةَ والنَسَبَ والانْتِمَاءَ، والتسميةَ الأبديَّةَ الخالدةَ.

الحجُّ حلمٌ مستطاعٌ لمن مَلَكَ الحُبَّ الصادقَ, والرغبةَ الخالصةَ, والشغفَ المتأججْ.. رحلةٌ متأتيةٌ لمن أرادها بما يكفي من استعدادِ الروحِ قبل كلِّ شيء.

نُوْلَدُ مشدودينَ إلى الكعبةِ بعرى لا تنْفَصِمْ, تنْعَقِدُ عميقاً في العقل والقلب, تتملَّكُ الوجدان..

في الحجِّ.. نحنُ لا نرحلُ بعيداً. نحن نرحلُ داخلنا, نتجهُ صوبَ أقربِ نقطةٍ إلى أرواحنا. نَقْطَعُ المسافةَ داخلَ الروحِ, عبرَ المعالمِ الأكثر دلالةً على الوجودِ الحقِّ. نسافرُ باتجاهِ البيتِ الذي يسكننا ونسكنه. نَفِدُ على الكعبةِ التي تحتضِنُنا كل صلاة. نَفِدُ على مكةَ, مَهْبِطَ الوحيِ والرسالاتْ، نأوِيْ ونؤُوبُ إلى أشرف وأسمى المناطقِ قداسةً وطُهْراً، ودفئاً وحميميةً.. إلى أرحبِ بيتٍ يسع الإنسانية. حيثُ تتدفقُ ينابيعُ الحكمةِ والهدايةِ, وتنسابُ أنوارُ النبوة, وتُسْتَعادُ مواسمُ البِذارِ. أولُ الفصولِ الخُضْرِ مُذْ عانقَتِ الأرضَ السماء. هناك حيثُ يسردُ القرآنُ الكريمُ الروايةَ، ويحكيها الحجُ مشهداً إثرَ مشهدْ. هناك حيثُ ترى مكانك ومكانَتَك في تاريخِ الوَحدانيّةِ الممتدِّ, حيثُ تستعيدُ أحزانَكَ وأشجانَكَ وإيمانَكَ.. تقْصِدُ ربكَ, وتستقرِئُ دربَكَ, وتُجدِّدُ حبكَ.. تنبعثُ الذكرياتُ, وتنْثالُ المعانيْ داخلك.. ومن قلبِ المكانِ المسكونِ بروحِكَ ورائحَتِك, المَوَّارِ بالأسرارِ الإلهيةِ, المُشِعِّ بِوَهَجِ البدايات..ما إن يحتويك بيتُكَ الكبيرُ، أنت وأمتَكَ الكبيرةَ حتى يلوحَ أبو الأنبياءِ إبراهيمُ عليهِ السلامُ، "أبو الضِيفان"، في مشاهدَ حيةٍ متتاليةٍ يعكسها القرآنُ بتفاصيلها الدقيقةِ, في ذاتِ المكانِ الذي تقِفُ عليهِ لترى ابْنُ منْ أنتَ, وعلى أيِّ سِرٍ تَقِفُ, ومِنْ أيِّ سماءٍ تتَحَدَّرُ, وإلى أيِّ أنوارٍ تنتميْ, وبأيِّ وشيجةٍ تتصلُ, وعلى أي دربٍ تتعهدُ مواصلةَ السيرِ, ملبِّياً، حامداً لله، شاكراً، طائفاً، ساعِياً, راكعاً، ساجداً, ممجدا لله, مترسماً مقتفياً آثارَ الخُطَىْ الهادرةَ علىْ ذاتِ السبيلِ، مؤكداً حضورَكَ كشاهدٍ في مسيرةِ الإيمانِ والفداءِ والتضحيةِ, مسيرةِ التوحيدِ الإنسانيةِ الظافرة.
الحجُّ رحلةُ في عوالمِ الروحِ الفياضةِ بالرحماتِ, والسَّنَىْ القُدْسِيِّ الدَّفَّاقْ.. خَفْقُ أفئدةٍ تطيرُ مندفعةً بقوةِ الأشواقِ العاصفةِ, لتهوي من شجنٍ في الأعالي, منجذبةً بأشدِّ ما يكونُ الانجذابُ، إلى صدرِ فِردَوْسِها الحبيبْ, منغرسةً في التربة الأمِّ كي تواصل النماءَ والعطاءَ والتجدُدَ، مذ أسكن الخليل غراس روحه، داعيا: "ربنا إني أسكنْتُ من ذريتي بوادٍ غيرِ ذِيْ زرعٍ عندَ بيتِكَ المُحَرَّمِ، ربنا ليقيموا الصلاةَ فاجْعَلْ أفئدةً من الناسِ تهوي إليهم وارزقهم مِّن الثمراتِ لعلهم يشكرون".
ينشدُ أبونا إبراهيمُ الإنسانيةَ الخصبةَ, وَفْداً ورِفْداً للبَذرَةِ السماويةِ التي أسكنها الواديَ الجديْبَ، بكل ما تحمله "أَسْكَنْتُ" من معانيَ ودِلالات, تُجَافِي الوَحْشَةَ والإقامةَ العابرة.. كانتِ السكينةُ والطُّمأنينةُ تنبعثانِ من الجِوارِ عند بيتِكَ المُحَرَّمِ. وكانت الرسالةُ والمهمةُ الجليلةُ مقدمةً على طلبِ إعانتهم, وكان أنْ تَلاَزَمَ الخيرُ أبَدَ الآبِدِيْن.. "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة ،فأجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم ،وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " هنا تتكاثفُ دروسٌ كِثار وتَهْطُلُ أسرارٌ غِزَار.

يا الله.. طِرْ بِفُؤادِي إليكْ.. خُذْنِي مِنْ جَدْبِ وُجُوْدِيْ, مِنْ قَحْطِ أيَّامِي.. خُذْنِيْ من هَذَا القَيْضِ الَّلاهِبِ، من عطشِ الدربِ.. من ظمئي الممتد.. ارفعْ مكاني ومكانتي عندك.. أرِنِي وِجْهَتِي إليك.. اجعلنِي مُسلماً لكَ ومن ذرِّيَّتي.. إنك أنت التواب الرحيم.

خُذني من جسديْ المشدودِ إلى الترابْ.. اجْعلني في أفئدةٍ من الناسِ تهوي إليك حُباً وخصباً.. اجعلني مطراً يسَّاقَط في ذاتِ النهر.. أنبتني زرعاً يُحيِيِ الأرضَ ويورقُ في قلبِ الإنسانْ.. بَوِّئْنِي من هذا البيتِ, مكاناً يؤويني من ظُلمِ الإنسانِ ومنْ إثمِ الشيطانْ.. يسكُنُنُي في قلبِ المعنَى قريباً منكَ, وإليكَ، قريباً من آباءِ الدربِ الوضَّاءْ.. طَوِّفْ بي في كلِّ سماءٍ, تسطعُ فيها الروحُ, ويجْنَح فيها الإنسان..